رحمة
مهداة إلى الإنسانية
كتبه: د.
فهمي إسلام جيوانتو
عضو
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
وُلِـدَ
الـهُـدى فَـالكائِناتُ ضِياءُ *** وَفَـمُ الـزَمـانِ تَـبَـسُّـمٌ وَثَناءُ
هكذا
عبر أمير الشعراء أحمد شوقي عن تلك الحادثة التي انبلج عنها فجر الإنسانية بمولد
الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. هي بداية النور الذي أراد الله أن
يضيء به البشرية إلى قيام الساعة. لما أعلن الله على البشرية جمعاء بقوله تعالى: ﭽ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَﭼ
[الأنبياء: 107] حضر الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام إلى الكون رحمةً لكل
البشر. نعم لكل البشر.
قال الألوسي في بيان
هذه الآية: "ووجه ذلك عليه أنه عليه الصلاة والسلام أرسل بما هو سبب لسعادة
الدارين ومصلحة النشأتين، إلا أن الكافر فوَّت على نفسه الانتفاع بذلك وأعرض لفساد
استعداده عما هنالك، فلا يضر ذلك في كونه صلى الله عليه وسلم أرسل رحمة بالنسبة
إليه أيضاً كما لا يضر في كون العين العذبة مثلاً نافعة عدم انتفاع الكسلان بها
لكسله وهذا ظاهر خلافاً لمن ناقش فيه."
ثم ذكر الألوسي رحمه
الله من العلماء من رجح شمول الرحمة لجميع الناس، فذكر من الشافعية البارزي وتقي
الدين السبكي والجلال المحلي، ومن الحنابلة ابن تيمية وابن حامد وابن مفلح في كتاب
الفروع، ومن المالكية عبد الحق –يعني ابن عطية صاحب المحرر الوجيز في التفسير. وقد
سبقهم في ذلك الطبري إذ قال: "وأولى القولين في ذلك بالصواب. القول الذي رُوي
عن ابن عباس، وهو أن الله أرسل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة لجميع العالم ،
مؤمنهم وكافرهم . فأما مؤمنهم فإن الله هداه به ، وأدخله بالإيمان به ، وبالعمل
بما جاء من عند الله الجنة. وأما كافرهم فإنه دفع به عنه عاجل البلاء الذي كان
ينزل بالأمم المكذّبة رسلها من قبله."
ويرى بعض العلماء أن
الرحمة هنا خاصة بالمؤمنين، أما الكفار فليس لهم نصيب من هذه الرحمة، وهو قول ضعيف
كما قال الألوسي في تفنيد هذا القول: "ولا أرى له منشأ سوى قلة الاطلاع على
الحق الحقيق بالاتباع، وأنت متى أخذت العناية بيدك بعد الاطلاع عليه سهل عليك رده،
ولم يهولك هزله وجده."
فهذا الدين رحمة للناس
كافة، مؤمنهم وكافرهم فقد رفع الله سبحانه وتعالى عن البشرية عقوبة الاستئصال بعد
أن أرسل الله محمدا على وجه الأرض. روى الطبري وغيره عن ابن عباس في قوله: {وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} قال: من آمن بالله واليوم الآخر،
كُتِبَ له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن بالله ورسوله عُوفي مما أصاب
الأمم من الخسف والقذف.
ففي صحيح مسلم عن أبي
هريرة قال: قيل: يا رسول الله، ادع على المشركين، قال: "إني لم أبعَثْ
لَعَّانًا، وإنما بُعثْتُ رحمة".
وفي الحديث الآخر:
"إنما أنا رحمة مهداة".
فهذه الآية العظيمة تقف
بنا على حقيقة شرعية أساسية، جاءت بأسلوب مؤكد أن هذه الرسالة المحمدية إنما جيء
بها لبثِّ الرحمة على العالمين. فالشريعة المحمدية رسالة الرحمة جملة وتفصيلا.
إن سمة الرحمة لهذه
الرسالة تتمثل في شيئين: في شخص الرسول محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وفي
شريعته التي تتميز بالتيسير والرفق بالمكلفين وتحقيق المصلحة للعالمين.
وقد استنتج ابن عاشور
رحمه الله من هذه الحقيقة الشرعية رؤية تاريخية ثاقبة، إذ قال رحمه الله:
"وحكمة تمييز شريعة الإسلام بهذه المزية أن أحوال النفوس البشرية مضت عليها
عصور وأطوار تهيأت بتطوراتها لأن تُساس بالرحمة وأن تدفع عنها المشقة إلا بمقادير
ضرورية لا تُقام المصالح بدونها، فما في الشرائع السالفة من اختلاط الرحمة بالشدة
وما في شريعة الإسلام من تمحّض الرحمة لم يجر في زمن من الأزمان إلا على مقتضى
الحكمة، ولكن الله أسعد هذه الشريعة والذي جاء بها والأمة المتبعة لها بمصادفتها
للزمن والطور الذي اقتضت حكمة الله في سياسة البشر أن يكون التشريع لهم تشريع رحمة
إلى انقضاء العالم."
وبهذه العبارة كشف العلامة
ابن عاشور رحمه الله حقيقة مهمة في تاريخ الرسل والأنبياء وتسلسل النبوات
والرسالات، وهي أن إرسال الرسل إلى الناس عبر تاريخ الإنسانية المديد لم يكن مجرد
تكرار دون إضافة وبناء جديد. فكما أن أحوال الناس تطوَّرت فإن الرسالات والشرائع
تُتابع وتُجاري أحوال الناس، بل وتقود مسيرة التقدم وسياسة المصالح العامة -مثل ما
قام به نبي الله يوسف عليه السلام بعد تقلّده منصب أمانة خزانة الدولة المصرية
آنذاك- وتُقدِّم للناس نماذج رائعة من بدائع الصناعات -كما فعل نبي الله داود
وابنه سليمان عليهما السلام. وإن هذه الأمة الخاتمة التي سمعت وشهدت واستفادت من
تجارب الأمم السابقة مهيأة لأن تتلقى الرسالة الخاتمة التي تكمل نمو العقل البشري
ونضوج رقيه الحضاري.
فما أحوجنا وما أحوج
العالم إلى هذه الرحمة الإنسانية الربانية، وما أحوجنا إلى إبرازها وإعادة دراستها
ومراجعتها وتعريفها للناس كافة... وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن
تبعه إلى يوم الدين...
ـــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي
لعلماء المسلمين.