عقيدة صناعية إسلامية (1)
بقلم: د. فهمي إسلام جيوانتو
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
من
المعاني المهمة التي غفل عنها الناس - وما أكثر غفلتنا عن المهمات - هي تشجيع
القرآن على الصناعة. وليست
الصناعة موضوعا دخيلا على الإسلام، ولا جديدا عليه ناشئا بسبب التأثر بالمنظومة الحضارية
الحديثة، كلا! بل هو موضوع أصيل وقديم، كرره القرآن مرارا في مواضع كثيرة، لو
أعطينا هذا الموضوع حقه لكنا أمة صناعية كبرى.
لقد تحدث القرآن عن الصناعة التي نشأت في فترة تاريخية مبكرة
جدا، ولغرض خطير جدا، وقام بها شخصية مهمة جدا. وكانت الصناعة مرحلة مهمة من مراحل
الدعوة إلى الله، وكانت حلا ناجعا أمام الانسداد التام للدعوة الإسلامية والرفض الكامل
من الغالبية الساحقة التي اختارت الكفر على الإيمان. فجاء الأمر الإلهي بصناعة
السفينة، قال تعالى: ﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ
إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ، فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ
الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا، وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا،
إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾ [هود: 36-37]
وقام نوح بصناعة السفينة بنفسه، فصارت الصناعة جزءا أصيلا
من أعمال الأنبياء. وليست مهمة سهلة أبدا، قال تعالى: ﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ،
وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ، قَالَ: إِنْ
تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ﴾ [هود: 38]
فوق ما تعرض له نوح من التكذيب لدعوته، تعرض أيضا من
السخرية على هذه الصنيعة الغريبة التي لا تبدو معقولة في تلك الظروف! هذه صعوبة من
حيث الفكرة، ثم صعوبة أخرى من حيث التنفيذ، فالظروف المادية ضاغطة فوق الظروف
النفسية، والله المستعان.
ومن عجائب ما نقل لنا التاريخ أن نوحا عليه السلام بدأ
التصنيع من أول سلسلة إنتاجه، بدأ بإيجاد المواد الخام قبل صناعة السفينة بفترة
طويلة جدا! بدأ من غرس الأشجار إلى أن تنمو، ثم تحويلها إلى ألواح، ومن صنع
الألواح إلى التركيب والتجهيز النهائي. سلسلة أعمال طويلة ليست بهينة، صعوبة لا
تبعد عن صعوبة ممارسة الدعوة الشاقة التي استغرقت ألف سنة إلا خمسين عاما!
فقد روى ابن كثير في تاريخه (البداية والنهاية) قال: قال
بعض علماء السلف: لما استجاب الله له، أمره أن يغرس شجرا ليعمل منه السفينة فغرسه،
وانتظره مائة سنة، ثم نجره في مائة أخرى. وقيل: في أربعين سنة. فالله أعلم.
والقرآن الكريم له إشارات لطيفة عن إتقان هذه الصناعة
ومتانتها، قال تعالى: ﴿وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ﴾ [القمر:
13] أي حملنا نوحا على سفينة ذات ألواح ودسر.
قال المفسرون: ألواحها أي خشباتها العريضة التي منها جُمعت.
وفي الدُّسُر أربعة أقوال: أحدها: أنها المسامير. والثاني:
أنه صَدْر السفينة. والثالث: أن الدُّسُر أضلاع
السفينة. والرابع: أن الدُّسُر طرفاها وأصلها، والألواح جانباها.
وذِكرُ أجزاء السفينة بدلا عن ذكر اسمها الصريح يدل على
أهمية هذه الأجزاء ولفت الأنظار إلى خصائصها. وعالم الصناعة مبني على الاهتمام والإتقان
في معالجة الأجزاء.
قال الرازي: ... أنها كانت من ألواح مركبة موثقة بدسر [يعني
مسامير]، وكان انفكاكها في غاية السهولة ولم يقع، فهو بفضل الله.
ففي هذه الصفة – كما قال ابن عاشور- بيان متانة هذه السفينة
وإحكام صنعها. وفي ذلك إظهار لعناية الله بنجاة نوح ومن معه، فإن الله أمره بصنع
السفينة وأوحى إليه كيفية صنعها، ولم تكن تعرف سفينة قبلها.
وصناعة أخرى ذكرها القرآن باهتمام شديد حيث يتم ذكرها في مواضع
عدة. وهي الصناعة الدفاعية التي أجادها نبي الله داود عليه السلام. قال تعالى: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ
صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ
شَاكِرُونَ﴾ [الأنبياء: 80]
كان داود عليه السلام يجيد صناعة الدروع الحربية، وكان
يتخذها مهنة، وليست فعلا قام به مرة واحدة في حياته، بل هي صناعة يحترفها ويتكسب
بها، مع أنه كان ملِكا مطاعا وحاكما قويا على دولة مستقرة مزدهرة.
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ لَا
يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ»
وقد
ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة داود، عليه والسلام، عن وهب بن منبه ما مضمونه: أن
داود، عليه السلام، كان يخرج متنكرا، فيسأل الركبان عنه وعن سيرته، فلا يسأل أحدا
إلا أثنى عليه خيرا في عبادته وسيرته ومعدلته، صلوات الله وسلامه عليه. قال وهب:
حتى بعث الله مَلَكا في صورة رجل، فلقيه داود فسأله كما كان يسأل غيره، فقال: هو
خير الناس لنفسه ولأمته، إلا أن فيه خصلة لو لم تكن فيه كان كاملا قال: ما هي؟
قال: يأكل ويطعم عياله من مال المسلمين، يعني: بيت المال. فعند ذلك نصب داود، عليه
السلام، إلى ربه في الدعاء أن يعلمه عملا بيده يستغني به ويغني به عياله.
فكان
يصنع الدرع فيما بين يومه وليلته يساوي ألف درهم، حتى ادّخر منها كثيراً وتوسَّعت
معيشة منزله، ويتصدّق على الفقراء والمساكين، وكان ينفق ثلث المال في مصالح
المسلمين، وهو أوّل من اتخذ الدروع وصنعها وكانت قبل ذلك صفائح. ويقال: إنه كان
يبيع كل درع منها بأربعة آلاف.
هكذا علّم الإسلام روح العمل والإنتاج، وحارب البطالة
والاتكالية. قال القرطبي: هذه الآية
أصل في اتخاذ الصنائع والأسباب، وهو قول أهل العقول والألباب، لا قول الجهلة
الأغبياء القائلين بأن ذلك إنما شرع للضعفاء. فالسبب سنة الله في خلقه، فمن طعن في
ذلك فقد طعن في الكتاب والسنة.
وتميزت صناعة داود عليه السلام بأمور عدة: أولا اعتمادها
على الحديد، وهي المادة التي جمعت بين القوة والمرونة وسهولة التشكيل. ثانيا:
تفوقه في سرعة معالجة الحديد وتشكيله. ثالثا: تصميمه المبتكر في صناعة الدروع، فقد
صنع الدروع على شكل حِلَق مترابطة بدل صفائح كبيرة كما كانت مألوفة قبل داود. وهذا
التصميم يكسب الدرع خفة ومرونة. فهي أفضل من الصفائح التي تثقل الجندي وتعيق حركته.
قال تعالى في هذه الخصائص: ﴿وَأَلَنَّا
لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ
وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [سبأ: 10-11]
قال
قتادة: وهو [أي داود عليه السلام] أول من عملها من الحِلَق، وإنما كانت قبل ذلك
صفائح.
وهذا
يمكن تسجيله من ضمن الاختراعات التقنية التي أثرت في تطور الحضارة، مثل ما كان نوح
يخترع صناعة السفينة التي لم تكن معروفة قبل ذلك.ولو
أعيدت كتابة تاريخ العلوم مع الاعتراف بوجود الأنبياء وآثارهم الحضارية لسجلت
لأنبياء الله اختراعات كثيرة أسهمت في تطور الحضارة الإنسانية، ولكن المناهج
الحديثة - مع الأسف - قامت على عدم الاعتراف بالدين كمصدر من مصادر العلوم. وما
زاد الطين بلة أن كثيرا ممن يتكلمون في الدين لم يلتزموا بالمنهج العلمي، فلا
يميزون بين الأساطير والحقائق التاريخية، والله المستعان.
ثم
أرشد الله داود إلى الدقة والنوعية المطلوبة في هذه الصناعة فقال: ﴿أَنِ اعْمَلْ
سَابِغَاتٍ﴾ أي اعمل دروعا سابغات لا قصيرات ولا ضيقات.
ثم
قال: ﴿وَقَدِّرْ فِي السرد﴾ أمره تعالى بالتقدير الدقيق في حجم الحلقات وفي
المسامير التي تربط بين تلك الحلقات. قال ابن زيد: التقدير الذي أمر به هو في قدر
الحَلْقة، أي لا تعملها صغيرة فتضعف فلا تقوى الدروع على الدفاع، ولا تعملها كبيرة
فينال لابسها. وقال ابن عباس: التقدير الذي أمر به هو في المسمار، أي لا تجعل
مسمار الدرع رقيقاً فَيقْلَق، ولا غليظاً فَيَفصِم الحلَق. والسَّرْد نسج حِلَق
الدروع، ومنه قيل لصانع حلق الدروع: السرّاد والزرّاد، تبدل من السين الزاي، كما
قيل: سرّاط وزرّاط.
وهذه
إشارة إلى الدقة والإتقان في الصناعة. وهما من الإحسان الذي أوجب الله على عباده
في كل مجال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا
ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ،
فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ.
وقال
صلى الله عليه وسلم: "إن الله تبارك وتعالى يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه."
وفي
اختيار هذه الصناعة، قال الفخر الرازي: وإنما اختار الله له ذلك، لأنه وقاية للروح
التي هي من أمره سعي في حفظ الآدمي المكرم عند الله من القتل، فالزراد خير من
القواس
والسياف
وغيرهما.
يعني
أن صناعة آلات الدفاع أشرف من صناعة آلات القتل، وإن كان النوعان مطلوبين في
الحرب، ولكن حفظ الحياة هو الأصل، أما القتل فلا يشرع إلا في حالات استثنائية. وفي
هذا إشارة قوية إلى رجاحة كفة الرحمة على كفة القوة في الإسلام رغم أن كلتا
الكفتين مطلوبتان. ولعل ذلك هو السر في أن القرآن لم يذكر مقلاع داود الذي قتله به
جالوت رغم اشتهار هذه الآلة عند أهل الكتاب. والله أعلم.
ثم
ختم الله الآية بقوله: ﴿وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [سبأ:
10-11] ليربط الصناعة بالعمل الصالح والتعبد لله تعالى. فليست الصناعة في الإسلام
عالما ماديا بحتا لا غرض فيها إلا الكسب المادي، كلا! بل هي وسيلة من وسائل
العبادة لله ونوع من العمل الصالح.
فكانت
هذه اللوحات الجميلة التي رسمها القرآن في شأن نبي الله داود عليه الصلاة
والسلام... فال تعالى: ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ، يُسَبِّحْنَ
وَالطَّيْرَ، وَكُنَّا فَاعِلِينَ (٧٩) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ،
لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ، فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ﴾ [الأنبياء:
79-80]
وقال
تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا، يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ
وَالطَّيْرَ، وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ،
وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ، وَاعْمَلُوا صَالِحًا، إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ﴾ [سبأ: 10-11]
وقال
تعالى: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ، إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧)
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ، يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ
(١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً، كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ،
وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (٢٠)﴾ [ص17-20]
وعودا
على موضوع الصناعة في القرآن، لم يقتصر القرآن على هذين المثالين من الأنبياء
اللذان باشرا الصناعة كعمل فردي، بل هناك أمثلة من الصناعات التي قامت بها الدولة،
وسخرت لها إمكاناتها على قدم وساق... وهو ما سنتناوله في المقالة القادمة بإذن
الله.
والله
ولي التوفيق وعليه التكلان.
ــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها
ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.