الاستهلاك وضوابطه في الاقتصاد الإسلامي (1)
البروفيسور: محمد دمان ذبيح
المقدمة
الحمد
لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم المبعوث رحمة
للعالمين، وعلى آله الطيبين ثم أما بعد:
يعد الاستهلاك الهدف أو الغاية الأساسية لكل
النشاطات الاقتصادية، وأحد أهم مؤشرات الرفاهية، حيث تتجه الدراسات اليوم لمعرفة
كل ما له علاقة بالاستهلاك، لكونه محركا أساسيا للتنمية الاقتصادية في المجتمع،
لذا يعتبر الاقتصاديون: " أن نظرية الاستهلاك هي الأساس العلمي لعلم الاقتصاد"،
ومعنى ذلك أن دراسة السلوك الاستهلاكي، وفهم حقيقة الوظيفة التي يؤديها المستهلك
تعد أمرا ضروريا لتفسير كثير من الظواهر، والمشكلات الاقتصادية.
ولكي يقوم الاستهلاك بهذا الدور التنموي
الفعال هناك العديد من الضوابط التي وضعتها الشريعة الإسلامية، والتي تعمل على
ترشيد سلوك المستهلك لكي يحقق هذه الغاية النبيلة في المجتمع، لذا سأحاول بإذن الله تعالى في هذه المقالة المتواضعة أن أبين أهم هذه الضوابط،
وذلك من خلال المحوريين التاليين:
المحور
الأول: مفهوم الاستهلاك
المحور
الثاني: ضوابط الاستهلاك في الاقتصاد الإسلامي
المحور الأول: مفهوم الاستهلاك
يتطرق هذا المحور إلى مفهوم الاستهلاك في
اللغة، وفي اصطلاح الفقهاء، وفي الاقتصاد الإسلامي، والاقتصاد الوضعي، وعليه فقد
قسم هذا المحور إلى مايلي:
أولا:
الاستهلاك في اللغة
ثانيا:
الاستهلاك في اصطلاح الفقهاء
ثالثا:
الاستهلاك في الاقتصاد الإسلامي
رابعا:
الاستهلاك في الاقتصاد الوضعي
أولا: الاستهلاك في اللغة
الاستهلاك في اللغة مأخوذ من الفعل هلك،
يقال هلك يهلك هُلكا وهلكا وهلاكا: مات، ويقال أهلك المال، واستهلكه أي باعه
وأنفقه وأنفده، والتهلكة كل شيء تصير عاقبته إلى الهلاك، والاهتلاك والانهلاك: رمي
الإنسان بنفسه في تهلكة.
أي أن الاستهلاك في اللغة يعني بشكل عام إنفاق
الشيء، أو إنفاده وإفنائه بأي شكل من الأشكال.
وقد وردت كلمة هلك في القرآن الكريم على أربعة
أوجه:
الأول: افتقاد الشيء عنك، وهو عند غيرك موجود، كقوله تعالى:
﴿هَلَكَ عَنِّی سُلۡطَـٰنِیَهۡ﴾
[الحاقة: 29].
الثاني: هلاك الشيء باستحالة، وفساد كقوله تعالى: ﴿وَيُهْلِكَ
الْحَرْثَ وَالنَّسْل﴾ [البقرة: 205].
الثالث: الموت كقوله تعالى: ﴿إِنِ
امْرُؤٌ هَلَك﴾ [النساء: 176].
الرابع: بطلان الشيء من العالم وعدمه رأسا، وذلك المسمى فناء
المشار إليه في قوله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَه﴾
[ القصص : 88].
فهذه
هي الأوجه التي ذكرها العلماء عند ورود كلمة الهلاك في القرآن الكريم.
ثانيا: الاستهلاك في اصطلاح الفقهاء
إذا تتبعنا أمهات الكتب الفقهية وجدنا كثيرا
منها خاليا عن إفراد تعاريف مقصود خاص بالاستهلاك، ولعل ذلك راجع إلى أن هدف
الفقهاء المسلمين يرمي في المقام الأول إلى البحث عن الأحكام العملية، أو قد يكون
الاستهلاك عند هؤلاء الفقهاء جليا لا يحتاج إلى تعريف، ولكن وعلى الرغم من ذلك
فهناك بعض الاجتهادات الجادة في هذا الإطار، وعلى رأسها تعريف العز بن عبد السلام
حيث يعرفه بأنه:
- "إتلاف
لإصلاح الأجساد وحفظ الأرواح كإتلاف الأطعمة والأشربة والأدوية".
- وكذلك يعرفه
صاحب بدائع الصنائع بأنه " إخراج الشيء من أن يكون منتفعا به منفعة موضوعة له
مطلوبة منه عادة".
ومن التعريفين السابقين يتضح أن الاستهلاك
في اصطلاح الفقهاء يعبر عن " إهلاك الشيء بغرض تحقيق منفعة مطلوبة شرعا".
ثالثا: الاستهلاك في الاقتصاد الإسلامي
هناك عدة تعريفات للاستهلاك في
الاقتصاد الإسلامي نذكر منها ما يلي:
- الإتلاف فيما
ينفع، أو زوال المنافع التي وجد الشيء من أجل تحقيقها، وإن بقيت عينه قائمة.
وعرفه آخرون بأنه:
- استنفاد
منافع سلعة.
وعرف
أيضا بأنه:
-
استخدام السلع والخدمات فيما يحقق المنفعة للفرد، مع الالتزام بضوابط الشريعة.
ومن
هذه التعاريف السابقة يتبين أن الاستهلاك في الاقتصاد الإسلامي يعبر عن استخدام
السلع والخدمات من أجل إشباع الحاجات الإنسانية المتعددة في إطار الضوابط الشرعية،
لذا يمكن تعريف الاستهلاك في الاقتصاد الإسلامي بأنه "عمليات الإشباع
المتوالية للحاجات الإنسانية Human Needs بالطيبات"، وهو بهذا المعنى لا يختلف عن مفهومه السابق في اصطلاح الفقهاء، كونه يمثل
الشرط المادي لاستمرار الوجود الإنساني، وبه قوام الطاقات الجسدية والعقلية
والروحية للإنسان، لذلك فهو فرض واجب بقدر ما يشبـع حاجات الإنسـان، ويحقق مقاصد
الشريعة في ذلك، وتجري عليه الأحكام الأخرى على مقتضى قصد الشارع منه، فالاستهلاك
في الاقتصاد الإسلامي إذا ليس مجرد ميل ذاتي من الإنسان تجاه الأشياء التي ترغب
النفس في الحصول عليها، بحيث يجعل منها غاية لذاتها، بل هو وسيلة لغاية أبعد من
محض الاستهلاك لابد من إدراكها واستحضارها، لكي لا يكون المسلم عبدا للأشياء تنتهي
مهمته الوجودية بتحصيلها، فالمهمة المحورية للوجود الإنساني في هذا الكون هي عبادة
الله، تعالى فلا يجوز للمسلم أن ينتج ، أو يستهلك إلا من شأنه أن يكون خادما لتلك
الغاية، لا قاصرا على إشباع نهم النفس، ورغباتها الآنية برفاهية جامحة.
رابعا: الاستهلاك في الاقتصاد الوضعي
في الثلاثية الاقتصادية الكلاسيكية الإنتاج
والتوزيع والاستهلاك يشكل هذا الأخير المرحلة النهائية، حيث تشبع السلع والخدمات
الحاجات الإنسانية المتعددة ويترافق مع
كل استهلاك إنفاق سواء كان نقدا أم رأسماليا، ولقد أعطيت لكلمة الاستهلاك تفسيرات
مختلفة، ولم يتفق الاقتصاديون حول المدلول الاقتصادي الذي يدخل في نطاق الاستهلاك،
وعلى الرغم من ذلك فإنه يوجد عدد من التعريفات التي يلقي كل منها الضوء على زاوية
أو أكثر من جوانب هذا المفهوم، وكلما اشتمل التعريف على عناصر الاستهلاك، وهدف
الاستهلاك، كان هذا التعريف أقرب إلى الصحة، وفيما يلي عرض لبعض هذه التعريفات:
-
هو الإنفاق على السلع والخدمات النهائية، التي تشترى
للحصول على الإشباع المطلوب، أو الحاجة التي تلبى من استعمالها.
كما
عرف أيضا بأنه:
أقصى
استخدام ممكن للدخل في المجتمع.
وبهذا وفي ضوء ما سبق يمكن أن نستنتج أن الاستهلاك في
الاقتصاد الوضعي يستعمل للدلالة على شيئين اثنين هما:
- الاستخدام
المطلق للدخل الفردي في المجتمع.
- الغرض من هذا
الاستخدام هو الحصول على أقصى إشباع ممكن للحاجات الإنسانة.
لذا يمكن تعريف
الاستهلاك في الاقتصاد الوضعي بأنه "الاستخدام المفرط للسلع والخدمات في
المجتمع، بغية تحقيق الإشباع المطلق للحاجات الإنسانية المتعددة".
وبعد
هذا التعريف، وبغية الإحاطة أكثر بمفهوم الاستهلاك، فإن الاقتصاديين يقسمونه إلى
عدة أنواع نذكر منها مايلي:
1) الاستهلاك
الوسيط Intermediary
Consumption
والمقصود بذلك أن
يستهلك الانتاج استهلاكا وسيطا، أي أنه يستخدم بشكله الذي أنتج عليه في انتاج سلعة
أخرى، وهذا الاستهلاك الوسيط هو ما يعبر عنه "بمستلزمات الإنتاج"، أو "السلع
الوسيطة".
2) الاستهلاك
الجماعي Collective
Consumption
وهو الاستهلاك
المشترك بين مجموعة من الناس كالنقل الحضري، وحدائق التسلية، التعليم، والمستشفيات
العامة..
3) الاستهلاك
النهائي Final
Consumption
والمقصود بذلك أن يستهلك الانتاج استهلاكا
نهائيا، بما ينطوي على ذلك من استخدام المنتجات من سلع وخدمات، أو التمتع بها لإشباع
أغراض الاستهلاك، وبحيث لا تختلف عن هذا الاستهلاك سلعة أخرى تصلح لإشباع حاجة ما.
ولعل
من نافلة القول هنا بيان أهمية الاستهلاك، والتي تكمن بشكل عام فيما يلي:
- الاستهلاك
هو النشاط الاقتصادي الأساسي والنهائي. إنه بداية سلسلة من الأنشطة
الاقتصادية التي تهدف إلى تلبية الاحتياجات الفردية، ونهاية سلسلة من الأنشطة
الاقتصادية عندما يرضي المستهلكون احتياجاتهم المختلفة. الاحتياجات.
- الاستهلاك
هو العامل الرئيسي الذي يؤثر على الإنتاج والنشاط.
- يستخدم
الاستهلاك كمؤشر لفهم دور الأفراد غير المنتجين في العمليات الاقتصادية،
وبالتالي وجود العديد من النظريات الاقتصادية التي تسعى جاهدة لتحقيق الدور
الحقيقي للأفراد في العجلة الاقتصادية الشاملة، مثل مبدأ العرض والطلب، وفائض
المستهلك، وقانون تناقص المنفعة الحدية، إلخ.
- تساعد
معرفة نصيب الفرد من الاستهلاك البلدان في صياغة سياسة حكومية؛ مثل تحديد
الحد الأدنى للأجور، والضرائب، والأساسيات والكماليات، ومجالات الادخار
والإنفاق في الولاية.
- يتطلب
الاستهلاك إنتاجا مستمرا ومتزايدا للسلع والخدمات التي تساعد في الحفاظ على
الوظائف، ومنع البطالة وزيادة دخول العمال.
ومن هنا وبعد أن تعرفنا على مفهوم الاستهلاك
في الاقتصاد الإسلامي والاقتصاد الوضعي يتضح أن مفهوم الاستهلاك في الاقتصاد
الوضعي يتفق مع مفهومه في الاقتصاد الإسلامي من حيث الإشباع المستمر لحاجات
الأفراد المتعددة غير أن هذا الاستهلاك من منظور الفكر الإسلامي يختلف عنه في
الفكر الوضعي من أنه:
-
محدد بضوابط الشريعة الإسلامية، الأمر الذي يعمل على
توفير الموارد الاقتصادية، وإشباع الحاجات الأساسية للأفراد بصورة دائمة وراشدة،
وهذا طبعا بخلاف ما نراه في الاقتصاديات الوضعية الداعية إلى الاستهلاك بلا ضوابط،
ولا قيود توجهه الوجهة السليمة، مما أوقعها في سلسلة من الركود الاقتصادي، والأزمات
المتتالية، كالتي نعيشها اليوم، والتي أنهكت كبرى الاقتصاديات في العالم، ودمرت
بنيان كبرى الشركات، وأجبرتها على الإفلاس.
-
كما أن للبعد الأخروي في الاقتصاد الإسلامي الأثر الفعال
في العملية الاستهلاكية، وهذا حتى لا يكون الفرد عبدا للأشياء تنتهي مهمته
الوجودية بتحصيلها، كما هو الشأن في الاقتصاديات الوضعية المختلفة.
-
ومن الناحية العملية فإن الاستهلاك يعد الهدف النهائي،
والأخير من النشاط الاقتصادي في الاقتصاد الوضعي، وأن المتتبع لأدبيات علم
الاقتصاد من الناحية الفكرية والنظرية يرى أن مبحث الاستهلاك هو المقصود النهائي
لمباحث الاقتصاد الوضعي، فالفرد عنده ينتج ليستهلك، وهو يستهلك لمجرد لذة ومتعة
الاستهلاك، وكذلك يعيش ليستهلك، أي يستهلك ليستهلك - إن صح التعبير- ، ومن جهة
أخرى فليست هناك حدود عليا لما يستهلكه الفرد سوى حدود القدرة على الاستهلاك،
ويمكن أن يقال في ذلك أن الاستهلاك دالة متزايدة في حجم سعادة الإنسان، وقد صاغ القرآن
الكريم أبلغ صياغة في ذلك حيث قال سبحانه وتعالى ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا
يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى
لَّهُمْ ﴾ [ محمد :
12]، أما الإسلام ينظر إلى الاستهلاك بمفهوم أعمق من مفهوم الوضعيين، وهو استخدام
المنتجات في إشباع الحاجات، إذ أن الاستهلاك أمر فطري للإنسان، ومن ثم فهو ضروري
له، وكل ما كان كذلك لا يمنعه الإسلام بل يقف منه موقف الحث والترغيب غير مكتف
بدافع الفطرة والغريزة، وذلك لأن بقاء الإنسان، واستمرارية نوعه ليعمر الأرض،
ويكون خليفة فيها، ويعبد الله تعالى، ويقوم بواجباته الدينية لا يتأتى إلا
بالاستهلاك.
يتبع....
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* البروفيسور:
محمد دمان ذبيح: جامعة محمد العربي بن مهيدي – أم البواقي- الجزائر، عضو الاتحاد
العالمي لعلماء المسلمين.