بسم الله
الرحمن الرحيم
والصلاة السلام على سيد
المرسلين وصحابته أجمعين والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما
جعلته سهلا وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلا.
بمناسبة حلول شهر ربيع الأول
حيث ذكرى ميلاد النبي الكريم عليه الصلاة والسلام.
وتحت شعار:
"الرحمة المهداة"
وفي إطار حملة التعريف بالنبي صلى الله
عليه وسلم التي أطلقها الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين،
يسعد لجنة الثواب والفكر
الإسلامي بالاتحاد العلمي لعلماء الإسهام بمداخلة علمية عنوانها
"مولد النبي الكريم عليه الصلاة والسلام وطوفان الأقصى"
.. أي علاقة؟
تقديم:
ذكرى ميلاد النبي الكريم عليه الصلاة
والسلام لهذا الموسم، تطل علينا وأمة الإسلام، بل والإنسانية جميعا تعيش ظروفا
استثنائية بكل المعايير، ظروفا خاصيتها الرئيسة الصراع بين الحق والباطل، والتدافع
بين العدل والظلم، والتقابل بين العزة والذل، واقع يشهد عليه ما يدور من أحداث على
أرض فلسطين بعامة وأرض غزة بخاصة.
وبالنظر إلى الصمود الأسطوري للمقاومة الباسلة، وإلى
الثبات التاريخي للحاضنة الشعبية الصامدة، بالرغم من التكالب الصهيوني العالمي والخذلان
الكبير لمعظم الأنظمة الإسلامية العربية، فإن المسألة تثير أكثر من سؤال وتدعو إلى
أكثر من استغراب من معادلة فريدة ينتفي فيها التكافؤ المطلق بين طرفي المعركة: شرذمة
تدعي امتلاك أقوى العتاد يقف إلى جانبها لوبي الشر العالمي تقاتل من أجل الباطل، وفئة
رأس مالها اليقين بخالقها وعدة حازتها بجهدها تجاهد في سبيل الحق وأن تكون كلمة
الله هي العليا.
إنها مفارقة عجيبة بحسابات الدنيا، وبمعايير
الإجرام الصهيوني والتكالب الوحشي العالمي، وحل المسألة لا نحتاج فيه إلى كثير
عناء، وتفسيره بإذن الله بإطار خماسي المعالم.
المعلم الأول: صدق الانتماء إلى الدين، وحسن
الوفاء لسنة النبي الكريم عليه الصلاة والسلام.
فصدق الانتماء إلى هذا الدين وحسن الوفاء
لسنة نبيه الكريم، يقين عابر للدنيا ممتد إلى الآخرة وهو ديدن الأنبياء الكرام
صلوات الله عليهم، قال الله تعالى: [إنَّا أَخْلَصناهُم بِخَالِصَةِ ذِكرىَ الدّارِ]
(ص/45)، وقال عزمن قائل: [إِنَّهمْ كانوا يُسَارِعُونَ في الخَيْراتِ وَيَدْعُونَنَا
رَغَباً ورَهَباً وكانوا لَنَا خَاشِعينَ] (الأنبياء/89).
فالتشوف إلى النعيم الدائم، هو اقتداء بهدي
النبي وتَخَلُّق بسيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وأوجز مسالكه عند أهل فلسطين:
جهاد في سبيل الله، وعشق الشهادة وتضحية بلا ثمن رَغَبا في الجنان ورهبا من
النيران...فهي إذا أفضل الأعمال تنتظم بضاعةً لمعركة طوفان الأقصى، ومقصدها
الأسنى: رضا الرحمن، وحب الشفيع العدنان عليه أفضل الصلاة والسلام، وكل ذلك زاد قوي
على طريق الثبات والصمود.
المعلم
الثاني: حفظ أمانة النبي صلى الله عليه وسلم في أرض فلسطين، وهي من ثلاثة وجوه:
ا- أمانة الأرض، فأرض فلسطين في هَدْيه عليه
الصلاة والسلام، هي أمانة الأمة الواجب حفظها، وحسبنا في المقام أدلة يحصل بها
البيان، نحو قوله صلى الله عليه وسلم:" لا تزال طائفة من أمتي على الحق
ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من جابههم ولا ما أصابهم من البلاء حتى يأتيهم أمر
الله وهم كذلك، قالوا: يا رسول الله، وأين هم؟ قال ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس"،
وقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد
الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى"
ب- أمانة الأهل، فأهل فلسطين هم رَحِم الدين
و إخوة الإيمان الواجب نصرهم وتفريج كربهم وستر عوراتهم، و هم المُحرم خذلانهم والتخلي
عنهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخ المسلم لا يظلمه و لا يسلمه، ومن
كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من
كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة).
فأهل فلسطين هم عضو جسدنا الذي اشتكى من الحمى، و هم دماء
الأمة الزكية التي أريقت، وأعراضها الطاهرة التي انتهكت، قال صلى الله عليه وسلم:
(مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو
تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (رأيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة، ويقول: ما أطيبك، وأطيب ريحك! ما أعظمك،
وأعظم ريحك! والذي نفس محمد بيده، لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك، ماله ودمه
دم، وأن يظن به إلا خيرا).
ج-
أمانة المسجد الأقصى، فالمسجد الأقصى المبارك من مقدسات الأمة بنص قطعي الدلالة
والثبوت، قال الله تعالى:" سُبحان الذي أسْرى بِعبدهِ ليْلاً من المسجد الحَرام
إلى المَسجد الاقصى الذي باركنا حَولهُ،"(الاسراء/1) وعن أم المؤمنين أم سلمة
رضي الله عنها، أنه عليه الصلاة والسلام، قال: (مَن أهل بحَجة أو عُمْرة من المسجد
الأقصى إلى المسجد الحرام، غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" أو: "وجبت
له الجنة")، فتأكد بذلك أن كل تقاعس أو تأخير عن تحرير المسجد الأقصى هو تسفيه
لنصوص قطعية ونقض لأصول الإسلام الثابتة.
ففك قيد المسجد الأقصى المبارك، وتحرير أرض
الرباط، هو حفظ لأمانات الدين والتزام بمنهج النبي الكريم، وهي تكاليف شرعية شرف
بها المؤمنون المفلحون من أنصاره عليه الصلاة والسلام المتبعين لنوره، قال الله
تعالى: [فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون]
(الاعراف/157). فتقرر بذلك أن حفظ الأمانات السابقة هو واجب المؤمنين عموما ولا
تخصيص فيه بأهل فلسطين.
المعلم
الثالث: سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام وفريضة الجهاد
احتفال الأمة بذكرى ميلاد النبي الكريم
مناسبة للتذكير بأفضلية عبادةِ الجهاد، وحثِّ المسلمين على اغتنام معركة طوفان
الأقصى للفوز بهذا الفضل والانخراط فيه كل من موقعه وبوسيلة الميسرة، والحمد لله
الذي جعل طرق الجهاد متنوعة ومسالكه متعددة:
جهاد بالمال وشرفه لا يكابر فيه إلا جاحد أو
معاند، وآي الجهاد بالمال في الكتاب العزيز
أكثر من أن يحاط بها في المقام، منه قول الله تعالى: [انفِروا خِفافا ِو ثِقالاً
وجاهدوا بأموالكم وأنفسِكمْ في سبيل اللهِ، ذلكمْ خيرٌ لكم إن كنتمْ تعلمون] (التوبة/41)،
وذلك لَمّا أن جهاد المال متعدد المنافع مختلف المكاسب، فبالمال يجهز الغازي، فيتضاعف
الأجر، أجر يعود على الغازي الحامل للسلاح، وأجر خاص بالمُجَهِّز الذي وفر المال
لشراء عدة الجهاد، قال صلى الله عليه وسلم: (من جهز غازيا فقد غزا ومن خلف غازيا
في أهله غزا).
وبالمال
نشتري الطعام ونوفر المياه، قال الله تعالى: [ويطعمون الطعام على حبه مسكينا
ويتيما وأسرا] (الانسان/9). وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما آمن بي من
بات شبعانا وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(أفضل الصدقة سقي الماء)، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيما مسلم سقى
مسلما على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم" وغير خاف محنة أهلنا في فلسطين ومعناتهم
مع الجوع والعطش، فهم لا يجدون لقمة طعام تسد رمقهم ولا جرعة ماء تروي عطشهم، ومن
مات بسبب الجوع أو العطش، فمسؤولية عدم توفير أسباب حفظ حياته من الطعام والشراب
يتقاسمها الجميع.
وبالمال توفر الكسوة التي تستر العورات وتبنى
البيوت التي تحفظ آدمية الإنسان. وبالمال يكفل اليتيم وتصان أعراض
الحرائر من الثكالى والأرامل.
وبالمال
تبنى المستشفيات لعلاج المرضى والمعطوبين، وتبنى المدارس لتعليم الأجيال ونشر
العلم ومحاربة الأمية.
والمتتبع
لآيات الذكر الحكيم حيث اقترن الجهاد بالمال بالجهاد بالنفس يلاحظ تقديم الجهاد بالمال
على الجهاد بالنفس، ففضل الجهاد بالمال يعود على صاحبه ويتعداه إلى غيره، أما المجاهد
بنفسه فأجره موقوف على صاحبه، فمن أصل عشر آيات اجتمع فيها ذكر الجهاد بالمال وبالنفس،
تقدم ذكر الجهاد بالنفس في واحدة فقط، حيث قال الله تعالى: [إن الله اشترى من
المومنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة] (التوبة/111) وما بقي من الآيات تقدم
فيها ذكر الجهاد بالمال والترتيب معتبر في القرآن الكريم.
جهاد
النفس، قال الله تعالى: [إن الله اشترى من المومنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة]
(التوبة/ 111) فلا براءة لذمة مسلم وجزء من بلاده ترزخ تحت العدو.
جهاد العلم لمَّا أنه أُخذ عن أهله ميثاق البيان
للناس، قال الله تعالى: [وإذَ اخذَ الله ميثاقَ الذينَ أوتوا الكتابَ
لتُبَيِّنُنَّهُ للناسِ] (آل عمران/187).
جهاد
الدعوة وجماعه الدعوة إلى الله بأداء حقوقه وحقوق عباده اقتداءً بفعل سيد الداعين محمد
صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى:" ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل
صالحا وقل إنني من المسلمين" ( فصلت/33).
فالمناسبة
شرط كما يقال، و طوفان الأقصى مناسبة جَادَت بها الأقدار لأداء فريضة الجهاد بكل
أصنافه، و هو تكليف عام لم يستثن من أحد من المؤمنين، قال الله تعالى:" يا
أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تومنون بالله ورسوله
وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون" (الأحقاف/10).
فعبادة الجهاد قد اقترنت بالإيمان بالله ورسوله،
وهي التجارة الرابحة الجامعة لفضلي الدنيا والآخرة، وخير سارع فيه أهل فلسطين، الخاطب
فيه لجميع أتباع هذا الدين المقتدين بسيرة النبي الكريم عليه أفضل الصلوات
والتسليم.
المعلم الرابع: سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام والانتصار لقيم العدل والحق
فميلاده عليه الصلاة والسلام حق
انتصر، و عدل تنزل، ورحمة وسعت العالمين، ومِنَّة خص بها المولى عز وجل عباده المؤمنين،
قال تعالى: "لقد مَنّ الله على المومنين إذ بعث فيهم رسولا من انفسهمْ".(آل
عمران/164)
فحري بأتباع هذا النبي إحياء قاعدة التدافع بين
الخير والشر، وتجديد آليات التعارك بين الكفر والإيمان والصراع بين الحق والباطل، فنصرة
المظلوم واجب وإحقاق الحق تكليف، ورحمة المستضعف وإغاثة الملهوف مطلوب، وطوفان
الأقصى المبارك مغنم وتركه مغرم.
المعلم الخامس: مولد النبي
الكريم عليه الصلاة والسلام والقيم الإنسانية
لقد كانت بعثته عليه الصلاة والسلام بعثة لمكارم
الأخلاق، قال الله تعالى: "وإنك على خلق عظيم"، ( القلم/4) وقال عليه
الصلاة والسلام: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" ومن أخلاقه صلى الله
عليه وسلم، الصدق والأمانة والكرم وإغاثة الملهوف ونصرة المظلوم ورحمة الضعيف..
وأمام التراجع المخيف الذي تعرفه القيم الإنسانية
في واقعا المعاصر والحاجة الملحة للبشرية إليها، فقد صار لزاما على المسلمين
الاجتهاد في إحياء كل خلق كريم والترويج لكل قيمة نبيلة ولنا في شخص النبي الكريم القدوة،
وفي كسب طوفان الأقصى المبارك الجذوة.
والحمد لله
رب العالمين..
ــــــــــــــــــــــ
* إعداد الورقة: الأستاذة
نزيهة امعاريج؛ عضو مجلس الأمناء. رئيس لجنة الثوابت والفكر الإسلامي بالاتحاد
العالمي لعلماء المسلمين. أستاذة: العقيدة ومقارنة الأديان والفكر الإسلامي
المعاصر - جامعة محمد الأول وجدة المغرب.