البحث

التفاصيل

اكتمال تطور المسيرة البشرية على يد النبي محمد ﷺ (2)

الرابط المختصر :

اكتمال تطور المسيرة البشرية على يد النبي محمد ﷺ (2)

كتبه: د. فهمي إسلام جيوانتو

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

لقد تحدثنا في المقالة السابقة أن رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم جاءت مكملة لماسبقها من دعوات الأنبياء والرسل. ففي هذه المقالة سنكشف ونتأكد أنه بعد وفاة المصطفى عليه الصلاة والسلام لم يتوقف هذا الخير ولم ينطفئ هذا النور ولم تنقطع هذه المسيرة. لقد هيأ الله رسالة الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام للاستمرار إلى قيام الساعة، وهيأ أمته لتحمل مسؤولية الدعوة بعده، بقوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ ‌إِلَّا ‌رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا﴾ [آل عمران: 144]

لقد عالجت هاتان الآيتان صدمتين عنيفتين تعصفان في نفوس المؤمنين، الأولى: لما انتشرت إشاعة مقتل الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد، والثانية: لما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم فتلا أبو بكر الصديق رضي الله عنه هذه الآية على المؤمنين فصحوا ونهضوا وواصلوا المسيرة.

أمة محمد تواصل مسيرة الأنبياء

فلقد جاءت أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى مسرح التاريخ بعد أن تجمّع لدى البشرية رصيد غني بتجارب الأمم، ولا غرو أن تكون هذه الأمة أكثر حظا بتلك التجارب، والفضل لله أولا وآخرا، وله الحمد. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: وَإِنَّكُمْ تُتِمُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ.[1]

وإن على هذه الأمة أن تواصل الجزء المتبقي من مسيرة خلافة أبناء آدم على الأرض. وقد عرض عليها صبر نوح وحِلم إبراهيم وشجاعة موسى وزهد عيسى، وعاش بينهم خُلُق محمد عليه وعلى سائر الأنبياء أفضل الصلاة وأتم التسليم. وأضف إلى ذلك رؤيتها لعواقب الأمم الهالكة وتوبة قوم يونس وثبات أصحاب الكهف وصبر أصحاب الأخدود وحكمة ذي القرنين ... إلى آخر ذلك الكم الضخم من كنوز الماضي الذي حواه القرآن وفصلته السنة وأضافه التاريخ... 

فبذلك فقد تهيّأ لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن تشق طريقها بنفسها، لا تعوزهم الحاجة إلى وجود الأنبياء بينهم مثل بني إسرائيل. قَالَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي.[2]

نعم إن سياسة هذه الأمة موكولة إلى الخلفاء مع أنهم أشخاص غير معصومين، إلا أن الله ائتمنهم على المصالح العامة لهذه الأمة. وإن مسؤولية إرشادها منوطة على علمائها لأنهم ورثوا ما عند الأنبياء من العلم. قال رسول الله عليه وسلم: وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ.[3]

إن ما تفضّل الله به على هذه الأمة يكفي لتأهيلها تحمُّل هذه المسؤولية العظيمة، وإن الله تكفّل بإتيان "البدائل" إذا حدث فيها ارتداد أو انتكاس عن الخط المستقيم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54] وقال تعالى: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا ‌يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [محمد: 38]

وتوالت الأجيال والأقوام والشعوب في حمل هذه الرسالة الخاتمة ونشرها والذود عنها والدعوة إليها، وظلت هذه الأمة تشق طريقها وستظل على طريقها، وقد حدث فيها سقوط أو ركود أو كبوة، وانحرف فيها من انحرف، وفتن من فتن، لكنها لم تعدم فيها من يقوم لله بالحق، قلّوا أو كثروا..

وأول كبوة اعترت هذه الأمة كانت في نظام الحكم والأمور السياسية كما قال صلى الله عليه وسلم: لَيُنْقَضَنَّ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً فَكُلَّمَا انْتَقَضَتْ عُرْوَةٌ تَشَبَّثَ النَّاسُ بِالَّتِي تَلِيهَا وَأَوَّلُهُنَّ نَقْضًا الْحُكْمُ وَآخِرُهُنَّ الصَّلَاةُ.[4]

هي كبوة ظلت قرونا وقرونا ولكنها لا تدوم، ولم تخل من محاولة إصلاح أو فترات صعود بعد هبوط، فقد قال عليه الصلاة والسلام: تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ."[5]

كتب الله لهذه الأمة التجدد المستمر، فإنها تولد حركة تجديدية في كل قرن، كما أخبر عن ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: "إن الله عز وجل يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة ‌من ‌يجدد لها دينها."[6]

فهي أمة تجدد نفسها باستمرار، وكيف لا؟ فإن الله قد حفظ لهذه الأمة كتابها ومصدر إشعاعها، ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ ‌لَحَافِظُونَ﴾ [النحل: 9] فإنه مادة متجددة وشروق مستمر على القلوب والعقول.

وهو شأن هذه الأمة التي لا تتوقف عن تصحيح مسارها وتقويم اعوجاجها، فقد أخبر الصادق المصدوق عن هذا التجدد المستمر وهذه الحيوية غير المنقطعة كما رواه الترمذي وأحمد عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله قال: «‌مَثَلُ ‌أُمَّتِي مَثَلُ ‌المَطَرِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ»[7]

ولا تقتصر استمرارية هذه الأمة على استمرارية الوجود بل تستمر فاعليتها أيضا وقدرتها على الغلبة والظهور، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَا يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ.[8]

وفي رواية لمسلم: لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ: فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ: تَعَالَ صَلِّ لَنَا، فَيَقُولُ: لَا إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ، تَكْرِمَةَ اللَّهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ.[9]

وعند أبي داود: لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ حَتَّى يُقَاتِلَ آخِرُهُمْ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ.[10]

قد تكون المرحلة التي نحن فيها تشهد ضعفا شديدا وأزمات مستعصية، لكنها لا تعدو أن تكون مرحلة مؤقتة، وستعقبها مراحل أخرى، وإن مصير هذا الدين معروف ومقرر في كتاب الله تعالى، وإن نصر الله حليفه والظهور والغلبة قدره، قال: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ ‌لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ [الفتح: 28]

وسيتحقق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: "لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ ‌مَا ‌بَلَغَ ‌اللَّيْلُ ‌وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللهُ بِهِ الْكُفْرَ."[11]

وصلى الله على أفضل سيد المرسلين وإمام الخلق أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 



[1] أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن (10/262 رقم: 2927) والنسائي في السنن الكبرى (6/439) وابن ماجه (12/343 رقم: 4278) وأحمد (23/203 رقم: 11158، 40/481 رقم: 19160)

[2] أخرجه البخاري (11/271 رقم: 3196) ومسلم (9/378 رقم: 3429)

[3] أخرجه أبو داود (10/49 رقم: 3157) والترمذي (9/296 رقم: 2606) وأحمد (44/192 رقم: 20723) وابن حبان (1/171 رقم: 88) ورواه البخاري معلقا في كتاب العلم بَاب الْعِلْمُ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ.

[4] أخرجه أحمد (45/134 رقم: 21139) وابن حبان (27/471 رقم: 6839) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/138 رقم: 572)

[5] أخرجه أحمد (37/361 رقم: 17680) والطبراني في الكبير (1/159 رقم: 372) والبيهقي في دلائل النبوة (7/413 رقم: 2843) حسنه التبريزي في مشكاة النبوة (3/167 رقم: 5378) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/4 رقم: 5)

[6] أخرجه أبو داود (6/349 رقم: 4291)  الحاكم في المستدرك (4/567 رقم: 8592) بإسناد صحيح.

[7] أخرجه أحمد عن أنس (19/334 رقم: 12327، 445 رقم: 12460) وعن عمار بن ياسر (31/174 رقم: 18881) والترمذي (5/152 رقم: 2869) عن أنس وقال: وَفِي الْبَابِ عَنْ عَمَّارٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَابْنِ عُمَرَ. وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وأخرجه ابن حبان عن عمار بن ياسر (16/210 رقم: 7226)

[8] أخرجه البخاري (22/286 رقم: 6767)

[9] صحيح مسلم (1/373 رقم: 225)

[10] سنن أبي داود (6/487 رقم: 2125)

[11] أخرجه أحمد (28/115 رقم: 16957)


: الأوسمة


المرفقات

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع