تفكيك البنية الفكرية للإلحاد
بقلم: عطية عدلان
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
يتبنى الفكر الإلحادي المعاصر المفاهيم التالية: “نشأ الكون تلقائيًّا بأحداث عشوائية!. ظهرت الحياة ذاتيًّا من المادة بضربة حظ!. الفرق بين الحياة والموت فرق فيزيائي سيتوصل إليه العلم يومًا ما. الإنسان ليس سوى جسد مادي يفنى تماما بالموت وليس هناك حياة أخرى. وإذن فليس هناك حاجة إلى القول بوجود إله”؛ فما أعجب الإنسان إذْ لم يجحد وجود الله إلا بعد أن اطلع لأول مرة على أسرارٍ كَوْنِيّةٍ لا تقود إلا إلى إيمان وثيق عميق! وبحسب بول ديفيز: “هذه هي المرة الأولى التي تلحظ فيها العقول الشفرة الكونية… وكان من الممكن أن يستمر الكون لبلايين السنين محاطًا بالسريّة، لولا نبضة من المعرفة ظهرت على كوكب صغير، يدور حول نجم متوسط، يقع في مجرة عادية؛ بعد 13.7 بليون سنة من بدايته”؛ فما أظلم المخلوق وما أحلم الخالق!
رُوَيْدَكم فلستم سوى هاربين
أليس الإيمان بالإنسان بدلا من الإيمان بالله هو شكل من أشكال الدين وإن بدرجة أنْزَل؟ يتساءل بيغوفيتش ثم ينقل عن ماركس: “إنّ الأمل في الإنسانية المجردة للإنسان وهْمٌ لا يقل عن الوهم الدينيّ”، وهذا الوهم ميتافيزيقيٌّ بحت؛ إذْ ليس هناك وجودٌ فيزيائيٌّ لحقيقة مفادها أنّ الإنسان سيد الطبيعة، إنْ هي إلا فرية اختلقتها الحداثة لتسوغ بها انفصال الإنسان عن الله وانفصام الأرض عن السماء؛ فرارًا من الدين الذي لم يروا منه إلا النسخة المزيفة، وإيثارًا للدنيا التي أحبوا أن يعيشوها على وفق أهوائهم، حسبما عبر بوب (pope): “أيتها السعادة، أنت هدف وجودنا! مهما كان اسمك: خير، لذة، راحة، رضى… أصبح من الممكن إعطاء تحديد للأخلاق على أنها الحق في السعادة”، فالهروب من شبح الكنيسة، والفرار من قيود الدين، والرغبة في حياة يعيشها الإنسان سعيدًا بعيدًا عن التكليف هو القوة الدافعة لعجلة البحث العلميّ باتجاه الإلحاد.
اتَّئِدُوا فليستْ سوى خرافة
“عدم العلم ليس علمًا بالعدم” كلمةٌ قالها ابن تيمية في “درء التعارض”، ولم يكن يعلم يومها أنّه يدرأ بها كل ما تدعيه الفلسفة الإلحادية، هذه القاعدة الجوهرية تكشف عن ثغرة عميقة في حلقة التفكير العلميّ التي تفسر علاقة الخالق بالكون، فهم حين يفترضون خلق الكون بالصدفة العمياء، ثم ظهور الحياة فيه بطريقة عشوائية، لا يقدمون دليلًا على عدم وجود الخالق، وإنّما يحاولون أن يجدوا تفسيرًا غير تفسير النشأة؛ لئلا يقولوا بما يقول به الدين، فبحسب القاعدة الصارمة تلك تكون نظرياتهم مجرد إعلان بعدم علمهم بوجود إله خلق الكون والحياة، وعدم العلم ليس علمًا بالعدم.
لذلك تزايدت الشكوك طبقا لنظرية العلم التي طورها الفيلسوف النمساوي كارل بوبر حيث قال: “لا يمكن لأحد التأكد من صحة نظرية لمجرد أنّها تبدو عاملة… فما هي إلا خرافة علمية أن نعتقد إمكان تأمين معرفة أكيدة عن طريق معلومات نحصل عليها بالحواسّ، ومن الأقوال المأثورة لأينشتين قوله: “بقدر ما تشير الأرقام إلى حقيقة فإنّ قوانين الرياضيات غير مأمونة التأسيس”، أمّا باخيلاد فيصف الرياضيات الحديثة “كمن يضغط على دوّاسة البنزين وذراع النقل على الوضع الحيادي”، ويقول ريتشارد فاينمان، وهو أحد علماء الفيزياء الحاصلين على نوبل: “لا أحد يفهم النظرية الكمّية”، ويقول بلانك، وهو أحد علماء الغرب الذين لم يلحدوا: “يظهر الله للمتدينين في بداية تفكيرهم، أمّا عند علماء الطبيعة فيظهر في ختام تفكيرهم”، ويقول أينشتاين: “لا يوجد ما هو أكثر استعصاء على الفهم من أن يكون العالم مفهوما”، أما هنري أتلان فهو أكثر صراحة إذ يقول: “انقشعت ضلالات القرن العشرين؛ وجعلتنا نفهم أنّ الحقيقة العلمية هي مجرد زخرفة للحقيقة".
لا تقفزوا على المبادئ الراسخة
إذا كان فرنسيس بيكون قد وضع في الأورجانون قواعد المنهج التجريبيّ؛ فإنّ الذين جاؤوا بعده من فلاسفة العلوم قد انحرفوا انحرافًا لا يراد منه إلا وقوف العلم على الظواهر، دون الولوج إلى ما وراءها من دلالات غير محسوسة، وقد تَمَثَّلَ الانحراف الأكبر في التنكر للمبادئ العقلية الفطرية، كمبدأ العلية أو السبية، فهذا على سبيل المثال جون لوك ينكر وجود الأفكار والمبادئ الفطرية في ميدان العلم النظريّ، وميدان الأخلاق على السواء… ومن بعده ديفيد هيوم وجون ستيوارت مل، وما هذا إلا لكفّ المنهج العلميّ عن أيّ ترتيب دلاليّ يفضي إلى الإيمان بالله، وإنكار هذه المبادئ الفطرية الضرورية خطر كبير وخطأ جسيم، ومدعاة إلى عدم اليقين، يقول ابن تيمية: “إن كثيرًا من العلوم تكون ضرورية فطرية فإذا طلب المستدل أن يستدل عليها خفيت ووقع فيها شك… فلابد من الاعتراف بوجود تصورات وتصديقات بديهية؛ إذ لو كانت بأسرها كسبية لافتقر اكتسابها إلى تقدم تصورات وتصديقات أخرى، ولزم منه التسلسل أو الدور، وهما محالان”، وهذا عين ما ذهب إليه كانط في “نقد العقل المحض” فها هو يقرّ بوجود المبادئ: “يجب عليك -إذَنْ- مُرغَمًا بالضرورة ذاتها التي يلزمك بها هذا الأُفهوم أن تُقِرَّ بأنّ مَقَرَّ هذا الأفهوم القَبْلِيّ -أي المفهوم الأولي الذي يسبق التجربة- هو في قدرتك المعرفية”، وهو ذاته ما أقره كارل بوبر عندما قال: “إنّ الإدراك الحسي هو معرفة مباشرة نستطيع بواسطتها تبرير معرفتنا غير المباشرة”، ويقرر برتراند رسل أنّ إنكار السببية يؤدي إلى نتائج ميتة.
ها هو العلم يرتدّ عليكم!
بصدد الردّ -فقط- على نظرية داروين؛ تقول مجلة ريدرز دايجست: “لقد ثبت بالدليل القاطع أن كل جزء من أحفورة إنسان (بيلتداون) قد تم تزويره!”، ويقول هيربرت نيلسون: “إنّ الحقائق التي توفرها لنا الأحافير لا تتيح لنا أن نرسم ولو رسما كاريكاتوريا عن التطور… إن الفجوات حقيقية وواضحة ولا يمكن سدها”، ويقول فريد هويل: “المشكلة التي يواجها علم الأحياء هي الوصول إلى بداية بسيطة، بقايا الأحافير لأشكال الحياة القديمة التي وجدت في الجبال لا تكشف عن بداية بسيطة؛ لذا فإنّ نظرية التطور تفتقر إلى الأساس الأول اللازم لتقوم عليه”، والأمثلة كثيرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.