البحث

التفاصيل

تفكيك منظومات الاستبداد (٣٩): حكم الافتئات على الدولة بالقتال

الرابط المختصر :

تفكيك منظومات الاستبداد (٣٩): حكم الافتئات على الدولة بالقتال

الكاتب: جاسر عودة

عضو مجلس أمناء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

أثارت العملية التي قام بها الشهيد ماهر الجازي الحويطات -رحمه الله وتقبله شهيدًا عنده- سؤالًا فقهيًا وقانونيًا يتعلق بالافتئات على السلطة بالقتال، والتي يقتضي ”تفكيك منظومات الاستبداد“ الإجابة عليه، ألا وهو: ما حكم أن يخرج مسلم تحت حكم دولة معينة على نظام الدولة أو قانونها فيرتكب أعمالًا -كالقتل- هي من صلاحيات الدولة لا من صلاحيات آحاد الناس؟

للإجابة على هذا السؤال شقان: الشق الأول يتعلق بماهية العمل الذي يرتكبه ذلك المسلم: هل هو عمل مشروع أم غير مشروع في أصله؟ والشق الثاني يتعلق بالدولة نفسها: هل هي شرعية يجب احترام سلطانها أم هي غير شرعية من أصلها؟

أولًا، هناك فرق بين قانونية العمل ومشروعيته، ففي النظم القانونية المعاصرة -في بلاد أغلبيات المسلمين أو الأقليات على حد سواء-، قد يكون العمل قانونيًا ولكنه غير مشروع، أي حرام في شريعة الله تعالى، كشرب الخمر أو الزنا أو الربا مثلًا، وقد يكون العمل مشروعًا ولكنه غير قانوني، كتطبيق حدود العقوبات الجنائية الشرعية التي لا يطبقها القانون، أو الجهاد المشروع في سبيل الله رغم وجود معاهدات أو قوانين محلية أو دولية تمنع ذلك.

ومعيار ”مشروعية“ العمل من عدمه في التصور الإسلامي السليم ليس القانون، بل هو الشريعة، فإذا توافقت مواد القانون وحيثياته مع أحكام الشريعة وضوابطها فعلى المسلم احترامه، إذ أن المسلم الصالح مواطن صالح وحريص على النظام العام، سواء في بلاد الأغلبيات المسلمة حيث ينص الدستور على مصدرية الشريعة للقوانين، أو حتى في بلاد الأقليات حيث ينص الدستور على علمانية الدولة أو أولوية أي دين آخر. في هذه الحالة لا يجوز للمسلم أن يفتئت على سلطة الدولة فيطبق القانون بيديه، بل عليه أن يخوّل هذا للسلطات المعنية، ويعتبر افتئاته معصية شرعية قبل أن تكون جريمة قانونية.

أما إذا كان القانون أو المعاهدة أو الميثاق -محليًا كان أو دوليًا- في تناقض مع أحكام الشريعة، فليس له اعتبار، أي أنه لا يأثم المسلم شرعًا إذا خالف قانونًا أو معاهدة هي نفسها مخالفة لشرع الله تعالى، بل يجب على المسلم حينئذ أن يخالف هذا القانون ولا يطبقه إذا طولب بتطبيقه، والقاعدة المعروفة من حديث النبي ﷺ: (لا طاعة في معصية، إنما الطاعة في المعروف) - وهو من حديث الإمام علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه الذي رواه البخاري ٧٢٥٧ ومسلم ١٨٤٠.

وتطبيقًا لهذه المبادئ، فقد أباحت الشريعة أن يقتل آحادُ المسلمين صاحبَ دم مهدور -كالكافر المحارب- افتئاتًا على الدولة، والقاتل في هذه الحالة لا يحاسب بجريمة قتل بل بجريمة ”الافتئات على السلطة“، أي تجاوز سلطات الدولة بالتعدي على صلاحياتها الحصرية، هذا إذا كانت الدولة والسلطة شرعية من أصلها!

وأحب أن أنقل هنا من كلام الأستاذ عبد القادر عودة -تقبله الله عنده في الشهداء- في موسوعته الفقهية القانونية ”التشريع الجنائي الإسلامي“، إذ كتب عن قتل آحاد الناس لمهدور الدم، يقول: ”يترتب على زوال العصمة أن يصبح الشخص مهدر الدم، أى مباح القتل، فإذا قتله آخر لا يعتبر قاتلاً لأن قتل المهدر لا يعتبر جريمة من حيث فعل القتل، إذ الفعل مباح، ولكن لما كان قتل المهدرين من شئون السلطات العامة وموكولاً إليها فإن قتل الأفراد لهم يعتبر اعتداء على السلطات العامة ومن ثم يعاب قاتل المهدر باعتباره مرتكبًا لجريمة الافتيات على السلطات العامة لا باعتباره قاتلاً. وهذا هو الراجح فى المذاهب الأربعة“ (التشريع الجنائي الإسلامي، مبحث القتل العمد، ٢/١٦).

ولكن هذا الحكم يسري إذا كانت تلك ”السلطات العامة“ شرعية من أصلها، والشرعية -أي السياسية- في شريعة الإسلام لا تقوم بـ ”التغلب“ فحسب، أي بقهر الناس بالحديد والنار -قهر كسرى وقيصر- على حكومة ما، لأن ذلك التغلب على السلطة بالقهر لا يقيم شرعية سياسية في الإسلام ولو رضخ له الناس كَرهًا، وإنما تتحقق الشرعية السياسية برضا الاتجاه العام من المحكومين بالنظام الذي يحكمهم، ويقبلون بوجه عام الحكام الذين يترأسون ذلك النظام، أيًا كان نوع الحكومة، وتتحقق بأن يكون ذلك النظام بسلطاته التنفيذية والتشريعية والقضائية ملتزمًا -في اتجاهه العام أيضًا- بالمعايير الشرعية في سن القوانين وصنع السياسات والحكم بين الناس. فإذا لم يكن النظام شرعيًا أصلًا لم يتحقق الافتئات أصلًا.

——


: الأوسمة


المرفقات

التالي
من قلب احتجاجات لندن.. المخرج البريطاني تشارلز دوبارا يعكس رحلته الفريدة مع الإسلام والقرآن الكريم
السابق
مفتي رواندا يكشف عن انضمام 1000 مسلم جديد شهرياً واعتناق الإسلام بين المسيحيين

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع