الحالة
الاقتصاديّة قُبَيل ولادة النّبي صلى الله عليه وسلّم
كتبه: محمد خير
موسى
عضو الاتحاد العالمي
لعلماء المسلمين
كانت العرب تعتمد في تحصيل معاشها وتقوية اقتصادها على
الإغارة والحروب، فكان القويّ يأكل الضّعيف على مستوى الأفراد والقبائل، وهذا مما
جعل الظلم فاشيًا وطاغيًا، إضافة إلى أنّ الربا كان أحد أهمّ أعمدة الاقتصاد
الجاهليّ وعليه تقوم الكثير من المعاملات الماليّة والاقتصاديّة سواء في الأسواق
التجاريّة أو التعاملات الفرديّة الماليّة.
وكان للربا صورتان رئيستان هما
ربا النّسيئة، وربا الفضل.
وأمّا ربا النّسيئة فقد لها له صورتان رئيستان؛
الأولى أخذ الربا على الدّين وصورتُه أنْ يبيع الرجل السّلعةَ لرجلٍ ويكون أداء
الثمن بعد أجلٍ مسمى، فإذا حلَّ الأجل ولم يكنْ عند المشتري ما يوفي به الثمن،
يقول له البائع: أتقضي، أم تربي؟ يعني: تزيدني على ما عليك وأصبر أجلاً آخَر
أو يقول المشتري العاجز عن أداء الثمن: زدني في الأجل
وأزيدك في المال، ومن ذلك ما كانت ثقيف تفعله إذ تُدايِن بني المغيرة في
الجاهليَّة، فإذا حلَّ الأجل قالوا: نزيدكم وتُؤخِّرون، وهذا هو الربا أضعافًا
مضاعفة الذي نهى الله عنه في سورة آل عمران: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ]
وتضعيف الدين يكون في النقد، فإذا كان له عنده مئة دينار
مثلًا يجعَلُها إلى العام القابل مئتين، فإنْ لم يستطع في العام القابل جعَلَها
أربعمائة، وهكذا يُضاعِفها كلَّ سنة أو يقضيه، وكذلك يكون التضعيف في السنِّ من
الحيوان، فإذا كان الدّين ابنة مخاض يجعلها ابنة لبون في السنة الثانية، ثم
حِقَّة، ثم جَذَعَة رباعيًّا، وهلمّ جرًّا.
وأمّا الصورة الثانية من ربا النّسيئة فهي أخذ الرّبا
على القرض إذ قد كان الواحدُ منهم يدفَع ماله لغيره قَرْضًا إلى أجلٍ مسمى بزيادة
وهذه الزيادة هي مقابل امتداد الأجل وتكون على حسب ما يتَّفقان عليه، على أنْ
يأخُذ منه في كلِّ شهر قسطًا من هذه الزّيادة، بينما يبقى رأس المال على حاله، وقد
يُؤخر تسليم الزيادة إلى نهاية الأجل فيقبضها مع رأس المال.
ومما اشتهر من الأمثلة في ذلك أنّه كان عند العباسُ بن
عبد المطلب ورجلٌ من بني المغيرة شريكَيْن في الجاهليَّة سلَّفا ــ أي: أقرَضا ــ
في الربا إلى أناسٍ من ثقيف من بني عمرو فجاء الإسلام ولهما أموالٌ عظيمة في
الربا، فأنزل الله قوله من سورة البقرة: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ” أي: من فضلٍ
كان في الجاهليَّة من الربا.
ومن أمثلة ذلك أيضًا ما كان يفعله بعضٌ من تجار قريش إذ
يستَقرِضون من آحاد الناس بمكة الدراهم والدنانير؛ ليتوسَّعوا بها في تجارتهم في
رحلة الشتاء والصيف، على أنْ يردُّوا أفضل منها إذا رجَعُوا من رحلتهم التجاريَّة،
وكان هذا أحد أسباب تحفيز قريش قاطبةً على النفير حينما استنجد بهم أبو سفيان، حين
بلغهم نبأ اعتراض النبي صلى الله عليه وسلم عيرَهم التي قدم بها أبو سُفيان من
الشام، وكان ذلك سببًا في غزوة بدر.
فهذان النَّوعان من الرّبا هما اللذان عُرفا باسم “ربا
النسيئة” وجاء الاسم من النَّساء، ومعناه التأخير؛ لأنَّ الدائن يأخُذ الربا في
النوع الأوَّل مقابل تأجيل الدَّين الحالِّ إلى أجلٍ مُسمى آخَر، ويأخذه في النّوع
الثّاني على القرض نظير بَقاء المال المُقْرض في الذمَّة، وهما اللذان قال فيهما
النبيُّ صلى الله عليه وسلم معظمًا لشأنهما، مبيِّنًا عظيم خطرهما فيما رواه مسلم
في صحيحه: "إنما الرّبا في النّسيئة"
وأمّا ربا الفضل فصورتُه أن يتمّ بيْع الشيء من
الذهب أو الفضة أو البُرِّ أو الشعير أو التمر أو الملح، أو ما شارَك هذه الأصناف
في العلَّة؛ بنَظِيره، مع تفضيل ــ أي زيادة ــ أحد المبيعين على الآخَر، أو أن
يكون أحدهما مقبوضًا في الحال والآخر مُؤجَّلاً؛ وقد جاء الإسلام بهدمه أيضًا كما
في صحيح مسلم عن أبي سعيدٍ الخدري رضي
الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “الذهبُ بالذهبِ، والفضَّة
بالفضَّة، والبُرُّ بالبُرِّ، والشعيرُ بالشعيرِ، والتمْر بالتمْر، والمِلح
بالمِلح، مِثْلاً بمثْل، يدًا بيد، فمَن زاد أو استَزاد فقد أربى، الآخِذ
والمُعطِي فيه سَواء”، وفي رواية: “مثْلاً بمثْل، سَواء بسَواء، يدًا بيدٍ، فإذا
اختَلفتْ هذه الأصْناف فبِيعُوا كيف شِئتُم؛ إذا كان يدًا بيد”
وفي الصحيحين عن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه قال:
كنَّا نُرزَق تمرَ الجَمْعِ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الخِلْط من
التمر ــ ومعناه الرديء ــ فكنَّا نبيع صاعين بصاع، فبلَغ ذلك النبيَّ صلى الله
عليه وسلم فقال: "لا صاعَيْ تمرٍ بصاع، ولا صاعَيْ حِنطةٍ بصاع، ولا درهمَ
بدرهمين"
وفي روايةٍ قال: جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم
بتمرٍ بَرنِيٍّ ــ وهو نوع جيِّد من التمر ــ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:
“من أين هذا؟” فقال: كان عندي تمر رديء فبعتُ منه صاعين بصاع؛ لنطعم النبي صلى
الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: "أوَّه، عين الربا،
عين الربا، لا تفعل! ولكن إذا أردت أن تشتري ــ يعني: تمرًا جيدًا ــ فبع التمر
بيعًا آخَر ثم اشترِ به"
وكلّ من ربا النّسيئة والفضل هما ربا الجاهليّة الذي جاء
الإسلام بهدمه، ومن اللافت أنّ أهل الجاهليّة رغم اعتياد وانتهاج الربا في
تعاملاتهم الماليّة إلا أنّهم كانوا يعدّونه مال رجس ومن الدّنس الذي يأنفون وضعه
في معالي الأمور، فكان شرطهم على سبيل المثال عندما قرروا إعادة بناء الكعبة ألّا
يضعوا فيها مال ربا.
وحالة الظلم الاقتصاديّ الذي
كان سمة عامّة في الجزيرة من خلال الرّبا، ومن خلال تحصيل الاقتصاد بالإغارة
والنهب جعل الجزيرة فاقدة للأمن إلّا في الأشهر الحرم التي يأمن فيها النّاس على
أنفسهم وأموالهم، لكنّ قريشًا على خلاف سائر أهل جزيرة العرب كانت تعيش الأمن في
اقتصادها وحركتها وأسفارها، وهذا ما يحتاج حديثًا تفصيليًا ــ بإذن الله تعالى ــ
في المقال القادم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي
كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.