المسيح
أم الخراف الضالة..؟
كتب:
أ. د. إبراهيم أبو محمد
علمتنا قوانين
الكون أنه من الغباء والحمق أن يرتكب الإنسان مخالفة ويكررها ثم يظن أنه يفلت من
العقاب، قد تطول أو تقصر مدة الإمهال، لعل الجاني يكف، أو يعود فيعتذر، أو يعترف
فيعاقب بتخفيف ورحمة، ولكن تلك الحالة حتى وإن تحولت إلى ظاهرة تتكرر لا يمكن أن
تؤول إلى إهمال يهدم قواعد العدل الإلهي ويعطل سنن الحياة.
علمتنا مسيرة
التاريخ الإنساني أن الحضارة لا تسقط بهزيمة الجيوش في ميادين القتال. موت الحضارة
عادة ما يكون مسبوقا بانهيار الأخلاق وامتهان القيم الأساسية والسخرية من رموز
الشرف والصدق، وسقوط كل قواعد العدالة والنبل.
البيئة الحاضنة
لكل هذه المدمرات هي بيئة سيطرت فيها المادة وسادت فيها المتعة الممنوعة، وسقطت
فيها الحدود الفاصلة بين الحق والباطل، والنور والظلام، والصدق والكذب، والشرف
والدعارة، وإنسانية الإنسان ونوازع الوحش فيه.
منذ ما قبل
طوفان الأقصى والغرب يعمل على تقوية الأقوى وإضعاف الأضعف، وما بعد طوفان الأقصى
كان الغرب بدوله الكبرى؛ أمريكا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا.. الكل فتح
مخازن سلاحه لتأخذ إسرائيل ما شاءت بالإضافة إلى المشاركة اللوجستية لكل هذه الدول
ضد شعب أعزل، حتى تمت عمليات ذبح الأطفال والإبادة الجماعية بأيدي الجنود
الإسرائيليين وأسلحة الغرب ذاته.
والدفع بهذه
الآفات والتطبيع معها وتعويد العين على رؤيتها ومحاولات فرضها قسرا على الناس.
كل ذلك يعجل
بسقوط الحضارات، ويحول بين جهاز المناعة فيها وبين المقاومة، الأمر الذي يجعل
الوافد الجديد بما يحمله من شرور وحقد وهمجية ينتشر كالنار، ويسود وكأنه الأصل
الأصيل، ومن ثم فلا اعتراض على إهانة ما يجب أن يصان، ولا غضب من تجاوز كل الخطوط
التي كانت حمراء، ولو كانت تتصل مباشرة بالسخرية وإهانة حواريين اختاروا أن يكونوا
حول رسول طاهر وشريف؛ يحمل رسالة تحمي فطرة الإنسانية في الإنسان وتبقي على طهارة
قلبه وروحه في صلتها بالعالم الأعلى دون تلوث أو رجاسات.
رسالة سيدنا
المسيح عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم ما جاءت لتنقض الناموس الكوني، وإنما هي
قبس من رحمة الله بخلقه، ومن ثم فهي تشكل وسيلة إغاثة وإنقاذ لبشرية فقدت بوصلتها
وغاب وعيها حين سادت وسيطرت شهوات الحياة عليها وحولتها من آدمية مكرمة إلى مجرد
خراف ضالة، فجاء المسيح مخلصا ومنقذا برسالة رحمة ومحبة ليردها إلى أصلها الإنساني
فكانت بعثته لهداية خراف بيت إسرائيل الضالة: "لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى
خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّة" (مت 24-15).
ما تم هنا في
باريس من سخرية وإهانة للمقدسات في احتفال الأولمبياد، وما تم وما زال يحدث في غزة
وعلى مرأى ومسمع العالم كله؛ إنما هو سحق لآدمية الإنسان وتحويله إلى عبد قنين
يطوف حول كعبة جديدة تحفها أصنام شتى من الجنس والمتعة الحسية، والإحساس بشعور
القطيع الهائم في محيط من الخدر الذي يغيب معه كل دوافع الوعي ليصبح الإنسان مسخا
جديدا لا إرادة له ولا اختيار، ومن ثم يسهل قياده والسيطرة عليه سيطرة كاملة.
الفاعل الجاهز
يدرك أن الشهوات كالنار كلما أوقدتها اشتعلت وقالت هل من مزيد؟ والضحية مسلوب
العقل مسلوب الإرادة، وحينئذ يخرج به الفاعل الجاهز من نطاق المألوف والمتعارف
عليه إلى نطاق الشذوذ المنافي للعقل والفطرة وكرامة الإنسان.
الفاعل الجاهز
هنا هو الجاني الأول، لكن قادة الحضارة لا يجرّمون فعله، بل يتبنون فكرته ومخططه
ويفتحون له كل الأبواب المغلقة ليمارس دوره في الغواية والسقوط، ليس على مستوى
الفرد فقط، وإنما على مستوى العقل الجمعي للبشر جميعا، ويتاح له في باريس أن يسخر
ويهزأ بأعلى قيم المجتمع قداسة وحصانة ورعاية، كما يهدم بنيان الله ممثلا في إبادة
البشر في غزة وفلسطين.
الواقع يخبرنا
في تفاصيله أن هنالك من يقاوم، لكن صوته وسط ضجيج الباطل غير مسموع، ورأيه وسط
البيئة التي باعت قيمها غير مرفوع، وكأن المقصود أن هنالك ساعة صفر محددة لا بد أن
تسقط فيها البشرية كلها ليفرض الفاعل الجاهز خططه وسيطرته، ويعلن بوضوح أن كل قيم
الحق والعدل والكرامة والحرية والصدق والشرف قد ماتت؛ لأن من فرضها وجعلها ميزانا
ومعيارا للإنسانية قد مات هو الآخر، بل إنه لم يمت فقط، وإنما نحن الذين قتلناه.
وهكذا يدعي نيتشه صاحب هذه الفلسفة والذي مات مجنونا!
الوجه المقزز لم
يظهر فقط في احتفالات الأولمبياد بمدينة النور باريس، وإنما كانت له تجليات أخرى
في غزة حين رأى العالم كيف تباد الطفولة وتمزق أجسادها، وكيف تمتهن المرأة التي
صدع الغرب رؤوسنا بحقوقها وتمكينها، وكيف تسحق آدمية الإنسان وتنفجر فيه الصواعق
حين ينزح من مكان ليواجَه بوابل من قذائف الدبابات وصواريخ الطائرات ومدافع الجنود
المدججين بكل أدوات القتل والتدمير، كان هذا هو التجلي الأعظم قبل إهانة المسيح
عليه السلام والسخرية منه ومن حوارييه في حفل باريس.
الفاعل هنا في
غزة هو نفسه الفاعل هناك في باريس، والدور هو هو، غير أنه في باريس استعمل الشفاه
الحمر والخصر الرقيق والعيون الباسمة، فكانت وسائل تنفيذ الفعل معتمدة على القوى
الناعمة، بينما في غزة اقتضى الموقف أن تستخدم كل أدوات الموت جوعا أو عطشا أو
هدما وتهجيرا أو تمزيقا للأجساد؛ ولو لجأت لمبان ومؤسسات دولية كالأونروا مثلا.
هذا التجلي
لقدرة الفاعل الجاهز وفجوره صاحبه سكوت وصمت يشبه صمت المقابر، ولم يواجه باعتراض
أو لوم، هنا انكشفت سوأة الحضارة وتعرت وظهرت عورتها. بعدها أراد الفاعل الجاهز أن
يوجه سهام سخريته إلى أعلى قيمة إنسانية ممثلة في شخص المسيح عليه السلام، وليحطم
ما تبقى للناس من قداسة وليخلع من صدورهم كل تقدير لشرف وصدق حوارييه رضي الله
عنهم.
الحدثان يرتبطان
ببعضهما ارتباط المقدمة بالخاتمة توثيقا وتصديقا، والغائب هو المفعول به من بني
الإنسان الذي يفضل أن يكون مخدرا يتنازل عن إنسانيته ليساق من نصفه الأسفل -أي من
شهواته وملذاته- وإن رأى بأم عينيه من يركبونه ويحملون عليه أمتعتهم وصناديق
مصالحهم.
والسؤال المعضلة
هو: بعد كل تلك الجهود من سيدنا المسيح وحوارييه الكرام وأتباعه الشرفاء في كل
أنحاء الدنيا؛ من سينتصر؟ ذلكم النبي الكريم ورجاله الشرفاء، أم ستنتصر الخراف
الضالة التي ظلت تلعب مع البشر وتخادعهم، ثم انتقلت لتلعب بعقول البشر، ثم انتقلت
لتلعب في داخل فطرة البشر وتحطم ثوابت قيمهم وتلوث أرواحهم وتدفعهم إلى كل رجاسة
بوقاحة منقطعة النظير؟
باختصار شديد،
براءة لفرنسا عاصمة الثقافة والأزمات، وتهنئة لباريس بموقعها الجديد كعاصمة للتحرر
من كل قيم الشرف والأخلاق والإنسانية السوية.
وأخيرا: هل حان
لرهبان الصمت أن يتكلموا..؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أ. د. إبراهيم
محمد سالم أبو محمد؛ مفتي أستراليا. عضو مجلس الأمناء ورئيس لجنة الأقليات المسلمة
والقضايا الإنسانية في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
* ملحوظة: جميع
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي
لعلماء المسلمين.