البحث

التفاصيل

ماذا قدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم للحضارة الإنسانية؟ (خطبة جمعة)

الرابط المختصر :

خطبة جمعة بعنوان: ماذا قدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم للحضارة الإنسانية؟

 

 الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي ختم النبوات بخير نبي أرسل وبخير كتاب أنزل حيث قال: {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين}. كتاب جعل دستورا لحياة البشرية لا تضل ولا تشقى به مصداقا لقوله تعالى : { الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}(البقرة: 1، 2) أمر الله فيه الناس بالتقوى حيث قال تعالى :{ يآيها الذين آمنوا  اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } وقال تعالى يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (آل عمران: 102).

والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما وهو القائل : "تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك" (الطبراني في المعجم الكبير، )وقال وهو أصدق القائلين : "تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي كتاب الله وسنتي" (المستدرك للحاكم) ورضي الله تعالى عن ساداتنا أصحاب رسول الله الغر الميامين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن الصحابة أجمعين والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى اليوم الدين .

ثم أما بعد : معاشر المسلمين تحتفي الأمة الإسلامية في كل عام بميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث تقام الأسابيع العلمية وتعقد الندوات وتلقى المحاضرات وتجرى المسابقات وتنشد الأشعار بمدح خير البرية وذكر شمائل المصطفى وسيرته العطر من الميلاد إلى الوفاة والسر العجيب أن كل ذلك يتم منذ أمد بعيد ويعاد في كل عام ولكن لا تمل الآذان من السماع ولا تكل الهمم ولا تسأم النفوس من السيرة والمسيرة المباركة لخير البرية ، بل وفي كل يوم تُكتشف جوانب من عظمة شخص رسول الله في مجالات عدّة من نواحي الحياة .

والسؤال المطروح لماذا كل هذا الاحتفاء والاعتناء بشخص وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ما السر وراء ذلك ؟ وماذا قدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم للبشرية حتى تحظى سيرته وشمائله وخصائصه بل والشريعة التي بُعث بها بكل هذه العناية والرعاية والحفظ والدراية من المحبين والمنصفين من المخالفين ، بل قد يطرح سؤال آخر لماذا يُهاجم الحاقدون والمتحاملون من مستشرقين ومستغربين تشكيكا وتشويها .

إن الجواب على هذه الأسئلة وإن كان يتطلب أسفارا ومجلدات تتكلم عن سماحة الإسلام وعظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أننا سنقتصر في هذه الخطبة على الخطوط العريضة والعناوين الكبرى لأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحضارة الإنسانية وهذا الأثر دائم مستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .

ومن هنا وجب علينا أن نسلط الضوء على حالة العالم قبل البعثة النبوية الشريفة وكيف كانت البشرية تعيش جاهلية جهلاء أفلت خلالها شمس الحضارة وذبلت زهور قيم الخير والفضيلة ، واندرست معالم الحق ، وأطبق الباطل وعم ّالكفر بمختلف صوره من عبادة الأوثان إلى عبادة الظواهر الطبيعية وعبادة الحيوانات ، حتى تلكم الحضارات التي ادعت بهتانا وزورا تبني ديانات توحيدية كالنصرانية أو يهودية أدخلت عليها وثنيتها وانحرفت عن جادة الصواب وحُرفت كتبها السماوية ، ومن بقي منهم على منهج الحق ودعوة التوحيد هام على وجهه في الفيافي والقفار ، واعتزل الناس في الديرة والصوامع

وأما الحنفاء وهو قلة قليلة من الموحدين والبقية الباقية من ملة إبراهيم والحنفية السمحة ورغم انهم لم يكونوا سوى في شبه الجزيرة العربية ولم يكن لهم اثر يُذكر ولا صوت يُسمع .

فضلا عن استقواء أهل الباطل وانتشار الحروب في الشرق والغرب من المعمورة  أتت على الأخضر واليابس ، أٌبيدت فيه ملايين من البشر وأٌهلك الحرث والنسل وأندثرت حضارات

كما كان للرذيلة والفساد القدح المعلى في حياة الأمم والشعوب حتى غدت الفضيلة والعفة كشعرة بيضاء في ثور أسود ونجم ضوؤه باهت في غمرة ظلام دامس ولم يبق للبشرية من ملجا إلا أولئك الدجاجلة من الكهنة من مختلف الحضارات أدعياء الاتصال بعالم الجن الذين يوهمون الناس بعلاقاتهم بعالم الغيب وهذا ماحدى بالجن أن تقول عند بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد مُنعوا الخبر من السماء :{ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا }(الجن: 8، 9، 1)

أما العرب فلم يكونوا سوى أمة أمية لا يطمع فيها طامع ولا يحسب لها حساب ضمن معادلة الصراع الكوني ، وما كان من كيانات لعرب في الشام أو الحيرة بالعراق فهي كيانات هزيلة تابعة للروم أو الفرس كشأن الغساسنة والمناذرة.

وما إن بعُث رسول الهدى صلى الله عليه وسلم وبعد سنوات من الدعوة السرية وبناء القاعدة الصلبة وصناعة جيل التمكين حتى تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من صناعة الإنسان الخليفة إنسان الفطرة السليمة الحامل لرسالة الله الخالدة بأبعادها الثلاثية الخلافة والعمارة والعبادة  مصداقا لقوله تعالى :{ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ }(يونس:14) وقوله تعالى :{ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } (هود:61)وأما العبادة فلقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات 61).

هذا هو الإنسان  الذي صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم صناعة فريدة وفي فترة وجيزة ، حرّر فيها النفوس من الهوى والعقول من الخرافة والدجل ، والأخلاق من الفجور والسقوط، قال تعلاى {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد:11)

فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفرغ العقول من الخرافة والتصورات المنحرفة عن عالمي الغيب والشهادة ، ثم يملؤها بالإيمان الحق والتصورات السليمة عن الغيبيات وفق قاعدة التسليم بها وفق ما  جاء به الوحي المسطور .

يفرغ النفوس من الهوى والحيرة والاضطراب ويملؤها بالرضا والطمأنينة والتقوى والربانية

يفرغ الأخلاق من الانحطاط والرذيلة والفضاضة والغلظة ، ويملؤها بالفضيلة والبر والإحسان والرحمة والرقة .

هذا هو الإنسان الذي صنعه رسول الله صلى الله عليه وقدّمه نموذجا راقيا لأمم عربها وعجمها نموذج  جمع بين الربانية والبشرية يستجيب لنداء الغرائز التي يستجيب لها كل البشر ولكن وفق منهج سوي منضبط بضوابط الشرع وطهرت نفوسها من كل حظوظ النفس ولم يبق لها من حظ سوى أن ترى منهج الله مقاما على الأرض . 

هذه الصناعة للإنسان الخليفة ظلت وستظل مستمرة ما دامت السموات والأرض ولم تنقطع بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم  و مازال أحباب رسول الله موجودين عاملين مجاهدين لتمكين دين الله وخاصة وقد عادت الجاهلية في أبشع صورها جسدتها الحضارة الغربية وطغيان المادة وانتشار الإلحاد وسيادة الظلم والطغيان وقد أخبرنا رسول الله عن الإنسان الخليفة المقتفي لأثر الصحابة الكرام حينما قال "وددت لو أرى إخواني قال الصحابة أو لسنا إخوانك ،قال بل أنتم أصحابي إخواني قوم أمنوا بي ولم يروني أجر الواحد منهم كأجر الخمسين قالوا منا أم منهم قال بل منكم" (مسند أحمد) خلاصة هذا الإنسان الخليفة الذي قدمه رسول الله للبشرية صانعا فاعلا في الحضارة الإنسانية عبد لله سيد في الكون ، مسلم متبع  للغيب مبدع في عالم الشهادة  مفجر لمكنونات الكون وطاقاته وإمكاناته ، وهذا ما جعله يؤسس حضارة راقية بُنيت على أساس العدل والحق والتعاون والتحاور والتشاور والتجاور

حضارة تقوم على الربانية  لا الرهبانية ، تقوم على العدل لا الظلم ، وتقوم على العزة بدون غطرسة وتسامح بدون مذلة وهوان، وقوة بدون طغيان وتعدي ، وتعاون بدون ذوبان .

 قدّم رسول الله للحضارة الإنسانية بديلا متكاملا يقوم على العقيدة الصافية والعبادة السليمة والفكر المستنير ونظم تشريعية متكاملة تجمع بين الواقعية والمثالية في نسق متكامل في الحدود الفطرة البشرية والله ولي الهداية والتوفيق.

فاللهم اجز عنا نبينا محمد خير ما جزيت به نبيا عن قومه، فقد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد في سبيلك حتى أتاه الله، وارزقنا محبته والاقتداء به والعمل بسنته والتبليغ عنه، وصل عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النار، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.

 

 


: الأوسمة


المرفقات

التالي
ألمانيا تحظر "المركز الإسلامي – السلام" بولاية براندنبورغ بتهمة الارتباط بجماعة الإخوان وحماس
السابق
محكمة هندية تصدر أحكاماً بالسجن مدى الحياة ضد 12 مسلماً.. بينهم دعاة بارزون

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع