يقول الله عز وجل في مطلع سورة هود: {الَـر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}[سورة هود: 1]
فمجموع القرآن الكريم هو عبارة عن آيات أحكمت، ثم فصلت آيات، تَـم إحكامها، ثم وقع تفصيلها، وكل ذلك من لدن حكيم خبير، فهو الذي أحكم المـحْكمات بحكمته، وفصل المفصَّلات بخبرته.
وقد ذكر الله تعالى أن آيات القرآن منها آيات محكمات، وأنها هي عمدة الكتاب العزيز، وذلك في قوله سبحانه:{مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]
قال العلامة ابن عاشور:” صِنفُ المحكمات يتنزل من الكتاب منزلة أمِّه، أي أصْلِه ومرجعه الذي يُرجع إليه في فهم الكتاب ومقاصده”([1]). وقال أيضا: "فالمحكمات هي أصول الاعتقاد والتشريع والآداب والمواعظ))([2]).
فالآيات المحكمات هي أصول وأمهات لغيرها، مما يندرج فيها أو يتفرع عنها أو يخضع لها، من التفصيلات والجزئيات والتطبيقات. فمجمل الدين وشريعته مؤسَّس على هذه المحكمات الكليات ونابع منها.
والقرآن الكريم باعتباره الأصل الأول والمرجع الأعلى للإسلام وشريعته، لا بد وأن يكون هو مستودع هذه الكليات الأساسية ومنجمها، ولابد أن تكون هذه الكليات مقدمة في الترتيب والاعتبار، كما تشير إلى ذلك الآيتان من سورة هود، وسورة آل عمران (أحكمت.… ثم فصلت)، (منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات…).
بل حتى في التنزيل والتبليغ، جاءت الآيات المحكمة الكلية سابقة على آيات الأحكام التفصيلية، فالقرآن المكي بدأ يركز بالدرجة الأولى على الكليات والمبادئ والأحكام العامة. ثم بدأ يتطرق إلى بعض الأحكام العملية غير المفصلة، أواخر المرحلة المكية، وأما الأحكام التفصيلية والتطبيقية فقد تأخر نزول معظمها ـ أو كلها تقريبا ـ إلى المرحلة المدنية وإلى القرآن المدني، ثم جاءت بدرجة أكثر تفصيلا في السنة النبوية.
يقرر ذلك الإمامُ ابن تيمية ويوضحه من خلال هذا المثال: "وقد استدل كثير من المتأخرين من أصحابنا و غيرِهم على وجوب تطهير الثياب بقوله سبحانه {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}، حمْلاً لذلك على ظاهر اللغة التي يعرفونها؛ فإن الثياب هي الملابس، و تطهيرها بأن تصان عن النجاسة و تُجنَّبَها، بتقصيرها و تبعيدها منها، و بأن تماط عنها النجاسة إذا أصابتها. و قد نُـقل هذا عن بعض السلف، لكن جماهير السلف فسروا هذه الآية بأن المراد: زَكِّ نفسك و أصلح عملك. قالوا: و كَنَّى بطهارة الثياب عن طهارة صاحبها من الأرجاس و الآثام، و ذلك أن هذه الآية في أول سورة المدثر، و هي أول ما نزل من القرآن بعد أول سورة اقرأ. و لعل الصلاة لم تكن فرضت حينئذ، فضلا عن فرض الطهارة التي هي من توابع الصلاة. ثم هذه الطهارة من فروع الشريعة وتتماتها، فلا تفرض إلا بعد استقرار الأصول والقواعدِ كسائر فروع الشريعة، وإذ ذاك لم تكن قد فرضت الأصول و القواعد.
ثم إن الاهتمام في أول الأمر بجُمَل الشرائع و كلياتها دون الواحد من تفاصيلها و الجزءِ من جزئياتها هو المعروف من طريقة القرآن، و هو الواجب في الحكمة. ثم ثياب النبي صلى الله عليه وسلم لم تعرض لها نجاسة إلا أن تكون في الأحيان، فتخصيصها بالذكر دون طهارة البدن و غيره، مع قلة الحاجة و عدم الاختصاص بالحكم في غاية البعد. وإذا حُملت الآية على الطهارة من الرجس و الإثم و الكذب و الغدر و الخيانة و الفواحش، كانت قاعدة عظيمة من قواعد الشريعة"[3]
وقال الإمام الشاطبي مؤصِّلا ومفصِّلا: "اعلم أن القواعد الكلية هي الموضوعة أولا، والذي نزل بها القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، ثم تبعها أشياء بالمدينة، كملت بها تلك القواعد التي وضع أصلها بمكة، وكان أولها الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، ثم تبعه ما هو من الأصول العامة كالصلاة وإنفاق المال([4])وغيرِ ذلك، ونُهيَ عن كل ما هو كفر أو تابع للكفر، كالافتراءات التي افتروها من الذبح لغير الله وللشركاء الذين ادَّعوهم افتراء على الله، وسائر ما حرموه على أنفسهم، أو أوجبوه من غير أصل، مما يخدم أصل عبادة غير الله. وأُمر ـ مع ذلك ـ بمكارم الأخلاق كلها: كالعدل والإحسان، والوفاء بالعهد، و أخذ العفو، والإعراض عن الجاهل، والدفع بالتي هي أحسن، والخوف من الله وحده، والصبر والشكر، ونحوها، ونهي عن مساوئ الأخلاق من الفحشاء، والمنكر، والبغي، والقول بغير علم، والتطفيف في المكيال والميزان، والفساد في الأرض، والزنا، والقتل، والوأد، وغير ذلك مما كان سائرا في دين الجاهلية.
وإنما كانت الجزئيات المشروعات بمكة قليلة، والأصول الكلية في النزول والتشريع أكثر.”([5]).
فهكذا تسلسلت آيات القرآن وانبثقت أحكامه، وهكذا تأسست قواعد الشريعة وانبنت فروعها؛ بدأت بشهادة لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأن القرآن كلمة الله، ثم تقررت بقية الأصول الإيمانية، وفي مقدمها الإيمان بالبعث والنشور، والحساب والجزاء..
ثم تتابعت المعتقدات التكميلية لتوسع وتعمق من معرفة الناس بربهم وبالغاية من خلقهم وبالعوالم الظاهرة لهم أو المغيبة عنهم…
وبناء على ذلك وبجانبه جاءت الكليات التي تحدد القيم والمثل العليا والغايات والمقاصد العامة للحياة البشرية، مع التطرق أيضا إلى أمهات المفاسد وأصول الانحرافات التي تهدد الإنسان، من عقدية وفكرية ونفسية وسلوكية…
ثم جاءت بعد ذلك بعض الكليات والقواعد التشريعية والتنظيمية للعلاقات البشرية، الفردية والعائلية والجماعية.
وبعدها بدأ تنزيل بعض التوجيهات والتكاليف العملية لكن بصورة مبدئية تمهيدية، وكان هذا أواخر المرحلة المكية، بين يدي الانتقال إلى المرحلة المدنية التي شهدت غزارة في الأحكام التفصيلية والضوابط التطبيقية، مع الاستمرار في تأكيد بعض الكليات وتكميلها والتذكير بها.
فهذه هي الأصول والكليات التي أُحكمت، ثم فصلت، على النهج المشار إليه في قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 24].
ففي البدء كانت (الكلمة الطيبة)، أي العبارة الأساسية الكلية الجامعة. وعامة المفسرين على أن المقصود بها (لا إله إلا الله).ثم تلاها وخرج من رحمها ما يرسِّخ أصلها ويغذيه ويقوي رسوخه في القلوب والعقول والنفوس. ومن هذه وتلك تنبثق الأغصان والفروع والأوراق والثمار… "هكذا في دورة تشريعية معجزة، لا أجد لها تشبيها إلا تلك الدورة الفلكية أو دورة الزروع والثمار المعجزة في الخلقة، التي تظنها قد تقف فينقطع عطاؤها، فكلما طاف بك طائف من شك، أبصرتها تنطلق في دورة جديدة تبدد تلك الشكوك…”([6]).
وعموما يمكن القول: إن الكليات والمحكمات القرآنية قد تكفلت بإرساء الأساس الفلسفي المرجعي، الذي ينبثق منه التشريع الإسلامي، وأن الشريعة الإسلامية قد تفصلت فروعها وجزئياتها، بعدما تأصلت أصولها وكلياتها ( أحكمت…ثم فصلت).
ومما يجدر التنبيه عليه، كون هذه الأصول والكليات ليست على درجة واحدة، لا من حيث كليتها وعمومها، ولا من حيث رتبتها وأولويتها، بل بعضها أولى وأعلى، وبعضها دون ذلك، وبعضها أعم وأشمل، وبعضها دون ذلك. وقد يكون بعضها مندرجا في بعض، وبعضها متفرعا عن بعض. وكذلك يقال في الجزئيات، فمنها جزئيات كبرى تنطوي على غيرها، ومنها جزئيات صغرى تنطوي في غيرها. فالجزئيات الكبرى قد تكون بمثابة كليات لعدد كبير من الجزئيات الصغرى، المتفرعة عنها أو المتعلقة بها.
فإذا أخذنا على سبيل المثال قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90]، نجد فيه الأمر بقضيتين كليتين كبيرتين، هما ” العدل والإحسان ". إذ هما تشملان كل شيء وتدخلان في كل شيء، فما من مجال، وما من عمل قلبي أو حسي، إلا ويدخله العدل والإحسان، وما من قول يقوله الإنسان، إلا ويدخله العدل والإحسان، وهما مطلوبان ومأمور بهما في كل المجالات وفي كل الحالات وعلى كل الأحوال.
ثم نجد الأمر "بإيتاء ذي القربى”، وهي قضية جزئية، بدليل أنها داخلة في العدل والإحسان، فإيتاء ذي القربى هو جزء ـ أو جزئي ـ ضِمنَ العدل وضمن الإحسان، ولكن هذا الجزئي يمثل قضية كلية بالنسبة إلى ما ينبثق عنه ويندرج فيه، مثل بر الوالدين، وصلة الأرحام، والإنفاق الواجب أو المندوب على الأقارب المحتاجين، والوصية للأقربين غير الوارثين، وإعطاءِ غير الوارثين عند اقتسام التركة بين الورثة، وتقديم الهدايا للأقارب في مختلف المناسبات، ومواساتهم عند المحن والنكبات…
وفي الجهة الأخرى نجد في الآية النهي عن قضيتين كبيرتين هما "الفحشاء والمنكر”، وهما تجمعان كافة الشرور والمفاسد، ما ظهر منها وما بطن، في المعتقدات والعبادات والمعاملات، بين الأفراد والجماعات.
ثم نهت الآية عن "البغي”، وهو داخل في الفحشاء والمنكر، فهو مسألة جزئية لهما، ولكنه يمثل قضية كلية لما يندرج فيه من أنواع البغي وحالاته وأشكاله وجزئياته التي لا تنحصر.
وإذا أخذنا قوله تعالى {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] نجد فيه قضية كلية كبرى هي لزوم عبادة الله، مع إفراده وحده بهذه العبادة.
وتحت هذه القضية الكلية تندرج قضايا جزئية لها، تتمثل في العبادات والتكاليف العبادية، من صلاة وزكاة وصوم وحج وعمرة…
كما يدخل في جزئياتها كل ما تم إبطاله من أشكال العبادة والعبودية لغير الله ـ من بشر أو حجر، أو حي أو ميت ـ سواء كانت قلبية أو قولية أو فعلية.
ثم نجد أن هذه العبادات المطلوبة، أو تلك المحظورة، هي قضايا أو عناوين كلية لما تحتها وضمنها من أحكام تفصيلية، وقد يكون لبعض التفاصيل تفاصيل وفروع دونها… وهكذا.
ومن الأمثلة التوضيحية للكليات والجزئيات، واختلاف مراتبها في العموم والخصوص، ما يتضمنه هذا النص للإمام عز الدين بن عبد السلام: "وقد يقع في الأدلة ما يدل على التكليف إجمالًا، كالتبشير والإنذار إذا لم يتعلقا بفعل معين، كقوله تعالى {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [فاطر: 24]… فالبشارة تدل على الأمر من غير تعيين مأمور به، والنذارة تدل على النهي من غير تعيين مَنهي عنه.
ومن الأدلة ما يدل على الأمر بنوع من الفعل، أو النهي عن نوع من الفعل، ومنها ما ينتظم المأمورات بأسرها، أو المنهيات بأسرها، ومنها ما يدل على الجميع[7]…
فمن ذلك قوله تعالى {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، عام للتعاون على كل بر وتقوى، وعام للنهي عن التعاون على كل إثم وعدوان.
ومنه قوله {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] عام في جميع المستلذات، إلا ما استثني، ولا يجوز حمل الطيبات هنا على الحلال، إذ لا جواب فيه؛ فإنه لا يصح أن يقال: يسألونك ماذا أحل لهم، قل: أحلَّ لكم الحلال.”([8]).
هوامش
[1] التحرير والتنوير, عند الآية المذكورة من سورة آل عمران.
[2] نفسه.
[3] شرح العمدة في الفقه، 4÷404− 405
[4] ذكرت بعض هذه الأمور في القرآن المكي بصفة مبدئية تمهيدية , دون تفاصيل تطبيقية , ولذلك يعتبرها الشاطبي نوعا من الكليات والأصول العامة.
[5] الموافقات، في مباحث الإحكام والنسخ.
[6] الكلمة من تشبيه بديع للدكتور عابد محمد السفياني: ( الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية ) ص316/317
[7] أي المأمورات والمنهيات معا
[8] الإمام في بيان أدلة الأحكام , 276 ـ 277.