البحث

التفاصيل

معادلة النهضة المفقودة في حديث المستورد القرشي

الرابط المختصر :

معادلة النهضة المفقودة في حديث المستورد القرشي

بقلم: د. محمد عبد الحليم بيشي

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

منذ قرنين كاملين وسؤال النهضة من التخلّف والاستدراك على مواريث قرون التأخر يدور في أطاريح فكرية متعددة المشارب ومختلفة المناهج، ولكن حضوره في الدوائر الدينية قليل مقارنة بما سواها، نظرا لهيمنة فكريات التقديس، وشيوع أدبيات التبرك بميراث السابقين.

ونظرا إلى أن العقل المسلم لا يزال مشدودا إلى التأصيل، وحُقّ له ذلك إن كان التأصيل حركة منطلقة من الأصول الصحيحة لتجديد المُفكَر فيه والاشتباك مع الواقع المتغير بشروطه الاجتماعية، وفي مقابل ذلك فإنه يكون باطلا ومُبطلا ومعوّقا إذا كان اعتناقا مغمضا للاجتهادات السالفة والمشدودة إلى واقعها التاريخي الذي مضى وانتهى، ولن يعود.

يبدو سؤال النهضة مستهجنا عند بعض الدوائر كلما تعلق الأمر بالمقارنة بالغالب الوقتي، وخاصة الخصيم التاريخي، أي الغرب، ولكن الاستهجان سرعان ما يتبدّد عند فحصه بالمسآلة القرآنية الآمرة بالمقارنة والاعتبار، المقارنة بآجال الأمم والمدن والقرى الناجية والهالكة: ﴿وقرونا بين ذلك كثيرا وكلاّ ضربنا له الأمثال وكلا تبّرنا تتبيرا [ الفرقان، 39 ]

ونجد هذه المقارنة أيضا في السنة النبوية في معادلة النهضة التي عقّب بها عمرو بن العاص على حديث المستورد القرشي عن النبي صلى الله عليه وسلم:" تقوم الساعة والروم أكثر الناس" فقال له عمرو: أبصر ما تقول؟ قال: أقول ما سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم. فقال عمرو: أما إن قلت ذلك، فإن فيهم لخصالا أربعا: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرّة بعد فرّة، وخيرهم لمسكين ويتيم، وخامسة حسنة جميلة وأمنعهم من ظلم الملوك"[مسلم، كتاب الفتن، 2898].

والحديث استشراف من المصطفى لمآلات آخر الزمان وأشراط الساعة، وأن الروم بعد غلبهم سيغلبون، والكثرة كناية عن الغلبة، فهل ستكون الدورة الأخيرة للحضارة والتاريخ للروم؟، وهب هي موقوتة بظروف مشروطة، وهو سؤال مشروع في ظل النبوءات الدينية في الديانات الثلاث، ولكنه يطرح أسئلة أخرى في غلبة الإسلام أيضا، كما في هو في أحاديث أخرى صحيحة دالة انتصاره، ودخوله كل بيت مدر ووبر، فضلا عن الآيات القاطعة بظهور هذا الدين: ﴿هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون [الصف، 9].

والمهم في الحديث هو سؤال النهضة والمقارنة من الخبير الدبلوماسي والرحالة الخرّيت عمرو بن العاص فاتح مصر وداهية العرب، وهي متعلقة بملاحظاته العسكرية والاجتماعية والتنظيمية لواقع الدولة البيزنطية التي خسرت الشام ومصر وإفريقية في الفتوحات الإسلامية، ودخلت في دورة ارتكاس حضاري، حيث صارت أوروبا مرتعا للبؤس والجهل والنتن والفقر في عصر الظلمات ومتاهات الجدل البيزنطي كما وصفها الرحالة المسلمون كابن فضلان، وصاعد الأندلسي، والغسّال، والإدريسي، وغيرهم.

يمكن تلخيص مقومات التماسك الاجتماعي والاستدراك المعرفي والاستعداد الدائم وهي ركائز البناء المهمة في النهضة من خلال تقييم عمرو بن العاص، ومن خلال تنزيله على الواقع المعيش اليوم في مثل بعض التجارب الأخرى فيما يأتي:

1/ المقوم الأول: حضور العقل والتناصف "أحلم الناس عند فتنة".

