بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه، ومن
اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
الرسول ﷺ الرحمة المهداة للعالمين، ونماذج من تجلياتها في أجناس
الخلق أجمعين
بقلم: الأستاذ
بن سالم باهشام
عضو الاتحاد
العالمي لعلماء المسلمين
حصر بعثة
الرسول صلى الله عليه وسلم لرحمة كل المخلوقات
قال تعالى في سورة الأنبياء: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ
إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:
الآية 107]، لقد جاءت هذه الآية مشتملة على وصف جامع لبعثة محمد صلى الله عليه
وسلم، ومزيتها على سائر الشرائع؛ مزية تناسب عمومها ودوامها، وذلك كونها رحمة
للعالمين.
إن سياق هذه الآية جاء في سورة الأنبياء، فبعد أن
تحدث سبحانه عن الأنبياء المرسلين عليهم السلام قبل الرسول صلى الله عليه وسلم،
ومميزات رسائلهم، فقال سبحانه في وصف شريعة موسى وهارون عليهما السلام: (ولقد
آتينا موسى وهارون الفرقان) [الأنبياء: 48]، وقال في إبراهيم عليه السلام: (ولقد
آتينا إبراهيم رشده) [الأنبياء: 51]، والآيات التي بعدهما في وصف ما أوتيه
الرسل السابقون. تحدث عن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي
جعله رحمة للعالمين، ويدل لهذا
المعنى ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه البزار، والطبراني في الصغير،
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إنما بعثت رحمة
مهداة) [أخرجه الطبراني كما في مجمع الزوائد (8/257)، قال الهيثمي (8/257):
رجاله رجال الصحيح. والطبراني في الصغير (1/168، رقم 264)، والحاكم (1/91، رقم
100)، والطبراني في الأوسط (3/223، رقم 2981)].
وما دام الرسول صلى الله عليه وسلم هو خاتَم الأنبياء
والرسل عليهم السلام، إذ لا نبي بعده، وما دامت بعثتُه للناس كافة، وللزمن كله إلى
أنْ تقوم الساعة، بخلاف الرسل السابقين عليه؛ والذين جاؤوا لفترة زمنية محددة،
ولقوم بعينهم، فإن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم جاءتْ رحمةً للعالمين جميعاً؛
لذلك لا بُدَّ لها أنْ تتسعَ لكل أقضية الحياة التي نعاصرها، والتي يعاصرها خَلَفُنا
من بعدنا، وإلى يوم القيامة.
وكما نفهم من قول الله تعالى من سورة الفاتحة: (الْحَمْدُ
للهِ رَبِّ الْعَالَمِين) [الفاتحة:2]، أنّ الله جلّ وعلا ربّ كلّ شيء فِي هذا
الوجود ومليكه، فكذلك علينا أن نفهم من قول الله تعالى من سورة الأنبياء: (
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) [الأنبياء:107]، شمولَ
الرحمة بِالنبيِّ صلى الله عليه وسلم لكلّ شيء فِي هذا الوجودِ: الإنس والجنّ
والملائكة، والحيوان والنبات والجماد، ولا عجب في ذلك ولا غرابة، فالله تعالى
يختصّ برحمته من يشاء، وَالله ذو الفضل العظيم. فمعنى العالمين في الآية، كُلُّ ما سوى الله عز وجل، فكيف تكون
رسالة محمد صلى الله عليه وسلم رحمةً لهم جميعاً؟
لقد زيّن الله مُحَمّداً صلى الله عليه وسلم بزينة
الرحمة، فكان صلى الله عليه وسلم كلّه رحمة، وجميع شمائله وصفاته رحمة على الخلق،
وحياته صلى الله عليه وسلم رحمة، وحتى مماته رحمة، روى ابن سعد، والحارث؛ كما في
بغية الباحث، عَنْ بَكْرِ
بْنِ عَبْدِ اللهِ الْمُزَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (حَيَاتِي
خَيْرٌ لَكُمْ، تُحَدِّثُونَ وَيُحَدَّثُ لَكُمْ، وَوَفَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ،
تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالُكُمْ؛ فَمَا كَانَ مِنْ حَسَنٍ حَمِدْتُ اللَّهَ
عَلَيْهِ، وَمَا كَانَ مِنْ سَيِّئٍ اسْتَغْفَرْتُ اللَّهَ لَكُمْ) [أخرجه ابن
سعد (2/194)، والحارث كما في بغية الباحث (2/884 رقم 953)]، وكما
قال صلى الله عليه وسلم
فيما رواه مسلم، عن بريدة بن عبد الله بن أبى بُرْدَةَ، عن أبى موسى رضي الله عنه،
أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله إذا أراد رَحْمَةَ أُمَّةٍ من عباده، قبض نبيها
قبلها، فجعله لها فَرَطًا وَسَلَفًا بين يديها، وإذا أراد هلاكها عَذَّبَهَا ونبيُّها
حَيّ؛ فَأَهْلَكَهَا وهو ينظر، فَأَقَرَّ عَيْنَهُ بِهَلَكَتِهَا حين كَذَّبُوهُ
وَعَصَوْا أَمْرَهُ ) [أخرجه
مسلم (4/1791، رقم 2288)، وابن حبان (15/22، رقم 6647) [، والفَرَط بفتح الفاء والراء: هو الذي يتقدم
الواردين فيهيئ لهم ما يحتاجون إليه.
رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم
المهداة للملائكة عليهم السلام
من تجليات رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم للملائكة، أن
جبريل - عليه السلام، وهو سيد الملائكة - كان يخشى العاقبة، وكذلك مَن دونه من
الملائكة من باب أولى وأحرى، حتى نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم قوله تعالى من
سورة التكوير: (ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العرش مَكِينٍ) [التكوير: 20]،
فاطمأن جبريل عليه السلام وأَمِن.
رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم
المهداة للجن
إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسل إلى الجنّ،
كما هو مرسل إلى الإنس، وإذا كان صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، فهو رحمة
للجنّ، كما هو رحمة للإنس، وقد ثبت في القرآن الكريم، والسنّة والسيرة الشريفة أنّ
النبيّ صلى الله عليه وسلم اجتمع أكثر من مرّة بالجنّ، ودعاهم إلى الله تعالى،
وبلّغهم دعوة الحقّ. والجن مكلَّفون
بالإيمان بالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وبلوغ دعوة نبينا محمّد صلى الله عليه
وسلم لعالم الجن، قال الله تعالى في سورة الجن: ( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ
أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا
عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا
أَحَدًا)[الجن:1 ــ2].
وقال الله جلّ شأنه مخاطباً نبيّنا محمّداً صلى الله
عليه وسلم في سورة الأحقاف: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ
الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا: أَنصِتُوا،
فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِين * قَالُوا يَا قَوْمَنَا
إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ
يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيم * يَا قَوْمَنَا
أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ
وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيم * وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ اللهِ فَلَيْسَ
بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي
ضَلاَلٍ مُّبِين) [الأحقاف:29 ــ32]. وروى مسلم في كتاب المساجد ومواضع
الصلاة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( وَأُرْسِلْتُ
إِلَى الخَلْقِ كَافَّةً) [رواه
مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة 812]. والجنّ من الخلق. وفي رواية: (وَكَانَ
النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ، وَبُعِثْتُ إِلَى الجِنِّ وَالإِنْسِ)[رواه
البزار، وانظر لفظ البزار في فتح الباري للحافظ ابن حجر 6/345].
رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم
المهداة لعالم الطيور والحيوان
من تجليات رحمة الرسول الله صلى الله عليه وسلم لعالم
الحيوان والطيور، أن البخاري ومسلم رويا في صحيحيهما، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم-:
(مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ
طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلاَّ كَانَتْ لَهُ الصَّدَقَةُ ) [أَخْرَجَهُ
الْبُخَارِي، عَنْ قُتَيْبَةَ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِى عَوَانَةَ (2/817 ، رقم 2195)،
ورَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، (3/1189 ، رقم
1553)].
وحديث المرأة التي دخلتْ النار في هِرَّة حبستْها، روى
البخاري ومسلم، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله
عليه وسلم- قَالَ : (عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا حَتَّى
مَاتَتْ جُوعًا، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، فَقَالَ لَهَا: وَاللَّهُ أَعْلَمُ،
لاَ أَنْتِ أَطْعَمْتِيهَا وَسَقَيْتِيهَا حِينَ حَبَسْتِيهَا، وَلاَ أَنْتِ
أَرْسَلْتِيهَا فَتَأْكُلَ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا) [أخرجه
البخاري (2/834، رقم 2236)، ومسلم (4/1760، رقم 2242)].
وحديث الرجل الذي دخل الجنة؛ لأنه سقى كلباً كان يلهث؛
يأكل الثرى من شدة العطش، روى البخاري ومسلم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي
بِطَرِيقٍ، إِذْ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا،
فَشَرِبَ وَخَرَجَ، فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ؛ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ،
فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنْ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي
بَلَغَ مِنِّي، فَنَزَلَ الْبِئْرَ، فَمَلَأَ خُفَّهُ، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ
حَتَّى رَقِيَ، فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ،
فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ لَأَجْرًا؟
فَقَالَ: فِي كُلِّ ذِي كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ) [
إسناده صحيح على شرط مسلم. وهو في "الموطأ" 2/929-930، ومن طريق مالك
أخرجه البخاري في "صحيحه" عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْلَمَةَ
الْقَعْنَبِىِّ (2363) و (2466) و (6009)، ومسلم عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ. (2244)]،
قال النووي في شرح صحيح مسلم: ( فيه الحث على الإحسان إلى الحيوان المحترم، وهو ما
لا يؤمر بقتله)، [7/408 (2244)]، وهكذا نالتْ رحمة
الإسلام الحيوان والطير.
رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم
المهداة لعالم النبات
من تجليات رحمة الرسول الله صلى الله عليه وسلم لعالم
النبات، أنه توعد من يقطع النبات دون فائدة بدخول النار؛ روى أبو داود في سننه
بسند صحيح، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُبْشِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : (مَنْ قَطَعَ سِدْرَةً صَوَّبَ
اللَّهُ رَأْسَهُ فِي النَّارِ). [حديث عبد الله
بن حُبشي: أخرجه البيهقي (6/139، رقم 11538)، والضياء (9/237، رقم 215)، وأبو داود
(4/361، رقم 5239)، وابن قانع (2/65)]. وقد
ذكر الإمام أبو داود أن ذلك يعني: من قطع سدرة في فلاة يستظل بها ابن السبيل
والبهائم؛ عبثاً وظلماً بغير حق يصوّب الله رأسه في النار، وفي هذا رحمة وحماية
للأشجار البرية من القطع الظالم، وحماية لأشجار الغابات من القطع الجائر.
رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم
المهداة لعالم الجماد.
من رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجماد، أن
الجمادات هي الأخرى تشتاق وتحن إلى الحبيب المصطفى الذي أرسله الله رحمة للعالمين،
وحنين الجذع إليه مشهورٌ متواترٌ، وقد أفرد له القاضي عياض فصلاً؛ هو الفصل السابع
عشر في كتابه (الشفا) فقال: (فهذا الجذع دبت فيه الحياة، ودب فيه الإدراك من يوم
أن استند عليه رسول
الله صلى الله عليه وسلم؛ ليخطب في الناس ويتلو آيات الله، فلما سمع
الجذع هذا الذكر المبارك، كانت الحياة وكان الشفاء، ولما تظهر آثاره إلا يوم أن
فارقه رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فحن حنين الصبي المشتاق إلى ما يحييه).
إن في قصة حنين الجذع إلى النبي صلى الله عليه وسلم
نرى العجاب، وهي قصة ذكرتها كتب الحديث وبلغت درجة التواتر، وهي أعلى رتب الصحة في
الحديث. هذه القصة تبرز لنا معنى الخُلق الرفيع لتعامل النبي صلى الله عليه وسلم
حتى مع النبات والجماد، الجذع الذي كان نباتًا، ثم مات وجف فأصبح جمادًا، كان يتكئ
عليه النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان يخطب خطبة الجمعة، فلما كثر عدد الناس،
قال أحد من الأنصار: يا رسول الله، ألا نجعل لك منبرًا؟، فقال عليه الصلاة
والسلام: إن شئتم .. فجعلوا له منبراً. فلما كان يوم الجمعة، ومر النبي صلى الله
عليه وسلم بجانب الجذع الذي كان يستند عليه أثناء الخطبة، وتجاوز الجذع، وصعد
المنبر الجديد، وألقى السلام على الناس، وأذن المؤذن، ثم بدأ في خطبته، وفي أثناء
الخطبة، سمع الصحابة رضوان الله عليهم أنينًا يشبه أنين الطفل الذي فقد أمه،
وابتدأ صوت الأنين يرتفع، وأصبح الصحابة يلتفتون يمينًا ويسارًا، ليروا من أين
يأتي هذا الأنين.. وإذا بالأنين يصدر من الجذع الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم
يخطب عنده من قبل المنبر، وظل النبي يخطب، وأنين الجذع يزداد، وهو يبكي على فراق
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس فراقًا يصل إلى بعد في الزمان ولا المكان، ولكن
ثمان خطوات فقط بين الجذع وبين المنبر. فانظروا كيف أن الجذع لم يطق، وهو جماد،
ألا يصبر على فراق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمان خطوات فقط. وظل صوت أنين
الجذع يعلو ويعلو، حتى لم يعد الصحابة يسمعون صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو يخطب، فأوقف النبي صلى الله عليه وسلم خطبته، ونزل من على المنبر، وأقبل على
الجذع، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يربت على الجذع، ويمسح بيده الشريفة
عليه، كما تفعل الأم مع طفلها الذي يبكي، حتى أخذ الجذع يهدأ شيئًا فشيئا حتى سكت،
وضمه إليه وخاطبه وخيره بين أن يكون شجرة مثمرة في الدنيا لا تفنى حتى قيام الساعة،
وبين أن يكون معه في الجنة، فاختار الجذع أن يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم في
الجنة، روى البخاري،
وأبو داود، والترمذي، والبيهقي في "الدلائل" من طريق نافع، عن ابن عمر-
رضي الله عنهما – (أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم، كان يخطب إلى جذع نخلة،
فاتُخذ له منبر، فلمَّا فارق الجذع، وغدا إلى المنبر الذي صُنع له، جزع الجذعُ
فحنَّ له كما تحن الناقة، وفي لفظ فخار كخُوار الثور، وفي لفظ: فصاحت النخلة صياح
الصبي حتى تصدع وانشق، فنزل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فاحتضنه، فجعلت تئن
أنينَ الصبي الذي يُسكَّن فسكن، وقال له الرسول صلى الله عليه سلم: اختر أَنْ
أغرسك في المكان الذي كنت فيه، فتكون كما كنت،
وإنْ شئت أَنْ أغرسك في الجنة، فتشرب من أنهارها وعيونها، فيحن نبتك وتثمر فيأكل
منك الصالحون، فاختار الآخرة على الدنيا)[أخرجه بنحوه مختصراً الدارمي 1/15، والبخاري (3583)،
وأبو داود (1081)، والترمذي (505)، والبيهقي في "الدلائل" 2/556 و557
و557 -558 ]، و قال النبي - صلى
الله عليه وسلم فيما رواه البخاري في صحيحه : (لو لم أحتضنه، لحنَّ إلى يوم القيامة)، [ أخرجه البخاري 2/397
رقم (918) وغيره]. وكان التابعي الحسن البصري
رحمه الله إذا حدث بحديث حنين الجذع يقول: يا معشر المسلمين، الخشبة تحن إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم شوقاً إليه، أو ليس الرجال الذين يرجون لقاءه أحق أن
يشتاقوا إليه؟.
النبي صلى الله عليه وسلم لم تحن إليه قلوبُ المؤمنين
فقط، بل حنَّت إليه الجمادات،
وحنين الجذع شوقًا إلى سماع الذكر وتألمًا لفراق
الحبيب الذي كان يخطب إليه واقفًا عليه وهو جماد لا روح له ولا عقل في ظاهر الأمر
آية من أعظم الآيات الدالة على نبوة الحبيب صلى الله عليه وسلم، وصدق رسالته، وهي
معجزة كبرى على مثلها آمن البشر لعجزهم على الإتيان بمثلها. وهذا الإمام الشافعيُّ -رحمه
الله- يقول: (ما أعطى الله نبياً مثلما أعطى النبي محمداً صلى الله عليه وسلم،
فقيل له: أعطى عيسى عليه السلام إحياء الموتى، فقال الشافعي: أعطى الله نبينا
محمداً صلى الله عليه وسلم حنين
الجذع حتى سُمِعَ صوتُه، فهذا أكبر من ذلك). ومن عجائب النبات الذي توصل
إليه العلم حديثا، أنه يشعر ويتألم؛ بل ويخاطب النباتات من حوله! وحادثة حنين جذع
النخلة للنبي - صلى الله عليه وسلم- دليل على ذلك الذي انتقده المشككون والملحدون،
حيث قالوا: هل يعقل أن النبات يشعر ويحن ويتألم؟ ولكن جاء الجواب من باحثين
أمريكيين غير مسلمين، فأكدوا أن النبات لديه إحساس بالألم، بل ويفرز مادة مسكنة
لألمه، بل ويحذر بقية النباتات من الأخطار بواسطة مادة يفرزها. وأمام
هذه الحقيقة، لا نملك إلا أن نقول: سبحان الله! فمن الذي علم النبات إفراز هذه
المادة المسكنة أثناء تعرضه للألم؟ ومَن الذي زوَّده بهذه الأجهزة الدقيقة لإفراز
المواد الكيميائية لتحذير الآخرين أثناء الإحساس بالخطر؟ إن الذي خلق النبات وزوده
بهذه العجائب، قادر على جعل الجذع يحنّ ويئن إلى فراق رسول الله - صلى الله عليه
وسلم-!.
ومن رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجماد، أن الأحجار
تسلم عليه صلى الله عليه وسلم، روى مسلم في صحيحه، عن جابر بن سمرة رضي الله
عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه سلم): إني لأعرفُ حجراً كان يُسلِّم عليَّ قبل أن
أبُعث، إني لأعرفه الآن) [رواه مسلم (4/1782( رقم(2277)، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي وتسليم
الحجر عليه قبل النبوة]، وروى البخاري في صحيحه، عن أبي حميد - رضي الله عنه- قال:
(أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه سلم من
غزوة تبوك، حتى إذا أشرفنا على المدينة قال: هذه طابة، وهذا أحد، جبل يحبنا ونحبه)،
[ البخاري،
الفتح، (7/731) رقم(4422) ، كتاب المغازي، باب نزول النبي الحجر].
خاتمة
إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين،
وهذه خاصية تميزه عن سائر الخلق أجمعين، فنحن أتباعه يجب أن نكون رحمة في
العالمين، رحمة في أنفسنا وأهلينا وذوينا ومجتمعنا، وفي الناس أجمعين، بل في كل
المخلوقات، فمن لا يرحم لا يرحم، روى البخاري في الأدب المفرد، عن سعد بن عبادة رضي الله عنه، أن الرسول صلى الله عليه
وسلم قال: (...إن الله لا يرحم من عباده إلا الرحماء). [البخاري في الأدب المفرد
ج1/ص181 ح512]. وروى
أبوداود والبيهقي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِىَ
اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- قَالَ : ( الرَّاحِمُونَ
يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ). [أخرجه أبو داود (4/285 ، رقم 4941) ، والبيهقي
(9/41 ، رقم 17683)]، وأعلى تجليات الرحمة في الناس، الحرص بكل الوسائل المتاحة
والممكنة لدعوتهم لدين الإسلام، دين الرحمة. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.