البحث

التفاصيل

قصة تمكين المؤمنين بين إمكانيتهم وتمكنهم

الرابط المختصر :

قصة تمكين المؤمنين بين إمكانيتهم وتمكنهم

كتبه: د. فهمي إسلام جيوانتو

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ‌وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [النور: 55]

هكذا وعد الله المؤمنين، وعدهم بالاستخلاف في الأرض وتمكين الدين والأمن بعد الخوف. وقد وفى بوعده لأسلافنا الأقدمين. فقد مكن الله هذا الدين من الانتشار والتمدد والرسوخ قرونا طويلة تربو على ألف عام.

وبعد دخول المسلمين في عصر الضعف والتخلف في القرون المتأخرة، فهل انتهت قصة التمكين وذهبت إلى غير رجعة؟

ويفيدنا استقراء الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة بأن الدورات التاريخية لهذه الأمة لا تنتهي بهذا الذبول ولا تقف عند هذا العجز، فإن النهضة والتجديد والثبات والظهور هي سمات باقية ومتجددة لمسيرة أمتنا.

‌روى الإمام أحمد وابن حبان والحاكم عن أبي بن كعب أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلى الله عَلَيه وسَلم، قَالَ: بَشِّرْ ‌هَذِهِ ‌الْأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالرِّفْعَةِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ، فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمِ عَمَلَ الْآخِرَةِ لِلدُّنْيَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ."[1]

هل هذه البشارة للمسلمين بفترة تاريخية محددة أم هي بشارة عامة تصدق لآخر هذه الأمة كما تصدق لأولها؟

فالحق أن الخير لأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا ينتهي إلى قيام الساعة. وفي هذا المعنى اشتهر الحديث: "الخير ‌فِيّ ‌وفي ‌أمتي إلى يوم القيامة." وهذا حديث لا أصل له عند المحققين من أهل الحديث، ولكن معناه صحيح. قال السخاوي عن هذا الحديث: قال شيخنا: لا أعرفه ولكن معناه صحيح، يعني في حديث: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق إلى أن تقوم الساعة.[2]

ومع ذلك فإننا لا نتكل على هذه الأخبار لتخدير إرادتنا وتنويم عقولنا، كأن الخروج من الأزمة والتخلف أمر مضمون ولا حاجة إلى عمل ولا سعي. فالأمة الناهضة ليست أمة حالمة نائمة، بل أمة باذلة كادحة. وقصة التمكين لا ترى النور إلا بعد الوعي بالمسؤولية والإدراك بضرورة تحملها ودفع ضريبتها.

والحقيقة أن قصة التمكين في عصرنا لا تبدأ من الصفر، بل عندنا من الإمكانات والمؤهلات ما يفوق غيرنا من الأمم. ولنا من الامتداد التاريخي المجيد ما يلهم أجيالنا الناشئة القادمة، ولنا من العمق القيمي والمخزون العلمي ما يثري عقولنا ويضيء طريقنا، ولنا الدين القويم الذي يحفظنا من الضياع ويهدينا سبل الرشاد.

ثم إن لنا من التعداد السكاني المليارين – حسب دراسة أجريت سنة 2023م- وهي الآن تشكل 25% من سكان الكرة الأرضية.[3] ولنا من المساحة الجغرافية حوالي 32 مليون كم2، أي ما يقارب ربُع مساحة اليابسة البالغة حوالي 149 مليون كم2! فنحن رُبع العالم نفوسا ومساحة!

أما ثرواتنا الطبيعية فحدّث ولا حرج! فأكثر الموارد الطبيعية تواجدا في دول العالم الإسلامي هي النفط والغاز الطبيعي، حيث يتوافر الأول في حوالي 35 دولة إسلامية ويشكل إنتاجه 43% من الإنتاج العالمي، أما الغاز الطبيعي فيوجد في حوالي 25 دولة إسلامية ويشكل إنتاجه 8% من الإنتاج العالمي. كما أن العالم الإسلامي غني بالعديد من الموارد الأخرى كالمعادن والمياه والأراضي الخصبة، وتنتج دوله 47% من الإنتاج العالمي من القصدير.

ويبلغ الناتج المحلي الإجمالي للعالم الإسلامي - وهو ما ينتج في اقتصاد ما من السلع والخدمات المعدة للاستخدام النهائي: 3483 مليار دولار للعام 1999م. وأعلى بلدان العالم الإسلامي من حيث ناتجها المحلي الإجمالي هي إندونيسيا (602 مليار دولار)، تليها تركيا (425 مليارا)، ثم إيران (340 مليارا). أما أقلها فهي جزر القمر (410 ملايين)، تليها المالديف (540 مليونا).

ويبلغ معدل حصة الفرد الواحد من الناتج المحلي الإجمالي 3934 دولارا، أعلاها في الكويت (22,700 دولار)، تليها الإمارات العربية المتحدة (17,400 دولار)، ثم قطر
(17,100 دولار). أما أدناها ففي سيراليون (530 دولارا)، يليها الصومال
(600 دولار)، ثم جزر القمر (700 دولار).[4]

فهذا كله غيض من فيض إمكاناتنا، ولكن الأهم بعد هذه الإمكانات، ماذا عن تمكننا من تحديد مصائرنا وتوجيه مساراتنا؟ هل نحن أمة قائدة أم مقودة؟ مؤثرة أم متأثرة؟ دافعة أم مدفوعة؟ وماذا عن دورها المفترض في قول الله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ‌تَأْمُرُونَ ‌بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: 110]

فليس الشأن في الإمكانات، ولكن الشأن في الأيادي التي تتصرف فيها، والعقول التي تديرها، وكما قال الشاعر:

إن السلاح جميع الناس تحمله ** وليس كل ذوات المخلب السبعُ

إن امتلاك هذه الإمكانات جزء من التمكين الذي وعده الله للمؤمنين، فقد سلمها الله للمسلمين واستخلفهم فيها، فماذا نحن فاعلون بها؟

فهناك تمكين حاصل لا بد أن نبني عليه ولا نضيعه، وحتى بلا كل تلك الإمكانات الهائلة، فإن التمكين قد حصل! وهو تمكين مبدئي لكل ابن آدم، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ ‌مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾ [الأعراف: 10]

نعم، قد مكننا الله من العيش في الأرض ومكننا من الاستفادة منها، ثم مكننا واستخلفنا على تلك الإمكانات التي لم يمكن الله غيرنا منها. فعلى الأمة – وعلى رأسها ولاة أمورها- أن تتحلى بروح المسؤولية وتتحمل أعباءها ولا تكون أمة متواكلة على غيرها، ترمي المسؤولية على غيرها، تتحجج بالمؤامرات الخارجية، وتختبئ وراء العجز الذي هي مسؤولة عن إزالته عن نفسها. فالعجز ليس حجة لها بل حجة عليها.

والله ولي التوفيق وعليه التكلان.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

 



[1] أخرجه أحمد (35/146-148 رقم: ٢١٢٢١-٢١٢٢4) وابن حبان (3/562 رقم: ٢٩٥٨) والحاكم (4/346 رقم: ٧٨٦٢) وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ ووافقه الذهبي.

[2] المقاصد الحسنة ص٣٣٧ رقم: 468.


: الأوسمة


المرفقات

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع