البحث

التفاصيل

إسماعيل هنية وميتة الرجال

الرابط المختصر :

إسماعيل هنية وميتة الرجال

بقلم: عصام تليمة

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

من أجل نعم الله على الإنسان، أن يعيش رجلا، ويموت رجلا، بما تعنيه الكلمة من قيمة، وليست الرجولة هنا بمعنى الذكورة، فإن القرآن الكريم فرق بين اللفظتين، من حيث المعنى، ومن حيث السياق، فالإشارة إلى الجنس يكون فيها اللفظ بالذكر والأنثى، وأحيانا يأتي بكلمة رجل، لكن من حيث المفهوم والصفات تأتي لفظة: الرجولة، بمعانٍ أخرى، ليس هنا مجال الحديث عنها، لكن فقط كان لا بد من التنويه إلى ما يمثله اللفظ من اللبس لدى شريحة كبيرة من الناس.

يقتل الشهيد ولا يموت

ومن يتأمل الميتة التي مات عليها الشهيد إسماعيل هنية (أبو العبد)، فهي بحق ميتة الرجال، كما يتمناها الرجال الحقيقيون، الرجال بالمعنى القرآني والإسلامي، والرجال بالمعنى العروبي، والمعنى الإنساني الراقي الكبير، فالرجل أمنيته وأمنية من يؤمن بما يؤمن به هي الشهادة، وهي الميتة بهذا الشرف العريض، وما من أحد يسير في هذا الطريق إلا وهو دائر بين إحدى أمنيتين: النصر، أو الشهادة، امتثالا لقوله تعالى: {قُلۡ هَلۡ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلَّآ إِحۡدَى ٱلۡحُسۡنَيَيۡنِۖ ‌وَنَحۡنُ ‌نَتَرَبَّصُ ‌بِكُمۡ أَن يُصِيبَكُمُ ٱللَّهُ بِعَذَابٖ مِّنۡ عِندِهِۦٓ أَوۡ بِأَيۡدِينَاۖ فَتَرَبَّصُوٓاْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ} (التوبة: 52).

وقد عبر القرآن الكريم تعبيرا دقيقا، فأثبت القتل للشهيد، وأنه يقتل كما يقتل الناس، لكن حاله ليس حال الموتى، فقال تعالى: {وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتَۢاۚ ‌بَلۡ ‌أَحۡيَآءٌ ‌عِندَ ‌رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ} (آل عمران: 169). فأثبت القرآن القتل للشهداء، لكنه نفى عنهم الموت، بل تمتد حياتهم بعد القتل، سواء في عالم البرزخ، أو في عالم الحياة بين الناس، فكم من شهيد لو مات ميتة عادية، ما ذكره سوى قليل من الناس، لكن الشهادة رفعت ذكره، وخلدت اسمه، وجعلته حيا دائم الذكر.

الجسد الممزق لا يهان

ربما آلم البعض مشهد وفاة إسماعيل هنية، والاستهداف بصاروخ، يمزق الجسد أشلاء، وهو ما نراه كل يوم على ثرى أرض غزة وفلسطين الحبيبة، وهي نظرة لا تسبر غور الأمور جيدا، فالتراث الإسلامي والعربي ينظر إلى جسد الإنسان بأن مصيره الفناء، وأن أي اعتداء على الجسد لا قيمة له، وأي محاولة من عدو الإنسان لإهانة الجسد لا تمثل إهانة، لأن الإهانة الحقيقية تكون للنفس، ولذا قال السلف: “جرح البدن يبرأ، وجرح النفس لا يبرأ”. فالاستشهاد هو نيل للعدو من جسد الإنسان، لا يمثل أي نكاية.

ولذا عندما حاولت هند بنت عتبة -ومعها كفار قريش- النكاية ببعض الصحابة، وعلى رأسهم حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، فقاموا بالتمثيل بالجثث، لأن ذلك كان من عادات الجاهلية؛ جاء الإسلام وحول هذا المشهد إلى مشهد آخر، بأن الجسد مهما كانت قيمته، فمصيره إلى دود المقابر يأكله، سواء دفن الجسد سليما، أم ممزقا، وهو ما تغير فهمه لدى المسلمين والعرب بعد أن رباهم الوحي تربية صحيحة، حتى قال أحدهم وهو يستشهد:

ولست أبالي حين أقتل مسلما … على أي شق كان لله مصرعي

وذلك ‌في ‌ذات ‌الإله ‌وإن ‌يشأ … يبارك على أوصال شلو ممزع

ولا يختص هذا الفهم لميتة الرجال بفئة معينة، بل نجده عند كبار أهل التصوف، بارزا واضحا، فقد كان من أوراد الشيخ أبي الحسن الشاذلي دعاءه: اللهم ارزقني العيشة الحسنة، والميتة الحسنة. في أحد خطاباته في حضور كبير للمتصوفة، وقف حسن البنا يردد هذا الدعاء، وقال: لقد سألت نفسي كثيرا، ماذا يقصد بالميتة الحسنة، أتدرون ما الميتة الحسنة التي قصدها؟ أن يفصل هذا عن هذا في سبيل الله، وأشار إلى رأسه وجسده.

ماذا نالت الرصاصات من الجسد؟

ماذا سينال العدو من أجساد الشهداء، أو جسد هنية الممزق بصاروخ، أو رصاص آثم؟! لا شيء يناله. تذكرت كلمات كتبها الشيخ الغزالي بعد مقتل حسن البنا، عن: ماذا نالت الرصاصات التي اخترقت جسده، وكأنه يقولها اليوم عن إسماعيل هنية، وكل شهيد يخترق جسده رصاص العدو المحتل. يقول الغزالي: “ماذا خرقت الرصاصات الأثيمة من بدن هذا الرجل؟ خرقت جسدا أضنته العبادة الخاشعة، وبراه طول القيام والسجود.. خرقت جسدا غبرته الأسفار المتواصلة في سبيل الله، وغضنت جبينه الرحلات المتلاحقة، طالما أصغى الملايين إليه فيها وهو يسوق الجماهير بصوته الرهيب إلى الله، وحشدهم ألوفا ألوفا في ساحة الإسلام! ماذا خرقت الرصاصات من جسد هذا الرجل! خرقت العفاف الأبي المستكبر على الشهوات، المستعلي على نزوات الشباب الجامحة”.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 * ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.


: الأوسمة



التالي
من وحي الهجرة النبوية المباركة
السابق
مسيرة حاشدة في عمان احتجاجًا على العدوان الإسرائيلي ورفع "نعش رمزي" للشهيد إسماعيل هنية

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع