حادثة تفجير أجهزة البيجر: دروس وعبر
بقلم: البروفيسور محمد دمان ذبيح
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على
سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين ثم أما بعد..
إن
حادثة البيجر التي وقعت مؤخرا لتحمل في طياتها العديد من الدروس والعبر، والتي يجب
على أمتنا أن تستوعبها قلبا وقالبا، و فكرا وسلوكا، قال الله تعالى: ﴿فَاقْصُصْ
الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 176].
ولعل
من أهم هذه الدروس مايلي:
- المستوى العلمي
والتكنولوجي الرفيع الذي وصل إليه العدو، في حين أن أمتنا وللأسف الشديد لا تزال
بعيدة عن هذا المستوى المنشود، غائبة في دائرة من التخلف والانحطاط في كل المجالات
والميادين، وإنه الواقع المرير الذي قصده
الشيخ محمد عبدو رحمة الله تعالى عليه عندما قال:
"ذهبت إلى الغرب
فوجدت مائة أسطول حربي رغم أن دينهم يقول: (من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك
الأيسر)، ثم جئت لبلاد المسلمين وبدل أن أجد مائة أسطول وجدت مائة مسطول رغم أن
دينهم يقول: ﴿وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة﴾ [الأنفال: 60]".
ولا شك أن هذا الواقع المؤلم جعل أمتنا تتصف بالغثائية
والهامشية في كل خطوة تخطوها، وفي كل مسافة تقطعها، وهذا طبعا على الرغم من وفرة
إمكانياتها، وكثرة عددها وأرقامها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يوشِكُ
الأممُ أن تداعَى عليكم كما تداعَى الأكَلةُ إلى قصعتِها، فقال قائلٌ: ومن قلَّةٍ
نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنَّكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيلِ،
ولينزِعنَّ اللهُ من صدورِ عدوِّكم المهابةَ منكم، وليقذِفَنَّ اللهُ في قلوبِكم
الوهْنَ، فقال قائلٌ: يا رسولَ اللهِ! وما الوهْنُ؟ قال: حُبُّ الدُّنيا وكراهيةُ
الموتِ"
- إن أمتنا اليوم
مطالبة وبشكل عاجل أن تجسد هذه الآية القرآنية على أرض الواقع: ﴿وَأَعِدُّوا
لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ
عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ
اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ
وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 60].
لاحظ معي كلمة "قوة" جاءت نكرة لتفيد
العموم؛ أي: من كل قوة، سواء كانت قوة إيمانية، بدنية، علمية، اقتصادية، سياسية،
عسكرية... إلخ، أما كلمة "وأعدوا" جاءت دون قرينة تصرفها عن
الوجوب، ومن المعروف عند الأصوليين إذا جاء الفعل بصيغة الأمر دون قرينة صارفة،
فإنه يكون للوجوب، أي: يجب عليكم أيها المسلمون الإعداد في كل المجالات.
وهذا الذي أكده النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "وَأَعِدُّوا
لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ألا إنَّ القوَّةَ الرَّميُ ألا إنَّ
القوَّةَ الرَّميُ ألا إنَّ القوَّةَ الرَّميُ".
وفي هذا بلا شك دعوة صريحة للأخذ بالأسباب المادية والمعنوية
معا، والتي تحمي بيضة الإسلام والمسلمين من كل خصومها وأعدائها الذين يتربصون بها
الدوائر في كل آن وحين.
- يجب أن تغير
الأمة مفهومها إلى مصطلح: "العلم" ، فهو مصطلح يشمل كل المعارف
والتخصصات، وليس قاصرا فقط على العلوم الشرعية، فكل علم يجلب مصلحة، ويدرأ مفسدة
فهو علم نافع واجب على الأمة الاشتغال به، والاهتمام به بكل ما تحمل الكلمة من
معنى، وهذا هو التدين الصحيح الذي يرفع الأمة، ويعيد لها مجدها الضائع، يقول الشيخ
محمد الغزالي رحمة الله تعالى عليه : "إن كل تدين يجافي العلم، ويخاصم الفكر،
ويرفض عقد صُلح شريف مع الحياة .. هو تدين فقد كل صلاحيته للبقاء."
- إن أمتنا
الإسلامية يجب أن تعمل على إظهار عزتها وقوتها، من أجل الحفاظ على هيبتها داخليا
وخارجيا، وبالتالي لا يستطيع أحد أن يتجرأ على المساس بتاريخها، ومقدساتها، وانظر
معي إلى هذا الحديث النبوي الشريف: "قَدِمَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عليه وسلَّمَ وَأَصْحَابُهُ مَكَّةَ، وَقَدْ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، قالَ
المُشْرِكُونَ: إنَّه يَقْدَمُ علَيْكُم غَدًا قَوْمٌ قدْ وَهَنَتْهُمُ الحُمَّى،
وَلَقُوا منها شِدَّةً، فَجَلَسُوا ممَّا يَلِي الحِجْرَ، وَأَمَرَهُمُ النبيُّ
صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ أَنْ يَرْمُلُوا ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ، وَيَمْشُوا ما
بيْنَ الرُّكْنَيْنِ، لِيَرَى المُشْرِكُونَ جَلَدَهُمْ، فَقالَ المُشْرِكُونَ:
هَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أنَّ الحُمَّى قدْ وَهَنَتْهُمْ، هَؤُلَاءِ
أَجْلَدُ مِن كَذَا وَكَذَا، قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ
يَأْمُرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الأشْوَاطَ كُلَّهَا، إلَّا الإبْقَاءُ عليهم."،
فالنبي صلى الله عليه وسلم كما نرى أمر الصحابة رضي الله عنهم بالرمل ليظهروا
قوتهم أمام المشركين، حتى لا يمسهم أحد بسوء ، أو أذى مهما كان نوعه.
- إن خدمة هذا
الدين، وتبليغه على أحسن وجه مرتبط، أو مشروط بمدى تحقيق المستوى الذي يجعل أمة
الإسلام في مصاف الأمم المتقدمة، والمتحضرة، يقول مالك بن نبي رحمة الله تعالى
عليه: " لا بد للمسلم أولا أن يساهم في بناء مجتمعه، كي يستطيع التكلم مع
الآخرين الند للند، وهو المسؤول عن تعطيل تبليغ الدعوة للعالم، فكيف له أن يبلغ
الدعوة لأناس هو في نظرهم، وليس في نظرنا أدنى منهم."
وأخيرا أتمنى أن تعي أمتنا هذه الدروس، حتى لا تتكرر حادثة
أجهزة البيجر وغيرها، فنبينا صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يُلْدَغُ
المُؤْمِنُ مِن جُحْرٍ واحِدٍ مَرَّتَيْنِ. "،
ورب ضارة نافعة، ورب محنة تحمل في طياتها منحة. تم بحمد الله تعالى وتوفيقه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* البروفيسور محمد دمان ذبيح؛ عضو الاتحاد العالمي
لعلماء المسلمين، جامعة محمد العربي بن مهيدي أم البواقي/الجزائر.