البحث

التفاصيل

طوفان الأقصى.. وقواعد التغيير

الرابط المختصر :

طوفان الأقصى.. وقواعد التغيير

بقلم: التهامي مجوري

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

لقد قدر لطوفان الأقصى ان يكون طوفانا على يد حركات المقاومة الفلسطينية المسلحة، رغم ان المقاومة المسلحة في حركات التغيير والإصلاح، هي آخر وسيلة يُلْجأ إليها في العادة، وذلك يعني أن هذا الخيار كان نتيجة فشل الوسائل السياسية الأخرى، سواء بسبب تعنت العدو أو بسبب تخاذل الصديق فالنتيجة واحدة، وكما قيل قديما "آخر الدواء الكي"، ومع ذلك فإن المقاومة المسلحة، على شدتها وصعوبة مسالكها، تبقى الحل الأمثل للحالات المستعصية على الحلول السلمية كما هو الحال مع القضية الفلسطينية، وينطبق عليها من مناهج ووسائل التغيير ما ينطبق على غيرها، مع فارق في أدوات التحرك السلمي وادوات المقاومة المسلحة.

وأولى شروط حركة التغيير والمقاومة مهما تعددت اسماؤها وتنوعت ثلاثة هي: الإرادة، والوسائل، والهدف.

وهذه الشروط الثلاثة قد حققتها المقاومة في فلسطين في مسيرتها الطويلة، لتصل بها إلى عملية طوفان الأقصى التي هزت العالم اليوم، والتي تمثل بداية جديدة في حركة الإصلاح والمقاومة والتغيير؛ بل إنها بداية جديدة في مرحلة صحزو ضمير في أوساط الشعوب الغربية خاصة.

فالإرادة في وسط شعب أعزل محتل، ومحروم من بلده؛ بل وبعضه محروم من دخولها، تحصيل حاصل، ومن المسلمات التي لا تناقش، ولكن في ظل هذه الصراعات الدولية والتكالب العالمي على إرضاء المحتل الصهيوني، جعل من الكثير يتساقطون تحت ضغط سلطة الاحتلال الصهيوني وترغيبه وترهيبه لهم، وفي ظل التآمر العربي المفضوح، حول شرائح من الشعب الفلسطيني، يستسلم للأمر الواقع، وعبر التنازلات المعروفة بمسميات كثيرة: السلام والمفاوضات والطروحات المختلفة، كاد يفقد تلك الارادة التي هي تحصيل حاصل.

ولكن المقاومة بإصرارها على نهجها الذي تبنته، وبفضل وضوح رؤية نواتها الصلبة لم تخضع، ولم تغفل عن حقائق الأشياء، ومنها وأهمها؛ لأن فلسطين محتلة ولا بد من تحريرها، ولكن كيف؟ وبأية وسائل امام هذه القوى الجهنمية من الصواريخ والتفوق المذهل للتكنولويا والآلات الحربية المتفوقة جدا؟

والإجابة عن هذه التساؤلات يعبر عنها الميدان بلغته الخاصة به، انطلاقا من الإرادة القوية، وهي أن التحرير هو الحل، ولذلك لم تؤمن المقاومة بأية طرح تلوكه ألسنة السياسيين، لا باسم السلطة الفلسطينية، ولا بعنوان حل الدولتين، ولا في ظل الدولة اليهودية...إلخ

وعندما تكون الإرادة الصلبة ووضوح الرؤية في إطارها، تضعف شرعية العدو والخصم، وتسقط هيبة جميع القوى المواجهة للحقيقة؛ لأن الحق لا يقاوم إلا بالحجج الصادقة والصحيحة، والاحتلال لا يمتلك ذلك فضلا عن عرّابيه والمؤتمرين بأمره،.

صحيح أن القوة والتفوق المادي والمالي للعدو والتأييد الدولي ينال من العزم والهمم العالية، ويحاول تطويعها و"تهذيبها" لصالح طروحاته، ولكنه يذوب أمام الحقائق التي لا ينبغي ان تضيع، ذوبان الملح في الماء... فكل قوة مسبوقة بضعف، وكل غنى مادي ومالي مسبوقا بالفقر والحاجة، وكل تأييد لا يُنال إلا وفق مستوى من مستويات المصلحة في العلاقات الدولية. وصاحب الإرادة القوية والقضية العادلة في العادة يفهم كل ذلك؛ بل ويؤمن أشد الإيمان بأن جميع النقائص التي تطارده، قابلة للإزالة بمجرد الإرادة كمبدإ والإصرار كمنهج في ذلك، لأن الضعف يتحول إلى قوة، والفقر يتحول إلى غنى، وتحييد واكتساب أرباب المصالح مرهون بمدى قوة الفكرة وعدالة المسألة، والضمانات المفترضة تتحقق وترتقي تدريجيا من مستوى معين إلى مستوى آخر من المستويات.

والمقاومة رغم أنها لا تمتلك من القدرة على حفظ المصالح لمن يناصرها، ولكنها غير عاجزة عن تحييد بعض داعمي العدو، سواء عبر تثوير الشعوب التي هي محبة للسلام بطبيعتها، أو بتهديدها في مصالحها، إن كانت من القوى الداعمة للعدو.

وبحكم أن الإرادة لدى الإنسان في أصلها مجرد استعداد للعمل والتضحية في سبيل قضية آمن بها، فإنها تحتاج إلى وسائل لمناصرتها وتحقيقها؛ لأن التحدي يفرض استجابة تكون في مستوى التحدي او اكثر، ومن ذلك الوسائل التي تتحرك بها الإرادات لتحقيق مبتغاها. والوسائل التي يجب توفرها هي الوسائل الجديرة بتحقيق المطلوب، وهي ليست مجرد وسائل مادية ومعنوية، يمكن استنساخها من أي تجربة سابقة أو أية جهة كانت، وإنما لا بد من أن تكون مبتكرة او على الأقل مبتكرة في بعض جوانبها وأدواتها، وهي انواع كثيرة... ففي الحروب مثلا لا يتفوق المقاتل باستعمال الآلات المستعملة؛ لأن كل سلاح استعمل استنفذ فاعليته التي كان عليها، ولا يتفوق بالخطط الحربية المعتادة، وإنما يتفوق بالخطط والآلات المبتكرة، والتي لم يعرفها العدو والخصم على الأرض، ولذلك كانت حرب العصابات من الوسائل القديمة الباقية الأكثر فاعلية؛ لأن المقاوم فيها قادر على إخفاء وسائله، وحر في استعمالها وفي الكيفية التي يستعملها فيها وبها.

والمقاومة الفلسطينية اجتهدت في إبداع وسائل المقاومة المبتكرة غير المسبوقة، ابتداء من مقاومة المحتل بالحجارة والسكاكين وتثوير الأطفال والشباب في ثمانينات القرن الماضي، ومرورا بصناعة السلاح، وانتهاء بوضع الخطط الحربية التي حيرت العالم اليوم.

إن عملية طوفان الأقصى، قد فوجئ بها العالم وفوجئ بها الاحتلال نفسه، الذي اعلن في الأمم المتحدة، قبل أيام قليلة من عملية السابع من أكتوبر 2023، أنه متحكم في الوضع، وحوّل دولته من دولة محاطة بالأعداء في سنة 1948، إلى دولة في محيط من الأصدقاء والموالين في سنة 2023، إلا ما كان من حزب الله وإيران وسوريا... اما باقي المحيط فهو في القبضة، إما بالعلاقات المباشرة التامة في ظل التوافق السلطوي: الفلسطيني الصهيوني، او بصيغ التطبيع المتنوعة...؛ بل إنه لم يذكر السلطة الفلسطينية كجهة مستقلة عنه وعن دولته، وإذا بالمقاومة تقوم بعملية طوفان الأقصى لتشعر كل العالم أن إسرائل مهددة في وجودها!! والاضطراب الذي عاشه الصهاينة وخاصة في الأيام الأولى للعملية يوحي بذلك... بكثافة الرحلات اليهودية من داخل فلسطبن المحتلة إلى خارجها، وبكثرة الكلام والكتابة عن زوال الكيان الصهيوني، وبظهور الخلافات الداخلية؛ بل إن رئيس وزراء الكيان الصهيوني مهدد في شخصه إذا أوقف الحرب سيدخل السجن، وذلك لما على أكتاقه من جرائم في حق اهله من الصهاينة...

لقد تفوقت المقاومة في ابتكار وسائلها أيما تفوق، فضربة "الجيش الذي لا يقهر" وأسر جنود منه في مواقعه المحصنة بأحدث الأسلحة وكامرات المراقبة ووسائل التجسس، بوسائلها الخاصة التي من صنعهم وليست من الأدوات المستوردة، وبطرق استخباراتية مبدعة اوصلتهم إلى أخص خصائص العدو ومؤسساته الأمنية.

لا شك أن كل ما تقوم به المقاومة اليوم لا يتجاوز برامج حرب العصابات، وحرب الشوارع كما يقال، ولكن ما أحدثته المقاومة الفلسطينية تجاوز علميات "أضرب واهرب"، إلى مقاومة العدو ومهاجمته، وفرض الإرادة الحرة؛ بل فرضت على العالم أن يتعامل مع القضية بأساليب أكثر جدية، وليس كما كان من قبل، لا يراعي إلا الإرادة الصهيونية، وبدرجة أقل بكثير خيارات السلطة التي هي من مشتقات الخيارات المخذولة والمستسلمة للكيان الصهيوني.

لا شك أن الثمن الذي يدفعه الشعب الفلسطيني اليوم باهض، بعد ما يقرب من العام من التدمير والتهجير والإبادة، ولكن ما خققه هذا الشعب بصبره وثباته ومقاومته الباسلة، قد أعاد قضيته إلى واجهة العالم اليوم؛ بل فرض على العالم مراجعة جميع مبادئه وقيمه ومواقفه من قضايا الإنسان، وكشف عن الوجوه الشاحبة فأظهرها على صورتها الحقيقية... فحل الدولتين الذي أخفته الأيام، قد ظهر بقوة هذه الأيام لعل العالم يجد به مخرجا!! والرفض الصهيوني للدولة الفلسطينية الذي لم يعرف إلا في أروقة ضيقة جدا...، قد انكشف أمره بوضوح يراه الأعمى... ولكن ها هي الأيام تكشف عن ذلك بضوح... وما على المتخاذلين إلا مراجعة مواقفهم من القضية فهي فرصة لهم وللعالم للبت النهائي في أقوالهم وافعالهم.

والنقطة الأخيرة في قواعد التغيير هي الهدف، وهو في ذهن المقاومة، متمثلا في تحرير الأرض من العدو الصهيوني، بحيث تشكل هذا الهدف في ذهن رجال المقاومة كقضية إيمانية مفادها أن زوال إسرائل حتمية تاريخية، وليس مجرد احتلال يمكن أن يتحول إلى تعايش تفاوضي تلتقي فيه الشعوب والأعراق، بقطع النظر عن أهل الأرض وأصحابها!!

ومن بركات عملية طوفان الأقصى أنه أشاع تعميم هذا المبدأ والهدف على أوسع نطاق، وحوله من مجرد قناعة في أوساط ضيقة من المناضلين، إلى قضية ذات شرعية لها قواعد حلها المختلفة عن طروحات العالم كله.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.


: الأوسمة


المرفقات

التالي
الهيئات الإسلامية في القدس تدين بشدة انتهاكات الاحتلال المتصاعدة بحق المسجد الأقصى
السابق
قراءة سير المخلصين

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع