اختبار الحضور في معركة الطوفان بين توفية
العهد ونقض الميثاق
الكاتب: د. محمود النفار
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
التقويم عملية شاقة، وأصعب ما يكون إذا كان موضوعه الذات؛ إذ تخدع
المرءَ نفسُه فلا تريه إلا محاسنه بل كثيراً ما تريه مساوئه فضائل كما قال تعالى:
{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر: 8]، كما أنّ ندرة من
الناس من يطلبون تقويمهم فضلاً عن معايبهم من الآخرين لما يصاحب هذا النقد من آلام
وأوهام.
وتقويم فاعلية الأفراد والجماعات في معركة مثل طوفان الأقصى
أمر في غاية الأهمية؛ لأن من شأنه أن يحقق مقاصد التكليف الشرعي بتكميل ما نقص من هذه
الفاعلية، وترميم ما تداعى منها، ولكنه – تقويم الأداء- وفي ظل ضعف ثقافة النقد الذاتي
والشورى الجماعية، أكثر صعوبة ومشقة لاعتبارات كثيرة أخرى تحول دون الانخراط الفعال
في المعركة، حيث يراها البعض عملية متهورة، والبعض يراها معركة مجموعة لم تستشره فيها،
والبعض يراها متقدمة عن السقف الذي حدده لنفسه أو لجماعته، والبعض وبالنظر إلى احتياجات
المعركة المتنوعة يقف عند بعض هذه الاحتياجات دون البعض الآخر متذرعاً بالتخصص فيعتقد
الكمال في صنعه وصنيعه، والبعض يرى في إشادات المقاومة بعمله شهادة أنه بذل الوسع الذي
لا مزيد عليه، فيغتر بالمدح ويذهل عن التجديد والازدياد.
تسعى هذه المقالة إلى الإسهام في تأصيل ثقافة ومنهجية اختبار
الحضور الفعال، خاصة في المعارك الكبرى من خلال رد الدعاوى إلى أصول علمية، ومطالبة
المدعين بإظهار البراهين حتى لا تقع محاكمة الحضور إلى دعاوى زائفة وكلمات خادعة تخفي
وراءها النقص في التوفية، والإخسار في الميزان.
مفاهيم الموازين..
يزخر القرآن الكريم بالعديد من مفاهيم الموازين كما نحب تسميتها،
ونريد بها: الحقائق والمصطلحات التي تتولى قياس امتثال الإنسان لنداءات الوحي، ووفائه
بتكاليف العضوية في الأمة الإسلامية، والانتساب إلى الجماعة الإنسانية.
وتعدّ هذه المفاهيم مفاتيح الفعل الحضاري المنشود اليوم،
وهي ذات دلالة واسعة لا تقتصر على المفاهيم الفقهية مثل الامتثال، والأداء، والقضاء،
ونحوها، بل تستوعب مفاهيم قرآنية كثيرة تناثرت في سور كثيرة، واستعملت بوفرة في سياقات
التقويم ومناطات الحكم على الأقوال والأعمال، والتصرفات والمعاملات في الحال والمآل.
من هذه المفاهيم التي نود تسليط الضوء عليها: العهد، والميثاق، والوفاء، والنقض، سنبين معانيها ودلالاتها
التي وضعت إزاءها في الاستعمال القرآني خاصة، وسنسعى لتأصيلها وتأثيثها وتأثيلها بما
يخدم بناء مقاييس ومعايير للحضور والفاعلية، ثم تنزيلها في واقع معركة الطوفان بما
يسهم في تعزيز فاعلية حضور آحاد المسلمين ومكونات الأمة في المعركة.
وللمفاهيم أهمية كبيرة في تأسيس الوعي بالقضية، خاصة في اللحظة
الراهنة التي شاعت فيها مفاهيم ملتبسة يراد من استعمالها نسبة القلق إلى فكر المقاومة،
والتناقض إلى سلوكها، وإن أحد واجبات مفكري المقاومة تجديد الوعي بمعجم المدافعة وتثوير
ما يشتمل عليه من قيم وثبات.
العهد وقيمة الوفاء..
نسبة العهد إلى الله الغرض منه بيان الجهة التي يقترن بها،
ويرد في القرآن الكريم في مواطن عديدة يمكن إجمالها في سياقين:
أحدهما: الأمر بالوفاء بالعهد والثناء على الموفين به، مثل قوله
تعالى: { مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}
[آل عمران: 76]، وقوله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى
وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} [الأنعام: 152]، وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ
إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ
اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} [النحل: 91].
والثاني: التحذير من نقض العهد وذم الناقضين للعهود، ومثاله قوله
تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ
مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ} [البقرة: 27]، وقوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا
أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ } [آل عمران: 77]، وقوله تعالى: { وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا
إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [النحل:
95].
وفي بعض الأحيان تجتمع الإشادة بالوفاء وذم النقض في موطن
واحد مثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ
يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ
وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:
10].
ونختار تعريف عهد الله على النحو الآتي: جميع التكاليف الفردية
والجماعية، العينية والكفائية، الظاهرة والباطنة التي كلف الله تعالى بها عباده من
أجل جلب المصالح لهم، ودفع المفاسد عنهم.
ومن هذه العهود التي يخصصها القرآن بالذكر: شعيرة الجهاد
باعتبارها ذروة سنام الوفاء بعهد الله وتوفية الامتثال للتكاليف الشاقة، وقد انتظم
الحديث عنه في القرآن سياقان:
أحدهما في الثناء على المجاهدين والشهداء، وذلك في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ
وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ
الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [التوبة: 111]، ومن
اللطائف في هذه الآية أن الله تعالى قابل فيها وفاء العبد بالعهد بتوفيته له بحسن العاقبة،
وفيه حث للمكلفين على الوفاء بواسطة التخلق به سبحانه.
والسياق الثاني في ذم المنافقين الذين يهربون من استحقاقات هذه العهود خصوصاً في اللحظات
الحرجة حينما يبتلى المؤمنون ويزلزلون زلزالا شديدا، وذلك في قوله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ
الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ
إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ
لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا
عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ
عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا
بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ
الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) } [الأحزاب: 12 – 15].
والوفاء بالعهد قيمة كلية تتفرع عليها قيم عديدة ونريد به:
إيقاع التكاليف الشرعية والحضارية الحافظة للقيم في السلوك الإنساني. وإيقاعها يستلزم
تنمية آصرة الاشتراك بين أفراد الجماعة، وأعضاء الأمة، أي: أنه عمل تعاوني في التزام
العهد والميثاق، كما أنه عمل إحيائي تصدر عنه مظاهر الإنتاجية النافعة والماكثة في
الأرض.
والوفاء بحسب المنظور الإسلامي يجمع أعمال الظاهر والباطن
على حد سواء، فالوفاء الظاهري لا يقصي الباطن تمسكاً بالظاهر، والوفاء الباطني لا يقصي
الظاهر تمسكاً بالباطن.
والوفاء بالعهد ميزان دقيق ينبغي حسابه دون إخسار ولا طغيان،
ولذا تفرقت شروط الوفاء ودرجاته في القرآن الكريم، وضربت له الأمثلة، وسيقت فيه النماذج.
يمثل إبراهيم عليه السلام رمز الوفاء في القرآن الكريم حتى
جعلت التوفية صفة ملازمة له كما قال تعالى {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:
37]، وقد أطلق النص الوفاء هنا ليشتمل توفيات كثيرة هي ثمرة الاشتغال بشروط الوفاء
ومتطلباته، ووصف وفاؤه في القرآن بإتمام الكلمات التي عهد الله بها إليه، حيث أداها
تامات غير ناقصات، من هذه الكلمات: استجابته لعهد الله حين امتحنه بذبح ولده إسماعيل
قرباناً إلى الله ونحوها من البلاء العظيم.
وأوفى الناس بالعهد مطلقاً هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،
ولذا أمر الله تعالى باتخاذه أسوة مطلقاً في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي
رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، وقد توسط هذا المدح والأمر آيات
العهد والميثاق في سورة الأحزاب، في إشارة إلى أن هذا مناط الاقتداء، ومحل المشابهة.
وأمته صلى الله عليه وسلم التي أورثها الله الرسالات والنبوات جديرة أن توفي عهدها
مع الله تعالى، ولذا جعل الله الوفاء بالعهد واحداً من أهم خلالها فقال سبحانه: {وَالْمُوفُونَ
بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ
الْبَأْسِ} [البقرة: 177]، وقال فيهم: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ
رَاعُونَ} [المؤمنون: 8].
ويمثل فجار بني إسرائيل فيه- القرآن الكريم- أنموذج نقض العهد،
حتى لازمهم الوصف بالنقض في كثير من الآيات.
الميثاق وآفة النقض..
أما الميثاق فيراد به العهود المؤكدة بشكل سابق أو لاحق،
ومن الأمثلة عليه بيعة العقبة الثانية التي حصل الالتزام بها بالسمع والطاعة في العسر
واليسر والمنشط والمكره، وبيعة الرضوان التي بايع فيها الصحابة على الموت.
ويفترق مفهوم العهد عن الميثاق عند بعض العلماء بأن العهد
ما طالب الله به ابتداء، والميثاق هو ما التزمه العبد لربه من الوفاء والامتثال، وهو
يشبه النذر بهذا الاعتبار.
والميثاق مثله مثل العهد يرد في القرآن، تارة في سياق الوفاء
إخباراً أو أمراً أو ثناء، وتارة في سياق النقض إنباءً أو نهيا أو ذماً.
من الأمثلة على الأول قول الله تعالى: { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا
وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَاأَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ
شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) } [المائدة: 7 – 9]، وقوله تعالى:
{وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ
عَشَرَ نَقِيبًا} [المائدة: 12]، وقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ
مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ
وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8) } [الأحزاب: 7 – 9].
ومن الأمثلة على الثاني قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ
الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ
لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) فَبِمَا
نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ
بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ
فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)} [النساء: 154، 155].
وهذه المواثيق بعضها كلي وبعضها جزئي، بعضها عقدي وبعضها
شرعي، بعضها عام لكل الأمم، وبعضها خاص بأمة دون غيرها.
ومن المواثيق المهمة التي أخذها الله على عباده بشكل عام
ميثاق الإيمان الوارد في سورة الأعراف في قوله تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ
بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ
بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا
عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172]، وقد اختلف فيها أهل السنة فرأى أهل التفسير
والأثر أنّ هذا العهد حقيقي ومباشر، وإن لم تحط به ذاكرة المكلفين، فيما رأى المتكلمون
وأصحاب المعقولات أنه مجازي وغير مباشر، وأن المراد به خلق الخلق وتركيب الدلائل والبراهين
فيهم، فصاروا بشهود هذه البراهين كأنهم قالوا بلى، وإن لم يكن هناك قول باللسان، والجمع
بين القولين ممكن كما أكد بعض المحققين من المتكلمين.
وهذا الميثاق هو الذي يمكن التعبير عنه بنداء الفطرة الذي
يجده الإنسان في أعماق قلبه، ومن وراء عقله، فلا يشعر بالاتساق الداخلي إلا بالتزامه
وتعهده.
ومقصودنا بنقض الميثاق: الوصف الذي يقوم بالمكلف فردا وجماعة
والذي يخلع صفات الإهمال والهزل والعبثية على المواثيق بدلاً من إضفاء صفات الوجوب
والجدية والمصلحة، وهكذا يسلب الميثاق لبه، ويفقد خصائصه، وتتعطل أسباب إقامته، وإذا
بقي فإنما يبقى جسداً بلا روح.
ونقض ميثاق الله تارة يريد به صاحبه اتباع هواه والعيش هملاً
في الحياة بلا هوية ولا غاية، وتارة يريد به قطع الصلة بمواثيق الأمة لأجل التزام مواثيق
الأمم الأخرى، بحيث تصبح قيمها هي التي تضبط وعيه، وتوجه سعيه.
وكما أن الوفاء عمل إحيائي، فإن النقض عمل مميت، إذ لا يوصف
الإنسان بالنبض مع النقض، ولا يوصف اشتغاله بالحياة مع عدم الميثاق أو تضييعه، ولعل
هذا أحد أسرار مسخ نَقَضَة بني إسرائيل قردة وخنازير بعدما تحيلوا على التزام الميثاق.
ولذا ينبغي التصدي لكل صور النقض باعتبارها منكرات يجب النهي عنها، وآفات ينبغي محاصرتها.
ومن صور النقض ما نسميه بتوهم الوفاء بالميثاق، ونعني به:
تصور الذهن لميثاق مزيف، ثم الوفاء بهذا الميثاق المزيف، وهنا وقع النقض مرتين إحداهما
بجهل الميثاق الأصيل، والثانية بمتابعة الميثاق المزيف.
ومما يتصل بالمعركة مع المشروع الصيهويني اليوم الربط القرآني
بين الإفساد الإسرائيلي ونقض الميثاق، وذلك في قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ
لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ
إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ
فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ
بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ
خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ
لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ
الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ
وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأعراف:
167 – 169]، وتتمثل معالم هذا الإفساد بمنع الاقتران بين الأفضلية والسعي الرشيد، وفصال
الازدواج بين عدم المؤاخذة وفعل التخريب.
مقياس الوفاء والنقض..
إنّ كلاً من الوفاء والنقض صفتان تسريان على الموصوف بدرجات
متفاوتة، وهما كذلك ميزانان دقيقان لا ينضبط قياسهما إلا بتحديد الواجبات، وتعيين التكاليف
المطلوبة، وبقدر امتثالهما يوصف المكلف بالوفاء، وبقدر الإخلال بهما يوصف بالنقض، والعهد
والميثاق هما المحلان اللذان يجري فيهما الوفاء والنقض.
وقد وصف فخر الدين الرازي الوفاء بأنه يشبه وفاء الحالف بأشياء
كثيرة فإنه لا يعد باراً بيمينه إلا إذا فعلها كلها. وهكذا ما يزال الرجل والمرأة يتحريان
الوفاء حتى يكتبا في الموفين، ممن قال الله تعالى فيهم: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ
صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ
مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ
بِصِدْقِهِمْ } [الأحزاب: 23، 24]. وقضاء النحب يراد به عند المفسرين الوفاء، أو الموت،
فالأول ظاهر في مرادنا هنا، فيكون هو الوفاء بالعهد قتل المرء أو عاش، ومن ينتظر هو
من ينتظر الوفاء بالعهد في قتال أو صدق لقاء، وعلى القول الثاني لا يبعد عنه كذلك؛
لأنه ليس مطلق الموت، بل الموت مع الوفاء، أو انتظاره مع التزام الميثاق.
ونقض الميثاق هو الآخر نظير الوفاء مفهوم نسبي، وبحسب ما
يقع الإخلال بالتكاليف بقدر ما يوصف المكلف بنقض الميثاق، وهكذا يتحرى الرجل أو المرأة
النقض حتى تتراكم فيهما خلال المنافقين فيتمحضون منافقين ويكتبان في سجلات الناقضين
والناقضات، وويل لمن كتب اسمه فيها، ومثالهم من قال تعالى فيهم: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ
اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ
(75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ
(76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا
اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)} [التوبة: 75 – 77].
وإذا تلبس المكلف بالوفاء رقى به الوفاء في مدارج الكمال
حتى تنمو بصيرته، ويزداد يقينه، وتكتمل عبوديته، وإذا تلبس بالنقض انخفض به إلى دركات
النقصان حتى تحجب بصيرته، وتتملكه الهلكة، وتراوده نفسه منازعة الله، ولذا كثيرا ما
يلتبس على نقضة المواثيق هدأة بال الموفين وسكينة صدروهم ليخلصوا إلى هذه النتيجة الحمقاء:
{غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ} [الأنفال: 49].
هذا، وإذا كان الوفاء استبقاء لنعمة الاستخلاف، فإن النقض
تعريض للاستخلاف إلى الاستبدال، وإليه الإشارة بقول الله تعالى: {إِلَّا تَنْفِرُوا
يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ } [التوبة:
39]، فترك النفير رغم قيام موجباته نقض للعهد، والبخل بالمال مثل البخل بالنفس إذا
قامت داعيته، وإليه الإشارة بقول الله تعالى: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ
عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ
قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].
والقانون في التوفية نجده في قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي
أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40]، وقوله تعالى: { إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا}
[الإسراء: 34]، فالوفاء من التوفية وعدم النقص، ولذا نقول إنه كلما أوفى المكلف فردا
أو جماعة ما عليه بقدر ما يستخلفه الله ويورثه الأرض وينعم عليه بحسن العاقبة في الدنيا
والآخرة، وبقدر ما يتخلف عن الوفاء بقدر ما يحرم من الاستخلاف والتوريث وحسن العاقبة،
كما قال تعالى: { لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124].
إن هذا الحديث القرآني المستمر عن الميثاق ونقضه، والعهد
والوفاء به يرمي إلى تحميل الإنسان مسؤولية أفعاله الإيجابية والسلبية في الدنيا والآخرة،
وهي مسؤولية كبيرة لا يعيها إلا الممتلؤون بالإيمان والمروءة، والبطولة والحياء.
المقاومة الفلسطينية ونموذج الوفاء بالميثاق
..
قدم الجهاد الفلسطيني نموذجاً فريداً لمعنى التزام العهد
والوفاء بالميثاق من خلال أمور:
أحدها: تأكيد الفعل للفظ، والعمل للقول دون السقوط في اختبار الإرادة
الذي سقط فيه الملأ من بني إسرائيل حينما كتب الله عليهم القتال وعندما اختار الله
لهم طالوت ملكاً.
والثاني: استبقاء اليقين في القلوب والصدور رغم قيام كل موجبات اليأس
والقنوط، والإحباط والفتور.
والثالث: الثقة المطلقة بنصر الله وتأييده رغم مرور عقود على المعركة
بشكل عام، وستة شهور على معركة طوفان الأقصى بشكل خاص.
والرابع: استعدادات للتضحية فاقت التصور البشري بأعز ما يملكه أي
إنسان من الآباء والأمهات، والأزواج والأبناء، والمساكن والتجارات، وغيرها من محبوبات
النفوس وبهجات الحياة.
والخامس: بذل كل ممكن ومستطاع في سبيل الانتصار في معركة المباغتة في يوم السابع من
أكتوبر، ومعركة الصيال بعدها.
ونحسب أن المقاومة الفلسطينية اليوم تمثل الوفاء بالميثاق
بمعانيه المختلفة الكلية والجزئية، فهي تجسيد للفطرة السابقة على الشرائع والرسالات،
وإيمان عميق بالتصور الإسلامي لا يهتز مع الزلزال الشديد الذي أصاب الأجساد والأرواح،
والعقول والقلوب، وامتثال فريد بالتكاليف الشاقة التي جبلت النفوس على كراهتها، والتزام
محتم أمام الأمة باستعادة الكرامة والمقدسات مهما حصل الخذلان ووقع التخلي، واستيفاء
محكم لقوانين القتال ونواميس الاعتراك وسنن الحياة.
ويصدق فيهم قول الله تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا
أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ
أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ
(20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ
وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ
وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ
بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ
يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ
يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ
فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ
مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي
الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)} [الرعد: 19
– 25].
بحسب هذه الآية فإن الوفاء بالعهد رغم كل موجبات الصبر من
البلاء والمحن والأثمان والضرائب هو علامة على البصر والبصيرة، والصلاح والإصلاح، وحسن
العاقبة في الدنيا والآخرة، فيما نقض الميثاق علامة على العمى والضلال، والفساد والإفساد،
وسوء العاقبة في الدنيا والآخرة.
وما يخسره الموفي
بالعهد والميثاق في هذه الدنيا من فراق الأهلين والبنين سيعوض عنه في الدنيا نصراً،
وفي الآخرة اجتماعاً لا فراق بعده، وهذه سلوى لمن يتشاركون الوفاء بالميثاق من الرجال
والنساء، ويظهر فيها دور الأسرة في توفية العهد.
ويلحق بهم كل من بذل أقصى وسعه في مشاركتهم النفس والمال،
والرأي والقلم، والوقت والجهد، وحشد لهم أهل القدرة والإمكان، وضم إليهم العقول والرجال،
وحشر معهم البنون والأجيال، وأدام ذلك فيهم بحسب الوسع العريض الذي بسطه الله في واقع
المؤمنين، والطاقة الكبيرة التي أفسح الله لها في هممهم وعزائمهم. ولذا جاء في وصفهم بأنهم يصلون ما أمر الله به أن
يوصل.
وما أمر الله به أن يوصل يتجاوز صلة الرحم كما صرح بذلك كثير
من المفسرين فتدخل فيه نصرة المستضعفين، وموالاة المؤمنين، ويدخل في قطع ما أمر الله
خذلان المجاهدين، وقلي المظلومين.
وتقضي الآيات بتعداد كل وصل لما أمر الله به أن يقطع، وكل
قطع لما أمر الله به أن يوصل في نقض الميثاق، ومن أظهر الأمثلة على الأول: خط الإمداد
المشؤوم للعدو بالغذاء والدواء والوقود الذي يمر بدول عربية واسلامية على مرأى من شعوب
تلك الدول، ومن أظهر الأمثلة على الثاني إغلاق المعابر وتقييد دخول متطلبات البقاء
على قيد الحياة لشعب كامل استجابة لأمر الاحتلال.
كما تقضي بتعداد كل ما أمر الله به أن يوصل، وكل ما أمر الله
به يقطع في الوفاء بالعهد والميثاق، ومن أظهر الأمثلة على الأول إمداد المقاومة وسكان
غزة بالسلاح والدواء والطعام والشراب والإغاثة والإعمار وكل متطلبات البقاء والاستمرار
والصمود والإباء، ومن أظهر الأمثلة على الثاني قطع الطريق على الاحتلال في البحر الأحمر
ومحاصرة سفارات الاحتلال ومقاطعة بضائعه.
في الجهة المقابلة يمثل العدو الصهيوني اليوم أسفل الدرجات
وأحط الدركات في نقض الميثاق، من خلال الاعتداء على الفطرة والإنسانية بقتل كل ما لا
يجب أن يقتل من طفل وامرأة وشيخ وطبيب ومسعف وصحفي وعامل إغاثة، وتدمير كل ما لا يجب
أن يدمر من مسجد وكنيسة ومدرسة وجامعة، ونقض الميثاق صنعة قديمة حديثة يجيدها فجرة
بني إسرائيل على مدار التاريخ، ولذا جعلها الله تعالى أمارة عليها وصفة ملازمة لهم.
وبين هذين النموذجين يتوسط الخذلان والتخذيل باعتبارهما ضربين
من ضروب نقض الميثاق من خلال ترك التكاليف الواجبة والمستطاعة، ومن خلال توهم العجز
عن الفعل الجاد والمؤثر، ومن خلال بث الأراجيف ونشر اليأس، ومن خلال تجريم المقاومة
أو تخطئتها مع التخلي عنها، ويعسر حصر هذه المظاهر إلا أنها مفاتيح للنفاق والعياذ
بالله.
ويجمع الأصناف الثلاثة: الموفين بالعهد والناقضين له قول
الله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ
فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا
(23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ
شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ
اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ
الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)} [الأحزاب: 23 – 25].
خاتمة..
إن التزام العهد والوفاء بالميثاق تكريم للإنسان، خصه الله
به دون سائر الكائنات بما أودعه فيه من الملكات التي جعلته يتحمل الأمانة بعد أن أبت
حملها السماوات والأرض والجبال، ويقبل الاستخلاف بعد أن وطنه الله في الأرض، ويستجيب
للتكليف بالعمارة والإصلاح رغم كل مساعي التخريب والإفساد.
وأي تكريم أكبر من أن يواثق الله تعالى عباده، ويعاقدهم على
أسباب صلاحهم وصلاح العالم الذي يعيشون فيه، وأي حفاوة أكبر من أن يواثق الله عباده
المجاهدين على هبة النفوس والأموال في مقابل جنة عرضها كعرض السماء والأرض على أن يدفعوا
الفساد ويدافعوا الإفساد خاصة الإفساد الإسرائيلي الذي أخبرت به النصوص والأخبار.
إن هذا الجهاد الراشد استبقاء لميثاق الفطرة الإنسانية، وإعلان
عن الانتماء إلى الجماعة البشرية من جهة، وامتثال للتكليف الإلهي، وبالتالي إعلان عن
الانتماء إلى الأمة الإسلامية من جهة أخرى.
وكل الأصوات والأهواء والشبهات التي تعطل الميثاق وتحول دون
القيام بموجباته هي نقض مجرم يتوجب على أنصار المقاومة سد طرقه بالتأصيل ونشر الوعي،
ومثل أصحابها مثل تلك المرأة الحمقاء التي ضرب الله فيها المثل على من يضمرون نقض العهود
والمواثيق بعد إبرامها، فقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا
مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ
تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ
لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [النحل: 92].
وأمام استبعاد المنظور الغربي اليوم لعهد الله وميثاقه بالكلية،
ونزوعه نحو التواثق في سياقات النفع المادي الدنيوي فقط، فإن الواجب اليوم تجديد معاني
العهد والميثاق والوفاء بهما خاصة في قضايا الأمة وفي فاتحتها تحرير الأرض المقدسة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها، ولا
تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.