محمد
رسول الله: الرحمة المهداة
الكاتب:
التهامي مجوري
عضو
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
الرحمة في لغة العرب تطلق
على ما بين الأقارب من علاقات، ولذلك علاقة بالرحم عند المرأة، التي تمثل الرابط
بين القرابات، واستعير اللفظ للتعبير عما بين هذه القرابات من وود ورقة وتعطف تجاه
بعضهم البعض. والرُّحم والمرحمة والرحمة بمعنى واحد، فيقال بَيْنَهُمَا رَحِمٌ أَي قَرَابَةٌ
قَرِيبَةٌ. إِن بَيْنَهُمْ لأَواصِرَ رَحِمٍ وأَواطِرَ رَحِمٍ وعَواطِفَ رَحِمٍ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وبَيْنَنَا ماسِكة رحِم كَقَوْلِكَ ماسَّة رَحِمٍ وواشِجَة رَحِمٍ.
وما ينبني على هذا
التعطف من سلوكات ومعاني، وقيم تراحمية الكثير الفضائل في العلاقات الإنسانية عامة،
فعَطَفَ يَعْطِفُ عَطْفاً:
انصرفَ. وَرَجُلٌ عَطوف وعَطَّاف: يَحْمِي المُنْهَزِمين. وعَطَفَ عَلَيْهِ
يَعْطِفُ عَطَفاً: رَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا يَكْرَهُ أَو لَهُ بِمَا يُرِيدُ.
ومصدر هذه القيم وما
يشتق منها، هو من ثمار نشاط العاطفة التي هي مكون من مكونات الإنسان الخِلقية
الأساسية، التي لا يُسْتغنى عنها أبدا؛ بل هي جانب من جوانب الإنسان التي إذا ما
فقدها أو عطلها أو عطل بعضها، انتُقِص من إنسانيته، وفقد أهم السبل التي بها تبنى
العلاقات بين الإنسان وغيره، وقد جعلها الله منطلقا في العلاقات الأسرية ابتداء؛
محورا له ثقله ومكانته في العلاقات الأسرية، قبل أن تنتقل إلى علاقات
الإنسان بغيره من المخلوقات؛ كما جاء في الحديث القدسي: "أنا اللهُ، وأنا الرحمنُ، خلقتُ
الرَّحِمَ، وشققتُ لها اسماً من اسمي، فمن وَصَلَها وصلتُهُ، ومن قطعَها - قطعتُه-
أَو قال: بتَتُّه"، ومن ثم فهي جزء أصيل من قيم الإنسان الأصيلة في الفكر الإسلامي
وقيمه، ومصدرها الله (قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ ۖ وَرَحْمَتِي
وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ
الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) [الأعراف 156]، ورحمة الله
هذه التي وسعت شيء، هي التي تستمد منها البشرية ما تتداوله فيما بينها من تعاطف
وتواد وتعاون وتراحم...، وهي التي تستمد منها وتهتدي بهيدها الرحمة المهداة، التي هي محمد صلى الله
عليه وسلم.
فمصدر هذه الرحمة هو
الله، موجهة لجميع المخلوقات ومنها الإنسان، والقناة الأساسية لهذه الرحمة هي محمد
صلى الله عليه وسلم، ومن ثم من حرم العلاقة بمحمد صلى الله عليه وسلم، حرم مدخلا
من مداخل هذه الرحمة ونيلها، لأن الطريق المؤدي لذلك هو محمد عليه الصلاة والسلام،
هو الطريق المؤدي إلى مرضاة الله سبحانه.
لقد وردت كلمة رحمة في
القرآن الكريم 268 مرة، وجاءت بعدة معاني مدارها كلها على ما يحقق مصالح الدنيا
والآخرة، عطاء وهداية ربانية، ثم بفضل ما فطر عليه الإنسان من جنوح للحياة
الجماعية التي تبدأ من الأسرة.
ورغم أن الرحمة هي نتاج
التفاعل العاطفي بالأساس، بما ينتج عن سلوك الإنسان من علاقات تراحمية يسعى إليها في
حراكه دائما، فإن هذه الرحمة هي مصدر إلهام لكل من له علاقة بحياة الإنسان، نبيا
مرسلا أو داعيا أو مصلحا اجتماعيا او مسؤولا في مجتمع أو رب أسرة... فهذه المواقع
القيادية والرياسات التي يمكن أن يتولاها الإنسان تكون عادة في أمس الحاجة إلى
جانب عاطفي يغطي الجفاف الذي يطغى على النشاط في الإطار العام، ولذلك كانت الرسالة
المهداة التي هي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم (وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء 107]، فهو نبي يدعو إلى
الله وإلى الخير (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ
وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران 104]، ولا يكتفي بإقامة العدل بين الناس وإنما يحرص على
الإحسان فيه أيضا (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ
ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ
يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل 90]؛ بل إن الشريعة التي جاء بها
عليه الصلاة والسلام كلها رحمة بما تتضمن من وسطية ويسر وتيسير ورفع للأغلال، فهي
رحمه متناغمة مع الطبيعة البشرية ومنظومة الكون كلها، ولذلك كانت رحمة محمد صلى
الله عليه سلم بكل شيء، وهي مستمدة بلا شك من رحمة الله بخلقه سبحانه.
ففي المجتمع
العربي لم يكن الواحد منهم يعرف لغير ذوي حقا في التعاطف والتعاون... وأهل الولاء؛
بل لا يرى رحمة لفريق من أهل الرحم أنفسهم مثل الاطفال والنساء، فضلا عن سائر
المخلوقات، ولكن لما جاء محمد علّمهم أن من الرحمة تقبيل الطفل، وكان رده على من
لا يفعل ذلك منزوع الرحمة من القلب، كما جاء في حديث الأعرابي
الذي رأى النبي صلى الله عليه وسلم يُقبّل الحسن بن علي رضي الله عنهما
فتعجّب الأعرابي وقال: "تقبلون صبيانكم؟ فما نقبلهم "فرد عليه النبي صلى
الله عليه وسلم قائلاً : "أَوَ أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟"،
ووردت الكثير من النصوص في رحمة النبي بالأطفال، فكان يسرع في الصلاة عندما يسمع
بكاء الأطفال، حتى لا يشق على أمه التي هي من بين المأمومين معه في الصلاة، ولم
يقطع على الطفل الذي بال على ثوبه بولته، كما فاضت عيناه لفقد حفيده،
فقال سعد بن عبادة - رضي الله عنه: "يا رسول الله ما هذا؟"
فقال: "هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده
الرحماء". كما
قال في
النساء: "ألا واستوصوا بالنساء خيرا؛ فإنهنّ عوان عندكم ليس تملكون منهن
شيئا غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة".
كما أوصى بالخدم
واليتامى خيرا فقال عنهم "هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه
تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم من العمل ما يغلبهم، فإن
كلفتموهم فأعينوهم"،
و"أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة، وأشار بالسبابة والوسطى"
وقد شملت رحمته عليه الصلاة والسلام سائر المخلوقات كلها،
فقال "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا
ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، فليرح ذبيحته"،
وقال أيضا عندما رأى جملا تذرف عيناه بالدمع، فقال "لمن هذا الجمل؟
فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله، فقال له: "أفلا تتقي
الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؛ فإنه شكا لي أنك تجيعه وتتعبه"؛
بل شملت رحمته الجمادات أيضا، وما حادثة الجذع الذي حن إليه عندما غادره إلى
المنبر الذي صنع له، حتى سمع الصحابة منه صوتاً كصوت البعير، فأسرع إليه النبي صلى
الله عليه وسلم فاحتضنه حتى سكن، ثم التفت إلى أصحابه وقال لهم: "لو لم
أحتضنه لحنّ إلى يوم القيامة".
أما رحمته
بالخصوم والأعداء فلم تخرج عن هذا السياق العام في بروز الجانب التراحمي في
علاقاته بالناس بمن في ذلك الأعداء والخصوم، وذلك واضح في توصياته لقيادات الجيش
المسلم، بالرحمة بالنساء والأطفال والأسرى والمحافظة على البيئة، بعدم قطع
الأشجار، حتى أنه في فتح مكة سمع من يقول اليوم يوم الملحمة؛ لأن ذلك الفتح ظهرت
في قوة المسلمين وانكسار شوكة المشركين بأوضح ما تكون الصورة، فرد عليه الصلاة
والسلام "اليوم يوم المرحمة". ولذلك وصف نفسه بما وصفه
به ربه فقال :"إنما
بعثت رحمة ولم أبعث لعانا".
إن الرحمة قيمة
إنسانية حضارية شاملة تحمل من القوة، ما لا تعجز عن حمله الهمم الضعيفة، من
القُصَّر إيمانيا من أهل الأهواء والحسابات الضيقة؛ لأنها قيمة تحمل في طياتها
القيم الإنسانية العالية والتكريم الإلهي لهذا الإنسان (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي
آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ
الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلً) [الإسراء
70]، ولا تعبأ كثيرا ما يمر به الإنسان من خلاقات ونزاعات ومعارك هامشية فيما يقع
بين الناس من مظالم واختلافات وصراعات على ما لا يستحق من الأمور الفانية.
ولذلك كان صلى
الله عليه وسلم القدوة للبشرية كلها وليس للمسلمين فحسب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن
رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.