تفكيك منظومات الاستبداد (٤١): عوائق في طريق
الدعوة إلى الجهاد
بقلم: جاسر عودة
عضو مجلس أمناء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
دعا المجاهدون الأبطال تيجان الرؤوس وعز الأمة في غزة العزة علماء الإسلام إلى أن يتجاوز حديثهم عن الجهاد ما سموه: ”التضامن القلبي واللفظي الخجول“، ودعوا علماء الأمة: ”لتبيان حقيقة الصراع، وبيان شرعية وقدسية معركتنا وفريضة الجهاد للدفاع عن أقصانا وأرضنا المقدسة، بعيدًا عن الخطابات الطائفية التي تفرق الأمة“، وهذه دعوة يحتاجها فعلًا قسم من العلماء الذين لم يتعدى خطابهم ”التضامن القلبي واللفظي الخجول“ أو الذين يشغلون شباب الأمة بمعارك جانبية تضر ولا تنفع، وتفرّق الأمة في وقت تحتاج فيه إلى التعاون حتى مع غير المسلم المساند، فضلًا عن المسلم المجاهد من أهل القبلة والملة.
وأما علماء الأمة العاملين المخلصين -من كل بلاد الدنيا- فقد قالوا وكتبوا في شتى الصور عن فرضية الجهاد في فلسطين -وفي كل أرض يغزوها أعداء المسلمين اليوم-، ولم يكتموا أن الجهاد مفروض على الحكومات الإسلامية التي تتحمل المسؤولية الأولى في الذود عن بيضة الإسلام وعن نفوس المسلمين، وأن الجهاد في هذا السياق مفروض أيضًا على كل قادر من الأفراد بغض النظر عن التقسيمات الوطنية المستحدثة بين الشعوب، وبغض النظر عن نوع الجهاد الذي يمكن أن يقدمه المسلم كل حسب قدرته.
صحيح أن هذه الدعوات لم تكن كافية لتغيير واقعنا الجهادي، ولم تؤثر كما أثرت دعوات علماء الأمة للجهاد التي نقرأ عنها في تاريخ أمتنا المجيد. ويأتي على رأس أسباب ذلك ثلاثة عوائق في طريق الدعوة إلى الجهاد، هي جزء من واقع أمتنا، ومطلوب من العلماء العاملين المخلصين والحركات والمؤسسات الإسلامية -والدول إن شاء حكامها- العمل على تجاوزها، والتي يمكن أن نشير إليها بما يسمح به المقام بما يلي:
أولًا: الطغيان السياسي: النخب السياسية المسلمة النافذة اليوم في البلاد الإسلامية في كل العالم الإسلامي من غرب إفريقيا إلى شرق آسيا -إلا حالات قليلة-، وخاصة في الدول العربية المحيطة بفلسطين، لا يهمها ما يسمونه بـ ”القضية الفلسطينية“ بقدر ما تهمها كراسيها ومصالحها والملأ الداعم لها، والشعب الغافل الذي يحسن الظن بها، بل وتعتبر تلك النخب من يسمونهم بـ ”الإسلاميين“ عقبة العقبات في طريق استقرار حكمهم وتوريثه لأولادهم أو جماعات المصالح التي يمثلونها في الحكم، سواء لشعبية الأحزاب والشخصيات الإسلامية وخطرها في المنافسة على الحكم، أو لخطورة المجاهدين في أرض الرباط على المنافع السياسية والاقتصادية التي يحصلون عليها -بشكل مباشر أو غير مباشر- من التعامل مع الكيان الغاصب. وهم إذن لا يسمحون بأي تأييد للجهاد في أرض الرباط، فضلًا عن الدعوة إليه وحشد الناس له، بل وأصبحوا أخيرًا لا يسمحون للعلماء العاملين بالتعرض للشأن العام أصلًا، ويضربون بيد من حديد على من يخالفهم في ذلك، وهم قد استعدوا لتلك الحرب -التي كانوا يعرفون أنها آتية- على مدار العقد الماضي، فوضعوا صفوة علماء الأمة من كل الاتجاهات وراء القضبان، مع إعاقة وقتل بطيء ممنهج ومتعمد مع سبق الإصرار لهم، وجيشوا الجيوش من الشرطة المحلية والمراقبة الإلكترونية التي تحول دون أن تتحول الدعوات الرمزية التي يطلقها العلماء -البعيدون عن قبضتهم- إلى فرص للحشد الجماهيري للجهاد أو التطوع له، وسمحوا لبعض الناس في قليل من البلدان -في مجال ضيق- بالتظاهر ”السلمي“ تنفيسًا عن غضبهم ليس إلا، ودون أي مردود على الواقع التطبيعي، أي الاستسلامي النفاقي بتعبير أدق.
والنتيجة أن الخيار الوحيد المنطقي لتجاوز تلك العقبة هي دعوة العلماء الناس إلى الخروج على تلك الحكومات وإسقاط شرعيتها، وقد قام بذلك البعض دون نجاح، فهذا لم يعد مطلبًا مقبولًا للجماهير نظرًا للويلات التي عانوا منها خلال العقد الفائت، ومئات الألوف من الأبرياء الذين عذبتهم تلك السلطات بشتى أنواع العذاب خلال نفس العقد، ومثلهم الذين قتلتهم نفس تلك الأنظمة بدم بارد بتهم مفتراة كالإرهاب ومخالفة ولي الأمر والخروج على الحاكم الشرعي، وبالتجويع الممنهج ونقص الدواء والإفقار العام، ثم المخدرات و”الترفيه“ والإعلام المسموم، حتى يتلهى الناس عن قضايا الأمة ونصرة الحق، فضلًا عن الملايين الذين هُجروا من شتى بلاد المسلمين إلى شتى بلاد الدنيا فرارًا بدينهم ونفوسهم، وهؤلاء غالبًا ما يفقدون القدرة والرؤية التي تمكنهم من مواصلة مسيرة التغيير على مستوى الأمة.
وهذه الحكومات ”الإسلامية“ لو توحدت على كلمة سواء لصالح الإسلام لهزموا الإمبراطورية العنصرية المعاصرة وبلطجيتها في الكيان الصهيوني هزيمة ساحقة وسريعة عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا، فهم يملكون -بمجموعهم- قدرًا كبيرًا من ثروات العالم الطبيعية والبشرية بل والنقدية ولو حسبناها بالدولار، ويملكون -بمجموعهم- قدرًا لا يُغلب من السلاح بدءًا من المسيّرات والصواريخ وانتهاء بالقوة النووية، فضلًا عن عدد الجنود الهائل الذي يصل إلى الملايين في بعض الجيوش المسلمة، ولكن الأعداء اشتغلوا على مدار القرن الماضي لتفريق حكوماتهم ولصنع ذلك الفراغ القيادي الهائل في الأمة، وصدقت غولدا مائير رئيسة وزراء الكيان الغاصب -وهي كذوبة- حين كتبت في مذكراتها التي نُشرت قبل نصف قرن تقول: ”سيفاجأ العرب ذات يوم أننا أوصلنا أبناء إسرائيل إلى حكم بلادهم“. ولكن على أي حال، فالتغيير قادم لا محالة، والأيام دول، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ثانيًا، عدم امتلاك المسلمين لوسائل تواصلهم: لطالما دعا من لهم دراية بالأمور التقنية من العلماء -وما زالوا يدعون- إلى أن امتلاك الأمة لوسائل اتصال خاصة بها من فروض الكفاية، وقد حاولت بعض الشركات والدول الإسلامية خلال العقدين الماضيين في هذا المضمار ولكنها لم تصمد أمام ضغوط الأعداء ولم تدعمها حكومات المنافقين، ولكنّ عدم امتلاكنا لهذه المنظومات لا يبرر لنا الاكتفاء بالكلام الخجول عن الجهاد، بل يجب العمل من خلال المساحات التي تسمح بها التناقضات الداخلية في المنظومات الحالية، بدءًا من تناقض المصالح التجارية لشركات الاتصالات المعولمة مع الخطوط الحمر التي تفرضها كل شركة حسب سياساتها، وانتهاء بتناقضات تلك الشركات مع بعضها في خضم تنافسها التجاري والمعلوماتي الاحتكاري.
وهذه التناقضات مفيدة وينبغي استثمارها، وهي التي مكّنت القارئ الكريم -كمثال- من قراءة هذا المقال الآن على شاشات حواسب لم يصنعها المسلمون غالبًا، بل صنعتها غالبًا شركات معادية للمكتوب عليه، ومن خلال تطبيقات وبرمجيات شركات معولمة محتكرة لشبكة المعلومات معادية في غالبها كذلك، وعن طريق الحاسبات المركزية في عقد التواصل الشبكي التي لا يملكها المسلمون، وخطوط اتصال وأقمار صناعية، إلى آخرها، وكلها لا يملك منها المسلمون إلا قليلًا، اللهم إلا أنصبة من رؤوس الأموال يدفعها بعض أصحاب الأموال من المسلمين، دون أن يكون لهم نصيب كبير في قراراتها السياسية والأمنية، فضلًا عن أن يملك أهل الجهاد من ذلك شيئًا.
وهذه إشكالية حقيقية نظرًا لأن الجهاد المعاصر يحتاج إلى اتصال وإعلام مستقل عن الأعداء، وهو ما نجح فيه المجاهدون في غزة بعبقرية وإنجاز تاريخي، ولكن الجيوش المسلمة وكثير من الجماعات الإسلامية الأخرى مخترقة في جانب الاتصال، مما يعرضها لخطر داهم إذا حاولت أن تجاهد أعداءها بجدية، والإعلام المسلم -غير النفاقي- يؤدي دورًا لا غنى عنه ولكن يعيبه الالتزام بخطوط حمر محلية ودولية لا تسمح بدعوات الجهاد والحشد له على قنواته، فوجب إذن على من يستطيعون خوض هذا المجال أن يستثمروا التناقضات والثغرات الموجودة داخل المنظومة العالمية الاتصالية والإعلامية المعاصرة وإتاحة طرق اتصال لضمان نجاح المجاهدين في التنسيق والتحشيد.
ثالثًا، الضعف في فقه السياسة الشرعية: كم هو بعيد عن جادة الطريق ذلك الفقه للسياسة الشرعية الذي لا يضع الجهاد كأولوية شرعية فوق كل أولوية في هذه المرحلة، أو ينشغل ويشغل الناس بقضايا فرعية لا تعلق لها بحال الأمة وواجبات الوقت، أو يعتبر المجاهدين خوارج عن طاعة أولياء الأمور، الذين هم جميعهم بلا استثناء مقصّرون في حق الجهاد المفروض، أو يفرق بين أهل القبلة بناء على أطروحات السفهاء والطغاة من هذا الفريق أو ذاك، بدلًا من أن يوحدهم تحت راية الجهاد في الحرب الجارية على أشدها، أو يقدّر أن معارضة الحكام المسلمين المتخاذلين ولو بالتوبيخ العلني ليست هي الخيار الشرعي الأمثل، رغم أنهم يخونون قضية الأقصى وسائر قضايا الأمة عيانًا بيانًا، ويبيعون دماء المسلمين لمن يدفع أكثر، وتظهر عليهم علامات النفاق كلها بلا ريب، أو لا يستوعب أن تقسيمات المسلمين الإدارية الحالية إن جازت من باب تنظيم مصالحهم مؤقتًا فإنها لا تجوز بحال وتصبح بدعة مَقيتة إن كانت حصيلتها هي إثارة نعرات الجاهلية بينهم، وكسر شوكتهم، وإضعافهم أمام أعدائهم، وهو الحاصل اليوم، ودوائر العلماء فيها بلاء كبير من هذه الآراء المنحرفة.
ولكن، رغم العقبات المذكورة فإن الأمل في الله كبير عريض، والنصر قريب إن شاء الله وقادم لا محالة بمجرد أن يتأهل المؤمنون لتحقيق سننه المطردة التي لا تبديل لها ولا تحويل، وقد بدأ بعض ذلك في التحقق، والدعوات الصادقات للجهاد التي يطلقها المخلصون تبلغ أهلها على أي حال، فيستجيبون لها ويجدون الحيل التي يتغلبون بها على العوائق، ثم إن من قُتل من أهل الجهاد -أو الذين يدعون إلى مساندتهم- شهداء كرام، أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم.. والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة
عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.