البحث

التفاصيل

لا تنتظروا المهدي بل كونوا مهديين

الرابط المختصر :

لا تنتظروا المهدي بل كونوا مهديين

كتبه: د. فهمي إسلام جيوانتو

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

تعَلَّق أمل كثير من الناس بمجيء شخص في آخر الزمان يقلب العالم من حالة الشر المحض المستشري إلى الخير المحض العام في فترة وجيزة، وغالبا تحدث مع ذلك أمور خارقة للعادة. وهذه تصورات شعوب وأمم كثيرة في العالم، على اختلاف أديانهم وطوائفهم. فاليهود ينتظرون "المخلِّص"، والنصارى ينتظرون نزول المسيح...

أما المسلمون، فهم في ذلك مذاهب عدة، لخصها ابن القيم رحمه في أربعة أقوال:

القول الأول: أنه المسيح ابن مريم وهو المهدي على الحقيقة.

القول الثاني: أنه المهدي الذي ولي من بني العباس، وقد انتهى زمانه.

القول الثالث: أنه رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من ولد الحسن بن علي يخرج في آخر الزمان، وقد امتلأت الأرض جورا وظلما فيملأها قسطا وعدلا، وأكثر الأحاديث على هذا تدل.

القول الرابع: أن المهدي هو محمد بن الحسن العسكري المنتظر، الحاضر في الأمصار، الغائب عن الأبصار، وهو قول الرافضة الإمامية.[1]

ويلتحق بهذا طوائف كثيرة ضالة تركب هذه الموجة، كل طائفة تتبني مهديا على مقاسهم، وليس لهم سند علمي معتبر، غير دعاوي فارغة وحجج باطلة لا تستحق الوقوف عليها كثيرا.

أما القول الأول، فاستدل أصحابه بحديث: "لا يزداد الأمر إلا شدة، ولا الدنيا إلا إدبارا، ولا الناس إلا شحا، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس، ولا المهدي إلا عيسى بن مريم."[2] وهو حديث منكر لا يصح.[3]

أما القول الثاني، فاحتج أصحابه بما رواه أحمد في مسنده عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتم الرايات السود قد أقبلت من خراسان، فائتوها ولو حبوا على الثلج، فإنه فيها خليفة الله المهدي.[4]

وهذا - كما قال ابن القيم - لو صح لم يكن فيه دليل على أن المهدي الذي تولى من بني العباس هو المهدي الذي يخرج في آخر الزمان، بل هو مهدي من جملة المهديين. وعمر بن عبد العزيز كان مهديا، بل هو أولى باسم المهدي منه. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي.[5]

وقد ذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه وغيره إلى أن عمر بن عبد العزيز منهم. ولا ريب أنه كان راشدا مهديا. ولكن ليس بالمهدي الذي يخرج في آخر الزمان. فالمهدي في جانب الخير والرشد كالدجال في جانب الشر والضلال.

وأما القول الثالث، فيدل عليه أحاديث كثيرة مستفيضة، بل ذهب بعض العلماء كالسخاوي والسيوطي إلى أنها متواترة. وقد أفرد بعض الحفاظ بالتأليف فيها، منهم الحافظ السخاوي في كتاب سماه "ارتقاء الغرف"، ومنهم ابن حجر الهيثمي في جزء سماه "القول المختصر في أحوال ‌المهدي المنتظر".

وقد قام العلامة ابن خلدون بتضعيف تلك الأحاديث مستندا إلى قاعدة في علم الحديث أن الجرح مقدم على التعديل. فأتى على كل تلك الأحاديث واحدا بعد آخر بطعن في أسانيدها، فلا يكاد يسلم منه حديث. ثم خلص بنتيجة حيث قال: فهذه جملة الأحاديث الّتي خرّجها الأئمّة في شأن المهديّ وخروجه آخر الزّمان، وهي - كما رأيت - لم يخلص منها من النّقد إلّا القليل والأقلّ منه.[6]

وقال صاحب أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب أن أحاديث المهدي: كلها ضعيفَة، ليس فِيها ما يعتمد عليه، لا يغتر بمن جمعها في مؤلفات.[7]

ومن المتأخرين من قال بذلك: الشيخ محمد رشيد رضا والشيخ عبد الله بن زيد آل محمود ومحمد محي الدين عبد الحميد وغيرهم.

وردّ بعض العلماء على هذا، منهم العلامة أحمد الصديق الغماري بكتابه: "إبراز الوهم المكون من كلام ابن خلدون"، أو "المرشد المبدي بفساد طعن ابن خلدون في ‌أحاديث ‌المهدي". ومنهم الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة وبين أن هناك أحاديث صحاحا في شأن المهدي.

والحقيقة أن ابن خلدون لم يرد كل أحاديث المهدي، بل قال: "لم يخلص منها من النّقد إلّا القليل والأقلّ منه."

ولم يتعرض ابن خلدون لأحاديث الصحيحين ألبتة، وقد ورد فيهما ما يشير إلى المهدي وإن لم يكن فيه تصريح باسم المهدي. من ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالكيف أنتم إذا نزل ابن مريم وإمامكم منكم؟[8]

ومن ذلك أيضا: حديث جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَ: فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ: تَعَالَ صَلِّ لَنَا، فَيَقُولُ: لَا، ‌إِنَّ ‌بَعْضَكُمْ ‌عَلَى ‌بَعْضٍ ‌أُمَرَاءُ، تَكْرِمَةَ اللهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ»[9]

ومع كل ذلك يجب هنا تنبيه: أن هذه الأخبار كلها لا تعني أن المطلوب من المسلمين أن ينتظروا المهدي، بل المطلوب منهم أن يكونوا مهديين يعني أن يكونوا ممن هداهم الله إلى الحق المبين ويهتدوا بهدي الله تعالى. وخروج المهدي لا يوجب عليهم أن ينتظروه، أو يتربصوا به السنين. وغياب المهدي أيضا لا يلغي الشرائع، ولا ينسخ الأحكام، ومن علق الواجبات عليه متذرعا بانتظار المهدي فقد خالف هدي الإسلام ونهج المسلمين.

لم يرد حديث واحد ولا آية واحدة يأمرنا بانتظار المهدي. بل الأمر الصريح الذي نزل على المؤمن هو أن يكون مهديا، أن يتبع القرآن الذي هو هدى للمتقين، وهدى ورحمة للمؤمنين، قال تعالى: ﴿فَمَنْ تَبِعَ ‌هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 38] وقال تعالى: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ ‌هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾ [طه: 123] وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ ‌هُدِيَ ‌إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [آل عمران: 101]

ومن الاهتداء بهدي الله اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ﴿وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: 158]، وقال تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ ‌تَهْتَدُوا﴾ [النور: 45]

ولا شيء عندنا من الفرائض والواجبات والشعائر تتوقف على خروج المهدي. وفي ظل أوضاعنا الراهنة التي تتطلب كثيرا من المبادرات الإيجابية والمساهمات الفعالة، فإن الأمة بحاجة ماسة إلى التخلص من العقليات السلبية التي تسحبنا عن المعركة الفعلية. وثقافة انتظار شخص خارق يحل مشاكل العالم ليست من سمات الشعوب الراقية المتحضرة، بل هي من أعراض التخلف والضعف والعجز.

وإن هدي النبي صلى الله عليه وسلم هو أن يقوم الإنسان بفعل إيجابي حتى في أصعب الظروف. روى الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "‌إِنْ ‌قَامَتِ ‌السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ."[10]

وهكذا وجه الإسلام أن يكون الإنسان إيجابيا في كل الأحوال. وكل إنسان يجب أن يختار دوره في هذه الحياة، فكلنا مسؤول عن الأدوار التي يمكنه أن يقوم بها. و﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا ‌مَا ‌آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾ [الطلاق: 7]

﴿وَالَّذِينَ ‌جَاهَدُوا ‌فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69]. وبالله تعالى التوفيق.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.



[1]  انظر: المنار المنيف ص150-155.

[2]  أخرجه ابن ماجه (2/1340 رقم 4039)

[3] انظر سير أعلام النبلاء (10/67) وسلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني (1/175 رقم: ٧٧)

[4]  أخرجه أحمد (5/277 رقم 22441) وفي إسناده: علي بن زيد قد روى له مسلم متابعة ولكن هو ضعيف، وله مناكير تفرد بها فلا يحتج بما ينفرد به (المنار المنيف ص149)

[5]  أخرجه أبوداود (4/200 رقم 4607) وابن ماجه (1/15 رقم 42) والحاكم (1/174 رقم 329، 1/177 رقم 333)

[6] انظر مقدمة ابن خلدون ص389-401

[7] أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب ص٣٤٤

[8] أخرجه البخاري (3/1272 رقم: ٣٢٦٥) ومسلم (1/94 رقم: ١٥٥)

[9] أخرجه مسلم (1/95 رقم: ١٥٦)

[10] أخرجه أحمد (20/296 رقم: ١٢٩٨١) والبخاري في الأدب المفرد (ص242 رقم: 479)


: الأوسمة


المرفقات

التالي
القره داغي: واجب العلماء والأمة إحياء ذكرى "طوفان الأقصى" وتعزيز دعم فلسطين (فيديو)

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع