بين التوحيد والاستبداد: معركة مختفية
بقلم: د. فهمي إسلام جيوانتو
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
لقد
جاء الإسلام لتحرير الإنسان من العبودية لغير الله، فكانت الدعوة الأولى في كتاب
الله هي: ﴿يَا أَيُّهَا
النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ [البقرة: 21]، وأول
النهي كان: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ [البقرة: 22]
وروى الطبري في تاريخه أن رستم قائد جيش الفرس سأل المسلمين
الذين جاءوا لمحاربة الفرس: مَا جَاءَ بِكُمْ؟
فأجاب الصحابي الجليل ربعي بن عامر رضي الله عنه: "اللَّهُ
ابْتَعَثَنَا، وَاللَّهُ جَاءَ بِنَا لِنُخْرِجَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ
إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، وَمِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا إِلَى سِعَتِهَا، وَمِنْ جَوْرِ
الأَدْيَانِ إِلَى عَدْلِ الإِسْلامِ."
ولم
يكتف الإسلام بمحاربة الأصنام من الجمادات التي كانت سائدة في جزيرة العرب زمن
النزول، بل حارب أيضا صنما بشريا يدعي الربوبية وهي الأصنام التي انتشرت في
العالم، فكثيرا ما يدعي الحكام الألوهية ويطلبون من الرعايا الخضوع التام والتمجيد
والتقديس والانصياع دون معارضة ولا مساءلة، كما فعل فرعون القائل: ﴿أنا رَبُّكُمُ
الْأَعْلَى﴾ [النازعات: 24] والقائل: ﴿يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ
وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي، أَفَلَا تُبْصِرُونَ؟﴾ [الزخرف:
21] والقائل: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا
سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ [غافر: 29]
وكان
يفند دعوى ألوهية النمرود، كما في قصة حجاج إبراهيم عليه الصلاة والسلام، قال
تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ
اللَّهُ الْمُلْكَ، إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ،
قَالَ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي
بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ، فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ، فَبُهِتَ الَّذِي
كَفَرَ، وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 258]
وهكذا
كان القرآن يحارب الأصنام البشرية، كما يحارب الأصنام الحجرية. وإذا كانت الأصنام
الحجرية قد فقدت عُبّادها بشكل كبير، كما يبدو، إلا أن الأصنام البشرية ما زالت
لها صولة وجولة في عالمنا المعاصر بأشكال مختلفة.
ومن
ذلك قول الله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ
دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا
إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة:
31]
فاليهود
والنصارى جعلوا رجال دينهم آلهة وأربابا من دون الله. وقد استشكله الصحابي الجليل،
عدي بن حاتم، رضي الله عنه، وكان نصرانيا قبل إسلامه، كما روى الترمذي في جامعه عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ.
فَقَالَ: «يَا عَدِيُّ اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الوَثَنَ»
وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ
وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]،
قَالَ: «أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ،
وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا
حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ»
وفي المعجم الكبير للطبراني عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ
قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عُنُقِي
صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: "يَا عَدِيُّ اطْرَحْ هَذَا الْوَثَنَ مِنْ
عُنُقِكَ."
فَطَرَحْتُهُ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقْرَأُ
سُورَةَ بَرَاءَةَ فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ
أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ} [التوبة: 31] حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا.
فَقُلْتُ: إنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ.
فَقَالَ: «أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللهُ
فَتُحَرِّمُونُهُ، ويُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَتَسْتَحِلُّونَهُ؟»
قُلْتُ: بَلَى.
قَالَ: «فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ»
فالإسلام
ضد الأصنام البشرية، ويعتبرها أندادا من دون الله. فالإنسان المسلم إنسان حر، لا
يستعبده أحد، ولا يستبد بحياته أحد، فلا يسلم وجهه إلا لله، ولا يركع ولا يسجد إلا
لله تعالى.
وفي
هذا يقول الكواكبي: "...ثم جاء الإسلام مهذبًا لليهودية والنصرانية، مؤسَّسًا
على الحكمة والعزم، هادما للتشريك بالكلية، ومحكما لقواعد الحرية السياسية المتوسطة
بين الديموقراطية والأريستقراطية، فأسس التوحيد، ونزع كل سلطة دينية أو تغلُّبية، تتحكم
في النفوس أو في الأجسام، ووضع شريعة حكمه إجماليةً صالحةً لكل زمان وقوم ومكان، وأوجد
مدينة فطرية سامية..."
والقرآن
الكريم إذ ذكر قصة فرعون وغيره من المستبدين وكررها، لم يقصد منها ذكر أشخاص بأعيانهم،
بل كان حربا مستمرة ضد نزعة مرفوضة منافية لروح التوحيد ومناقضة لكرامة الإنسان
الذي منحها الله إياه، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ
وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ
وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: 70]
وقال
تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى،
وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ
اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: 13]
ونزعة
التسلط والتأله والتحكم المطلق باقية لدى أي إنسان ينسى نفسه، ويغفل عن أصله
ومصيره. وما أكثر المغرور بالقوة والسلطة والمكانة! قال تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ
الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى! أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى، إِنَّ إِلَى رَبِّكَ
الرُّجْعَى﴾ [العلق: 6-8]
ومع
أن هذه النزعة قائمة، وممارسة الاستبداد باقية لدى الأنظمة الفاسدة والطوائف
المنحرفة، إلا أن الغفلة أو التغافل عن هذه الآفة الخطيرة غطت على هذه المعركة
التي شنها القرآن. فالقرآن يحارب الاستبداد كما يحارب الشرك.
ومع
ذلك ليس الإسلام دعوة إلى التفلُّت والفوضى، فقد نظم الإسلام حياة المسلمين بضوابط
شرعية وتشريعات عادلة، شرع اختيار الحاكم، وأوجب طاعته، وحدد واجباته، وحرم الظلم،
وأمر بمنع الظلم. ومنح حقوق الشعوب وحدد واجباتهم، كل ذلك بتوازن دقيق. فقال في
تنصيب الحاكم وواجباته: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ
إِلَى أَهْلِهَا، وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا
بِالْعَدْلِ، إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ، إِنَّ اللَّهَ كَانَ
سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [النساء: 58]
وقال
في طاعة الحكام: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 59]
وقال
في حالة النزاع: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ
إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ
وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: 59]
والطاعة
في الإسلام دائما محدودة في حدود الشرع، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث
المتفق عليه: "لَا طَاعَةَ فِي المعصية، إنما الطاعة في المعروف."
فليس
للبشر طاعة مطلقة يعبث بها المستبد بحقوق الناس وحياتهم ومصائرهم ومقدراتهم. إنما
شرعت الطاعة لإقامة العدل وتحقيق المصلحة المشتركة بتوازن وانسجام دون معصية لله
ولا تعدٍّ على البشر.
والحمد
لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم
إلى يوم الدين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*
ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.