فهم  في الفترة المعاصرة يلملمون مشاكلهم بسرعة فائقة  وغريبة، وعلى طاولات الحوار بدلا من أسنة الرماح وهدير المدافع، ولا يخربون بيوتهم بأيديهم في الصراعات الداخلية على الحكم أو ما سواه عن طريق استقرار تنظيمات الحكم، ووضوح طرائق انتقال السلطة. في حين فإن الأمة الإسلامية خسرت الكثير  في فترات الفتن المختلفة، وبقيت معضلة الحكم السوءة الكبرى في حياتنا وصدق الحديث:"لتنقضنّ عرى الإسلام عروة عروة أولها الحكم وآخرها الصلاة"[مسند أحمد،21139]، أما أوروبا المعاصرة فقد حلت المشكلة السياسية بصندوق الانتخاب، وتركت الفتن السياسية وراءها ظهريا، وحيّدت الفتن الدينية بين مذاهبها بعد حروب طاحنة طويلة بين الكاثوليك والبروتستانت، أما خلوف المسلمين فتراعهم يسارعون في الفتن المذهبية ويستمرؤون نارها، ويأكلون جمرها بنهم غريب، ولن نستشهد بالتاريخ فما أمَرَّهُ عندما يُفتتح العام الهجري وتأتي عاشوراء بذكرى السكين الذي ذبح الأمة إلى شيعة وسنّة، ولكن فلنلحظ الحاضر المشدود لهذا السعار المذهبي الذي ذهب بالشام والعراق، ونزل بهما إلى دركات الوحشية، فلا حلم ولا رحمة، ولا شفقة ولا رحم، وإنما هو الدهليز المظلم،  والمعتقل النتن، والسكين الرهيب، والذبح  والحرق والسلخ  والسحل للمخالف المغلوب.

2/ المقوم الثاني: سرعة الاستدراك " وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة".

السرعة في تدارك الأخطاء، والبحث عن أسباب التراجع، والقطيعة مع مسببات الهزيمة ميزة عرفها الروم بعد هزيمتهم الكبرى أمام الفرس، فاستعادوا مجدهم بعد بضع سنين، كما استدرك القوط أراضيهم في إسبانيا بعد قرون وحروب متطاولة في أيام الاسترداد، واسترد النورمان صقلية، ورأيناها في ألمانيا المهزومة في الحربين، إذ  أنه وبعد توقيع الاستسلام بادرت النساء بكنس الشوارع، وفُتحت المدارس، ولم تمض بضع سنوات حتى قام المارد الألماني ليكون القوة والقاطرة التي تقود أوروبا في مغالبة للقدر بالقدر، في حين فإن المصيبة إذا نزلت بنا بقي الناس صرعاها لقرون استسلاما للخذر والمكتوب.

3/المقوم الثالث: الاستعداد الدائم "وأوشكهم كرة بعد فرّة"

الاستعداد الدائم للصراع طبيعة ملحوظة في الروم وورثهم، وعدم الاستسلام للهزيمة مسلكية عرفناها في الحروب الصليبية التي دامت مائتي سنة مع المسلمين في المشرق، وثلاثمائة سنة في المغرب، ولم تيأس أوروبا فأعادت الكرّة علينا في الاستعمار الحديث والكشوف الجغرافية حتى أمسكت بالخناق، ورأينها في الكرة الألمانية بعد الحربين، وفي التوثب الأمريكي الدائم، وفي المظاهرة الدائمة للكيان الغاصب في فلسطين، حيث لا تتوقف جسور السلاح وحبال الإمداد لتطويل الحياة الظالمة له.

4/المقوم الرابع:" البعد الاجتماعي" وخيرهم ليتيم ومسكين"

رعاية الضعفاء واليتامى عند الروم أثرة من أخلاق المسيح وأخبار الرهبان، وقد ظلت الكنيسة على انحرافها راعية للمجتمع وحامية له من تغوّل السلط الزمانية، فكم انتشرت النصرانية بخبز القساوسة، ولا تزال الخدمة الاجتماعية مضرب المثل، حتى صار شبابنا يتقاطرون على أوروبا، ويشدّون الرحال لبلاد" الحقوق والحريات"، وعلى الرغم من كون الإسلام دين المستضعفين، إلا أن حضور تقاليد البطر والتكاثر والكنز الفظيع قضى على ميراث رسول الفقراء.

5/ المقوم الخامس: الاستبداد المقتول: "وخامسة حسنة جميلة وأمنعهم من ظلم الملوك"

فهم لا يتركون حكامهم يظلمون، فلكل حقه وواجبه، فمنذ النظام الديمقراطي في اليونان، وصولا إلى وثيقة" المجناكارتا (1215م) وأوروبا تحل مشاكلها بالديمقراطية وصندوق الانتخاب، أما العرب فلا يزالون أسرى تقاليد الجاهلية وبرتوكولات الأكاسرة، والتواصي بالتظالم والعضّ بالنواجذ على الكراسي ولو خرّبت الأوطان وهجرها الأنام، وبعض التفكير الفقهي  لا يزال أسير  بعض أحكام السياسة الشرعية المرجوحة، وتجويز إمامة المتغلب ولو جاء على ظهر دبابة أجنبية، وتجريم المُعارض وتسويغ الطاعة غير البصيرة ولا المشروطة "ولو أخذ مالك، وجلد ظهرك". إنها المحنة بكل بشاعتها، فهل كانت ملاحظات عمرو بن العاص إدانة قديمة متجدّدة للتدبير السياسي والاجتماعي عندنا؟.

 

ــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

 


: الأوسمة


المرفقات

التالي
أزمة التعليم في العالم الإسلامي
السابق
قطر.. المؤسسة العامة للحي الثقافي "كتارا" تطلق النسخة الثانية من معرض الكتاب

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع