نحو فهم جديد للإسرائيليات (بين الروايات الإسرائيلية والمنهج الإسرائيلي)
بقلم: التهامي مجوري
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
الحلقة الرابعة والأخيرة
وقد حاولنا اختصار منهجية أهل الكتاب وبني إسرائيل منهم بصفة خاصة، في محطات معينة كنماذج سلوكية في ثقافة بني إسرائيل ومنهجهم التي تميزوا بها وعُرفوا بها، وعوتبوا بسببها ووقع عليهم اللوم، رغم انهم أهل كتاب وأهل خبرة واسعة مع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ولكن ما صدر منهم أضحى معلما من معالم الانحراف الذي يليق بالأمم المنحطة والساقطة وليس المحبة للخير والمتفاعلة مع حركة التاريخ والعاملين على تثبيت القيم الخادمة للإنسان في ظل الرضوان الإلهي. والانحراف في المنهج يؤدي حتما إلى الانحراف الكلي والزيغ بالإنسان إلى حيث المعصية والاعتداء على الغير والبعد عن الحق والخير والصلاح، وهو ما وقع فيه بنو إسرائيل عبر التاريخ وإلى اليوم؛ بل وثُبِّت المنهج الذي هم عليه وبسببه كرهتهم البشرية كلها؛ بمن في ذلك النصارى بجميع مذاهبهم، وما يجري في العالم من مناصرة لهم وتأييد رغم انحرافهم البيّن، إنما هو بسبب الخوف من سطوتهم، لكونهم متحكمين في الكثير من المؤسسات بمواقع النفود المالي والأمني والسياسي، وإشاعة الفاحشة بين الشهوانين.
وما تميزت به منهجية بنو إسرائيل المنحرفة يمكن إيجاز نماذج منه فيما يلي:
أولا: البعد عن الصدق والوضوح والتمادي في التلاعب المراوغة كما صور لنا القرآن الكريم ذلك في قصة البقرة، التي قالوا فيها لنبيهم عليه الصلاة والسلام (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ ۚ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَٰلِكَ ۖ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا ۚ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَّا شِيَةَ فِيهَا ۚ قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ۚ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) [البقرة 68-71]. وهذه المراوغة وعدم الصدق في التجاوب مع اوامر الله وقد رأينا ذلك في اعتدائهم يوم السبت أيضا تحايلوا على أوامر الله بإلقاء شباكهم في البحر في اليوم الذي نهوا عن الصيد فيه، للإمساك بالأسماك في ذلك اليوم وإخراجها في اليوم الموالي.
وهذا التلاعب الذي لا يليق بمنهجية التعامل مع الوجود، فضلا عن التعامل مع الله، هو في نفس الوقت تضييقا على النفس فيما امر الله... فلو أنهم ذبحوا أي بقرة كما نُقِل عن أهل التفسيرلأجزأتهم، ولكن شددودا فشدد عليهم؛ إن طبيعة المنهج الذي جاءت به النبوات كلها وكذلك الخبرة التاريخية، أبعد ما تكون عن التشديد والتضييق والمراوغة، ولذلك اوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالرفق واليسر والتيسير بدل العسر والتعسير ووضع الأصر والأغلال التي كانت عليهم بسبب قبح مسالكم (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف 157]
وفي هذا المجال جاءت جملة من نصوص الوحي في رسالة الإسلام، تنبه إلى خطورة هذا المسلك الذي سلكه بنو إسرائيل وكما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله "شددوا فشدد الله عليهم"، وكذلك كره القيل والقال وكثرة السؤال وشر الناس من سعى إلى التشديد فشدد على الناس بسببه....
ثانيا: المادية الموضعية: إذ المعروف عن بني إسرائيل عبادتهم للمال وارتباطهم بالملموس المادي، وما يلاحظ عن المدارس العلمانية واللائكية والمدارسة المادية الحداثية عامة من جنوه للمادية والبعد عن القيم الأخلاقية والغيبية، له أصول في الثقافة اليهودية، وباستقراء الواقع نجد ان الكثير من العلماء المؤثرين في مدارس العلوم الإنسانية من اليهود، بمعنى ان الخلفية الثقافية للمنهجية اليهودية حاضرة في تلك المدارس، وقد أحسن المفكر السوداني الاستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد عندما وصف منهجية ثقافة بني إسرائل المادية "بالموضعية" وليس الوضعية؛ لأن الموضعية أعجز وأكثر قصور في إدراك الحقيقة من المدارسة الوضعية (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ) [البقرة 55]، (وَإِذۡ قُلۡتُمۡ يَٰمُوسَىٰ لَن نَّصۡبِرَ عَلَىٰ طَعَامٖ وَٰحِدٖ فَٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ يُخۡرِجۡ لَنَا مِمَّا تُنۢبِتُ ٱلۡأَرۡضُ مِنۢ بَقۡلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَاۖ قَالَ أَتَسۡتَبۡدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدۡنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيۡرٌۚ ٱهۡبِطُواْ مِصۡرٗا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلۡتُمۡۗ وَضُرِبَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلۡمَسۡكَنَةُ وَبَآءُو بِغَضَبٖ مِّنَ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَانُواْ يَكۡفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَيَقۡتُلُونَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعۡتَدُونَ) [البقرة 61]، تلك هي ثمار "الموضعية" وهي المنهجية الموصلة إلى استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، بسبب تعنتهم المفضي إلى الشهوة الفانية,
ثالثا: التخلي عن قياداتهم: الأصل في كل المجتمعات والشعوب أنها تنقاد إلى قياداتها إلا بنوا إسرائيل ومن سار على دربهم من الشعوب والمجتمعات المتخلفة بسبب الجهل والعجز والخوف من الأوهام (قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) [المائدة 24]. فبنو إسرائيل لم يتخلوا عن قياداتهم فحسب، وإنما تخلوا عن انبيائهم وقتلواهم...
رابعا: عدم التناهي عن المنكر: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ* تَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ) [المائدة 78-80]، وهذه طميمة أخرى وهي من سمات المجتمعات المتخلفة، التي لا تحرص على منع الإفساد ومحاربة اسبابه
خامسا: طول الأمد: تعبير عن الألفة والعادة التي يعتادها المنحرف عن المنهج الحق، فيبدو له مع طول المدة ان ذلك هو الصواب وهو الحق ومن ثم تقسو القلوب وتفسد الطابع (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد 16]، فيترتب عن ذلك الغفلة عن الشعور بالخطإ والمعصية، والابتعاد عن التوبة والاستغفار واكتشاف الخلل عموما.
سادسا: استبعادهم العلم والوحي الذي أوقعهم في الالتباس الذي أصابهم بسبب ما هم عليه من انحرافات وظلمات بعضها فوق بعض، فلم يعد ينفعهم ما يحفظون من نصوص ويتوارثون من أحكام وقيم صالحة في أصلها، ويحملونها كما يحملون الأثقال؛ لأنهم تنكبوا وابتعدوا عما حملوا من حقائق (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [الجمعة 5]، وكذلك يقع لكل من "يحمل المعرفة" ولا يوظفها في تفاعله مع الواقع، فلا يستفيد منها ولا يفيد، بسبب الغلفلة التي تصيبه... فهو يحمل علما ولكنه لا يوفق للعمل به بسبب معاصي متراكمة.
إن هذه النقاط الست ويوجد غيرها، ولكن اقتصرنا عليها كنموذج للتفريق بين المعاصي الجزئية التي قد يقع فيها المرء، ولكن سرعان ما ينتبه ويعود إلى ربه بالتوبة والاستغفار والإكثار من الطاعات التي تذهب السئات، وبين الانحراف في المنهج، الذي لا سبيل لإصلاحه واستقامة المرء إلا بتصحيح المسار، لأنه ليس مجرد معصية يمكن التوبة منها، وإنما هي خلل تندرج تحته عشرات وميئات المسائل الجزئية، التي تتطلب كل واحدة منها توبة واستغفار، قد لا يكفي معها استغفار العمر كله... فقوله تعالى (وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام 153] دعوة للتمسك بالمنهج؛ لأن هذا الصراط المستقيم، لا يمكن ان يكون إشارة إلى مسألة فقهية مثل وجوب كذا او استحبابه او كراهيته...، وذلك مطلوب ضمنا، وإنما يعني الالتزام بالخط العام والمنهج الذي تنضوي تحته تلك الواجبات والاستحبابات والكراهيات... وهو ما يفهم من فعل الرسول صلى الله عليهو سلم عندما خط خطا واحدا مستقيما وخط خطوطا أخرى عن يمينه ويساره وتلى الآية. فالخط المستقيم هو المسافة الأقرب إلى الحقيقة، وليس الخطوط المنحرفة هنا وهناك.
والله أعلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
* اقرأ سلسلة مقال: نحو فهم جديد للإسرائيليات (بين الروايات الإسرائيلية والمنهج الإسرائيلي) اضغط على كلمة الحلقة ...
- الحلقة الأولى
- الحلقة الثانية
- الحلقة الثالثة
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.