تفكيك منظومات الاستبداد (٤٢): الفعل بعدم الفعل واستغفال الشعوب
بقلم: د. جاسر عودة
تتفق كتب علم السياسات جميعًا على أن القرار السياساتي هو: (الفعل أو عدم الفعل من قبَل الحكومة الذي يستهدف أثرًا في الواقع). فالقرار السياساتي نوعان: النوع الأول هو الفعل، والنوع الثاني هو عدم الفعل، والذي هو قرار يعتبر في حد ذاته نوعًا من الفعل. لماذا؟ لأن الحكومة في الدولة المعاصرة -أي حكومة وأمام أي قضية- تملك أدوات لا حصر لها وإمكانات مؤثرة للفعل، فإذا قررت الحكومة أن لا تفعل شيئًا تجاه أي قضية عامة، فهذا في حد ذاته فعل وله أثر مباشر على الواقع.
هذا النوع من الفعل عن طريق عدم الفعل ينطبق على المهزلة أو الملهاة التي رأيناها أمام أعيننا في ما سمي بالقمة العربية الإسلامية، وهي التي تحدث فيها المتحدثون كما اشتهوا فقالوا كلامًا كثيرًا طويلًا عريضًا دون أن يفعلوا شيئًا. هذا التصرف في علوم السياسات -وعند العقلاء- هو في حقهم فعل سياساتي كبير للغاية وله أثر خطير على واقع أمتنا، خاصة على المرابطين الصامدين في فلسطين!
وكنت قد نشرت (مقالة رأي) في هذه السلسلة في اليوم السابع والعشرين من شهر أكتوبر ٢٠٢٣م -أي بعد عشرين يومًا من بدء الحرب على غزة-، كان عنوانها: (إما اعتدلت وإما اعتزلت)، كتبت فيها أقول:
((لا بديل اليوم عن أفعال لا تملكها إلا الحكومات في الدول الوطنية الحديثة، والحديث تحديدًا هو عن أمرين: 1- العقوبات الاقتصادية، و 2- الفعل العسكري، ولابد أن تنهر الأمة بكل شعوبها حكامها في الدول المختلفة عن مجرد الكلام السياسي والخطاب الذي يناسب التظاهرات والاحتجاجات المدنية! غير مقبول أن يخرج حكام المسلمين فيغردوا على منصة إكس أو يهتفوا على اليوتيوب أو يتظاهروا أمام السفارات أو يقفوا وقفة جماعية في الأمم المتحدة أو يعلقوا الشارات ويلبسوا الكوفيات ويرفعوا الأعلام كما يفعل المدنيون! ما هذا؟
الحكام يا سادة ليسوا مواطنين مدنيين عاديين. الحكام في الدول الحديثة -أيها الشباب الواعي من أمتنا المجيدة- دورهم أن يملكوا مفاتيح الاقتصاد (اتفاقات التجارة، والمواد الخام من غاز وبترول ومعادن، وأموال البنوك، والموارد البشرية، إلى آخرها) وأن يملكوا القرار العسكري والأمني (بما فيه الأمن المعلوماتي والغذائي والبيئي والمائي، إلى آخرها) الحكام يا سادة -واختلاف أشكال الحكومات وأنواعها من ملكيات وجمهوريات لا يهم- هم المفوضون من شعوبهم ومن الأمة عمومًا بإدارة هذه الملفات نيابة عن الناس وليس افتئاتًا عليهم ولا جبرًا لهم. لابد أن نوجه كشعوب إسلامية رسالة "إما اعتدلت وإما اعتزلت" لحكام المسلمين، أي أرونا ماذا فعلتم بمقدراتنا الاقتصادية والعسكرية نيابة عنا في معركتنا المصيرية الجارية؟))
ووصلًا لهذا الكلام بعد أكثر من عام على كتابته أقول:
حكام الدولة الوطنية الحديثة -أي دولة وطنية حديثة فضلًا عن الدول التي تعتبر نفسها (إسلامية)- ليسوا مثل بقية المواطنين الذين يجوز في حقهم أن يتكلموا ويستنكروا ويشجبوا ويحتجوا ويشتكوا ويتظاهروا! لأن أصحاب القرار السياساتي إن فعلوا ذلك دون قرار بفعل أحد الأفعال المنوطة بالدول، فهو مجرد كلام سياسي يراد به استغفال للبسطاء من شعوب أمتنا، وهو في عالم المآلات الواقعية عون صريح ومباشر للأعداء الذين يتكلمون ضدهم ذاك الكلام الساكت الفارغ، بل الأولى هو ترك الكلام أصلًا حتى لا يؤدي إلى تفريغ لبعض شحنات الغضب عند الغاضبين، وتحفيز لنزعات العصبية عن المتعصبين، فيزداد الوضع سوءًا والطين بلة.
ليس لها من دون الله كاشفة. الله المستعان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* د. جاسر عودة: عضو
مجلس الأمناء ورئيس
لجنة التعريف بالإسلام في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة
عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.