وقوف الاستبداد والوهن ضد تحرير الأقصى
كتبه: د. فهمي إسلام جيوانتو
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
إن
مشروع تحرير الأقصى كان من المهام التي كُلِّف بها موسى وقومه. ولا يتم ذلك إلا
بعد التخلص من قبضة فرعون وجنوده.
فبعد التخلص من قبضتهم جاءت أوامر إلهية بفتح الأرض المقدسة، ولكنهم جبنوا ووهنوا:
﴿قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ
وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا
فَإِنَّا دَاخِلُونَ﴾ [المائدة: 22]
هكذا
فإن الاستبداد والوهن هما المانعان الأساسيان لتحرير الأقصى وفتح الأرض المقدسة
قديما وحديثا.
وهما
آفتان متلازمتان للشعوب المستضعفة، فإن الاستبداد لا يعيش ولا يتغذى إلا من خلال
وهن الشعوب وضعفها. والشعوب المستضعفة لا تدوم على ضعفها إلا بسبب استسلامها
لاستبداد المستبدين.
والاستبداد
منظومة مكتملة موضوعة لقمع الضمائر الحية وكبت الأصوات الحرة. فلا دفاع عن الحقوق
ولا انتصار للمظلوم في ظل منظومة الاستبداد.
فليس
من الغريب أن جعل عبد الرحمن الكواكبي رحمه
الله الاستبداد السياسي آفة الآفات وأصل الداء في العالم الإسلامي قاطبة منذ أكثر
من قرن! فكان كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" صرخة في وعي
الأمة لتستفيق من غفلتها تجاه هذا الداء.
وهذا
الموقف توصّل إليه الكواكبي بعد بحث طويل دام ثلاثين سنة، قال: "... إني قد تمحص
عندي أن أصل هذا الداء هو الاستبداد السياسي، ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية. وقد استقرّ فكري على ذلك —
كما أن لكل نبأ مستقرا — بعد بحث ثلاثين عاما."
وقال: "... طالما أتعبت نفسي في تحليلها وخاطرت
حتى بحياتي في درسها وتدقيقها، وبذلك يعلمون أني ما وافقت على الرأي القائل بأن أصل
الداء هو الاستبداد السياسي إلا بعد عناء طويل يرجح أني قد أصبت الغرض."
وسنفرد
الكلام عن مشكلة الاستبداد في وقت لاحق بإذن الله، فإن له جذورا عميقة وتفرعات
كثيرة تستدعي نفَسا طويلا في النظر والتأمل وجرأة كافية في التشخيص والعلاج.
لننتقل
إلى المانع الثاني من تحرير الأقصى وهو مانع الوهن. وهو مرض نفسي يصيب الأمة فلا
تجرؤ على المواجهة ولا تقدر على التضحية.
ولئن
كانت بنو إسرائيل تخاف من قتال الجبارين القاطنين في أرض فلسطين أيام موسى عليه
السلام، وهم موعودون بالنصر، فإن معظم العالم الإسلامي اليوم – باستثناء فئة قليلة
مباركة موفقة - متهيب أيضا من مواجهة القوى العالمية التي تقف مع الاحتلال
الصهيوني مع علم الناس ببشارة النبي صلى الله عليه وسلم بانتصار المسلمين على
اليهود. ففي الحديث المتفق عليه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «تُقَاتِلُكُمُ الْيَهُودُ
فَتُسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ»
وهذه
الفئة التي شرفها الله بقتال اليهود والانتصار عليهم قد عافاها الله من داء الوهن
الذي أصاب الأمة، الوهن الذي أخبر عنه الحديث: ففي مسند الإمام أحمد: عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ لِثَوْبَانَ: " كَيْفَ أَنْتَ يَا ثَوْبَانُ، إِذْ تَدَاعَتْ
عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ كَتَدَاعِيكُمْ عَلَى قَصْعَةِ الطَّعَامِ تُصِيبُونَ
مِنْهُ؟ "
قَالَ
ثَوْبَانُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ، أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا؟
قَالَ:
"لَا، بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ يُلْقَى فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنُ"
قَالُوا:
وَمَا الْوَهَنُ؟ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ:
" حُبُّكُمُ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَتُكُمُ الْقِتَالَ."
وفي
رواية لأبي داود وأحمد عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى
الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا»
فَقَالَ
قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟
قَالَ:
«بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ،
وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ،
وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ»
فَقَالَ
قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟
قَالَ:
«حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ»
لن
تنهض الأمة إلا بعد التخلص من هذا الوهن. والوهن ليس حالة أصيلة للأمة الإسلامية ولا
ثابتة، كما يتوهمه السطحيون والمحبطون. فهذه الأمة قد أنجبت خالد بن الوليد وصلاح
الأيوبي وألب أرسلان ومحمد الفاتح وغيرهم كثير. فهي حالة طارئة، ويجب العمل على
إزالتها وتغييرها وتضييق دائرتها.
وقد
أرتنا المقاومة في فلسطين وغيرها، أن الأمة لم تزل تنجب أبطالا، إذا مات منهم سيد
قام بعده سادة. وكيف أصابنا الوهن وقد نهانا الله عنه؟ قال تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا
وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل
عمران: 139]
وقال
تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ
فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا
يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 104]
وقال
تعالى: ﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ
وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد: 35]
فهذا
النهي المتكرر يدل أن التخلص من الوهن مطلوب وممكن، ولا تكليف بالمستحيل.
وقد
شهدنا هؤلاء الطائفة التي لا تهن ولا تلين في الدفاع عن المقدسات والجهاد في سبيل الله،
كما قال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ
مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ،
حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ»
وفي رواية لمسلم: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى
الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .»
لنوسع
هذه الدائرة التي تخلصت من الوهن، حيث لا تهاب الموت ولا تركن إلى متع الدنيا ولذاتها،
لتتحرر النفوس من قيود الهوى وشهوات الدنيا، تبذل الغالي والنفيس من أجل هذا الدين
والدفاع عن الحق.
نسأل
الله تعالى الهداية والتوفيق.
——
*
ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.