مفتاح قبول الأعمال التعبدية كلها| سلسلة خطبة الجمعة
إعداد وتقديم: بن سالم باهشام
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
عباد الله، يقول تعالى في سورة المائدة: ﴿ إِنَّمَا
يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ [المائدة: 27]، كان السلف الصالح رحمهم الله لا يمرون على
الآيات القرآنية مرورا عابرا دون أن يتدبروا ما فيها استجابة لقول الله تعالى من
سورة ص: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ
وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص: 29]، فهي رسائل ربنا تخاطبهم وتعنيهم،
وهذه الآية يشتد منها خوفهم على نفوسهم خشية ألا يكونوا من المتقين الذين لا يتقبل
منهم، وأصح الأقوال في تفسير المتقين، أي المتقون لله في ذلك العمل، بأن يكون
عملهم خالصا لوجه الله أولا، ومتبعين فيه لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثانيا، ومن صفات أهل الإيمان: الخوف من عدم قبول العمل، لهذا لم يكن همهم – رحمهم
الله تعالى – هو أداء العمل وإنجاز المهمة الواجبة عليهم، كما هو حال كثير من
الناس، الذين يؤدون العمل معتقدين أن التكليف الشرعي مثل العمل الوظيفي إذا قام به
انتهى الأمر، والحقيقة أنك لا تدري، هل قبل عملك أم لم يقبل، فأنت تعمل لأجل أن
تحظى بالأجر والثواب من الله تعالى وحده، ولنيل محبة الله سبحانه وتعالى ورسوله
صلى الله عليه وسلم، فأركان العمل في الدين الإسلامي ثلاث وهي: المحبة والخوف
والرجاء، تحب الله سبحانه وتعالى، وترجو ثوابه، وتخاف من أربعة أشياء، وليس مجرد
أداء العمل والانصراف.
أما تفصيل الأشياء الأربعة التي ينبغي الخوف منها، فيقول
الْفَقِيهُ أبو الليث السمرقندي رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: (مَنْ عَمِلَ الْحَسَنَةَ يَحْتَاجُ إِلَى خَوْفِ أَرْبَعَةِ
أَشْيَاءَ):
أَوَّلُهَا: خَوْفُ الْقَبُولِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ في سورة المائدة:﴿
إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 27].
وَالثَّانِي: خَوْفُ الرِّيَاءِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ في سورة البينة: ﴿
وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ [البينة:
5].
وَالثَّالِثُ: خَوْفُ التَّسْلِيمِ وَالْحِفْظِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ في سورة الأنعام: ﴿
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ﴾ [الأنعام: 160]،
فَاشْتَرَطَ سبحانه وتعالى الْمَجِيءَ بِهَا إِلَى دَارِ الْآخِرَةِ.
وَالرَّابِعُ: خَوْفُ الْخِذْلَانِ فِي الطَّاعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي هَل يُوَفَّقُ لَهَا أَمْ لَا؛
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى في سورة هود: ﴿ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ؛
عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ؛ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ [هود: 88]).
لهذا روى الترمذي وابن ماجه، عَن وَهْبٍ
الْهَمْدَانِيِّ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها، زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: (سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن هَذِهِ الْآيَةِ “وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا
وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ”،[المؤمنون: 60]، قَالَتْ عَائِشَةُ: أَهُمْ الَّذِينَ
يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ،
وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ
يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي
الْخَيْرَاتِ) [رواه الترمذي، (ح 3175)، وابن ماجه، (ح 4198)].
عباد الله، هم لا يخافون طبعا أن الله عز وجل يظلمهم فيفعلون
الفعل، أو أن الله عز وجل لا يعطيهم الأجر والثواب ولا يقبله أبدا، لأنهم يوقنون
أن الله عز وجل حرّم الظلم على نفسه وجعله محرما بين العباد، فهم يوقنون أن الله
عز وجل عادل، بل يعاملنا بفضله وليس بعدله، فرب العالمين يعطينا على الحسنة الواحدة عشر أمثالها؛ إلى سبع مائة ضعف، فإذا
كان هذا حاله سبحانه وتعالى في تعامله معنا نحن الضعاف، هل يعقل أن نأتي بالعمل
كما أراده الله ثم لا يقبله أبدا، وإنما كانوا يخافون من أن يأتي شيء يبطل أعمالهم
وهم لا ينتبهون، ولذلك كان الخوف موجودا من عدم قبول العمل، وها هو نبي الله
وخليله وأبو الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة
والسلام يدعو ربه قائلا كما جاء في سورة البقرة: ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ
الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ، رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ
أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [البقرة: 127]، فقد كان عليه الصلاة والسلام مهتما
بقبول عمله، وليس فقط مجرد أداء عمل؛ لأنه إنما يتقبل الله من المتقين، لهذا جاء
عن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: ( كُونُوا لِقَبُولِ الْعَمَلِ
أَشَدَّ اهَتمامًا مِنْكُمْ بِالْعَمَلِ، أَلَمْ تَسْمَعُوا اللَّهَ يَقُولُ:
“إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ”) [أخرجه أبو نعيم الأصبهاني في
حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (ج1/ص75 وج10/ص388) من طريق علي بن محمد بن إسماعيل
الطوسي وإبراهيم بن إسحاق، وأخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (ج42/ص511) من طريق أبي
القاسم الحسن بن علي وأبي سعيد محمد بن الحسين بن موسى بن محموية، وسنده ضعيف].
عباد الله، تأملوا رحمكم الله إلى هذا الخليفة الراشد، علي بن أبي
طالب رضي الله عنه، وهو يوجه المسلمين إلى اهتمامهم ليس بالعمل فقط؛ بل بقبول
العمل، لأن من اهتم بقبول العمل، اهتم بإتقانه.
عباد الله، لقد حمل الصالحون من المتقدمين والمتأخرين همَّ قبول
العمل أكثر من همَّ العمل؛ لأن العمل هو من كسبهم وسعيهم، ويقدرون عليه، ولكنهم لا
يضمنون قبول العمل؛ فذلك إلى الله تعالى لا إليهم، وهو متعلق بإحسان العمل، من
الإخلاص فيه، وصلاح القلب في أدائه، واجتناب أسباب الرد وعدم القبول. والقلوب تتعب
من يعالجها، وإصلاحُها أشد من أعمال الجوارح مهما كثرت؛ ولذا كان تفكر ساعة خير من
قيام ليلة. قال مالك بن دينار رحمه الله تعالى: (الخوف على العمل أن لا يتقبل أشد
من العمل).
ويخبر إمام المسجد الحرام، وأحد الأئمة العباد، ومن رواة
الحديث النبوي، عبد العزيز بن أبي رواد المروزي العتكي الأزدي، وقد توفي في سنة
تسع وخمسين ومائة هجرية. عما كان سائدا عند السلف الصالح في عمل العمل، والخوف من
عدم قبوله فيقول: (أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح، فإذا بلغوه وقع عليهم الهمّ
أيتقبل منهم أم لا).
وجاء سائل لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما طلب منه أن
يساعده بشيء من المال فقال عبد الله لابنه: (أعطه دينارا، فأعطاه، فقال ابنه: تقبل
الله منك يا أبتاه، فقال عبد الله بن عمر: لو علمت أن الله تقبل مني سجدة واحدة أو
صدقة درهم لم يكن غائب أحب إلي من الموت، أتدري ممن يتقبل الله؟ “إنما يتقبل الله
من المتقين”)، [تاريخ دمشق، لابن عساكر، (31/146)].
عباد الله، إذا كان هذا حال الصحابة رضوان الله عليهم، فكيف بحالنا
نحن مع تقوى الله عز وجل، ومع قبول العمل، وكثرة النظر فيه، مع كثرة المشاغل التي
تشغل القلب، بل تشغل حتى الجوارح. لهذا فنحن في أشد الحاجة إلى أن نرسخ جانب
التقوى في قلوبنا حتى يتقبل الله منا، كي لا نفاجأ ونحن يوم القيامة بين يدي
الرحمن الرحيم العدل الحكم، وهو يحاسبنا على عمل كنا نرجو ثوابه فلا نجد له أي
ثواب، بل نجد الوزر والإثم؛ لأننا لم نكن متقين لله فيه، وهذا من أعظم الخسارة.
عباد الله، كل الأعمال التعبدية التي كُلّفنا بها موقوف تقبلها على
شرطين ذكرهما العلماء استنباطا من كتاب الله؛ ومن سنة النبي صلى الله عليه
وسلم:
* الشرط الأول: الإخلاص لله تعالى، بأن يكون العمل لله تعالى وحده لا
شريك له، لا نرجو بهذا العمل أي أحد من خلق الله إلا الله سبحانه وتعالى.
* الشرط الثاني: المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، بمعنى أن يكون
العمل على وَفق ما فعله النبي صلى الله وسلم وبيّنه، فالعبادة لا تتم إلا بأمرين:
الإخلاص لله، وهو ما تضمنته شهادة أن لا اله إلا الله، والمتابعة لرسول الله صلى
الله عليه وسلم وهو ما تضمنته شهادة أن محمدا رسول الله، ولهذا جعلهما النبي صلى
الله عليه وسلم ركنا واحدا في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم، عن عبد الله بن عمر
رضي الله عنهما فقال: (بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ)، [رواه البخاري
(8) ومسلم (16)]، فلكي تكون العبادة مقبولة، لابد أن نبنيها على الإخلاص لله عز
وجل، والمتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، قال الفضيل بن عياض رحمه الله في تفسير
قوله تعالى من سورة هود وسورة الملك: ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ
عَمَلًا﴾ [هود: 7] [الملك: 2]، هو(أخلصُه وأصوبُه، قالوا يا أبا علي: ما أخلصه
وأصوبه؟ قال: إنَّ العملَ إذا كان خالصاً، ولم يكن صواباً، لم يقبل، وإذا كان
صواباً، ولم يكن خالصاً، لم يقبل؛ حتّى يكونَ خالصاً صواباً، ثم قال: والخالصُ إذا
كان لله – عز وجل -، والصَّوابُ إذا كان على السُّنَّة) [جامع العلوم والحكم لابن
رجب(1/71)].
وهذا ما تضمن قول الله تعالى في أواخر سورة الكهف:
﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا
يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110]، أي فمَن كان يخاف عذاب ربه،
ويرجو ثوابه يوم لقائه، فليعمل عملا صالحًا لربه، موافقًا لشرعه، ولا يشرك في
العبادة معه أحدًا غيره. فقوله سبحانه وتعالى: ﴿ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا﴾،
هذا شرط المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يكون العمل صالحا أي مشروعا، وقوله
سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾، هو الشرط الأول وهو
الإخلاص لله تعالى وحده. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها
ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.