طوفان الأقصى
مسار المعركة وواجب الوقت
د. سامي الخطيب
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
استيقظ
الناس صبيحة يوم السبت 7/ 10/ 2023 على صوت القائد العام لكتائب الشهيد عزّ الدين
القسام مُحمَّد الضيف يعلن بدء عملية طوفان الأقصى
ردًّا على «الانتهاكات الإسرائيلية في باحات المَسْجِدِ الأقصى، واعتداء المُستوطنين الإسرائيليين على
المُواطنين الفلسطينيين في القُدس والضّفّة والدّاخل
المُحتَل"، وكانت ملحمة غير مسبوقة في تاريخ الصراع مع العدوّ الصهيوني. فوجئ الصهاينة بهذا الهجوم
وهدّد قادتهم بتدمير غزّة ومحو حماس واستعادة الأسرى، وراح يضرب في كلّ سبيل،
ويبطش دون رحمة، ويلقي بصواريخ الموت وقنابل الدمار في كلّ مكان، وكانت أصداء
المعركة تسمع في أنحاء العالم، فهي المرة الأولى التي تغزو فيه المقاومة
الفلسطينية الأراضي المحتلة، وتتمكّن من قتل أكثر من 1400 "إسرائيلي"
وأسر أكثر من 250 صهيونياً.
استجابة
سريعة لقوى المحور:
لم يتأخر
محور الممانعة عن إعلان التزامه بوحدة الساحات، ففي اليوم الثاني للمعركة قصف حزب
الله اللبناني مزارع شبعا، تضامناً مع أهل غزة وإسناداً لحركة حماس، لتتبعه بعد
أيام المنظّمات الفلسطينية، ثمّ الجماعة الإسلامية في لبنان عبر جناحها العسكري
"قوات الفجر"، ثمّ بقية فصائل وتشكيلات المحور في اليمن والعراق..
واليوم..
بعد عام كامل من احتدام المعركة، ما تزال "إسرائيل" ماضية في استخدام
أعتى أسلحة دمارها، وقد وسّعت رقعة المعركة لتطال الضفّة بعد غزة، وتمتدّ إلى
لبنان دون أن تقف عند حدود جنوبه وبقاعه، بل قصفت طائراتها الشمال والجبل وبيروت،
حاصدة عشرات آلاف الشهداء، ومئات آلاف الجرحى والمشرّدين، في ظلّ تواطئ غربي مقيت،
وتثاقل إسلامي غريب، وصمت عربي مريب!
المعارك
الوهمية:
كان
غريباً، أمام مشاهد القتل والدمار والمجازر، والمصابرة والمقاومة والثبات، أن ينشغل
كثير من مثقّفينا بالتنظير وتحليل الأحداث وقراءات الواقع واستشراف المستقبل، وأن تحتدم
في الوقت نفسه معارك أثيرية وصراعات افتراضية على وسائل التواصل بين من يؤيّد حزب
الله ومن يعارضه من المشايخ وطلبة العلم ووجوه المثقّفين! ففي حين يرى الفريق
الأول في انتصار الحزب لغزة، وإعلانه حرب المساندة، وانخراطه في معركة طوفان
الأقصى التي أطلقتها حركة حماس في السابع من تشرين الأول 2023 دليلاً على صدق جهاد
هذا الحزب، وتطبيقاً عملياً للشعارات التي رفعها نصرة لفلسطين والمسجد الأقصى
المبارك، إلى الدرجة التي جعلته يقدّم رؤوس قياداته قرباناً على مذبح فلسطين،
رافضاً التخلّي عن غزة وحماس؛ يرى معارضو الحزب أنّه صاحب مشروع مذهبي إقصائي
خطير، ولغ من أجله بالدّم فارتكب المجازر وأفظع الجرائم في سوريا، وأرسل جنوده تعيث فساداً في العراق واليمن، وكانت له بصمات
قبيحة في تنفيذ سياسات ملالي إيران ومرشدها الولي الفقيه في المنطقة.
بذكّرني
هذا الواقع لحال مثقّفينا وبعض علمائنا وطلاب العلم بيننا بمشهدين من التاريخ
الغابر:
-
مشهد
قساوسة بيزنطا ورهبان القسطنطينية وهم عاكفون في أديرتهم
يبحثون في كنه الإله وناسوته ولاهوته، وجنس الملائكة: أذكران هم أم إناث؟، فيما
يطبق عدوّهم على عاصمتهم ويهدّد ملكهم، ليتمكّن السلطان العثماني محمّد الفاتح من
فتح هذه المدينة التي استعصت على أعدائها أحد عشر قرناً، رغم أن الإمبراطور قسطنطين
الحادي عشر بذل جهوداً كبيرة في جمع الجيوش الأوروبية لمساندته، غير أنّه فشل
في جمع شعبه على حماية مملكته، أو الانتصار في معركة صدّ العدوان عن عاصمته، حين
انصرف المثقفون ورجال الدين عن واجب الوقت وانشغلوا بما لا ينبني عليه عمل!
-
ومشهد
أمراء الطوائف في الأندلس وقد ورثوا ذلك السلطان العتيد
والمجد التليد، فانصرفوا عنه للترف في الفكر، واللهو في الاجتماع، والفساد في
التربية، والتبعية في السياسة، فأضاعوا بذلك ملكهم وبلادهم ومجداً عظيماً بناه
أجدادهم. ولعمري ما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا ذلوا، ولا غرقوا في المعاصي
إلا ضلّوا، ولا انشغلوا بالجدل إلا ذُمُّوا.
دعوة
إلى الانشغال بواجب الوقت:
يمثّل
التزام علماء الأمّة وصانعو القرار فيها بواجب الوقت حالة صحوة في الوعي، ومؤشّر
إنجاز في الواقع، فالأمّة أحوج ما تكون، وهي وسط المعركة، إلى الانشغال بما يخرجها
من محنتها، لأنّ بقاءها مرهون بعملها وتحرّكها وانتقالها من حالة الركون والتيه
إلى حالة الوعي والفعل، ومن الجدل الفلسفي إلى سلوك طريق الإنجاز العملي.. فهلّا
التفت أولئك المنشغلون بغير ما ينبغي أن يشغل بال المسلم المجاهد إلى أنّ التوحيد
أساس الوحدة، وأنّ كلّ إثارة لما يفرّق المسلمين ويضعف الصّف ويشتّت الشمل ليس من
الدين ولا يرضى عنه الله، وأنّ صوت المعركة ينبغي أن يعلو على كلّ صوت، وإلا كنا
بإحقاق ما نرى أنّه حقّ نعين العدوّ ولا ننصر الحقّ، وأنّ النبي ﷺ راعى الوقت
واختلاف الظروف في تثبيت دعوته والتمكين لدين الله في أرضه، فبدأ الدعوة ببناء
الأصول قبل الفروع، وأرسى الثوابت وبنى عليها المواقف، وراعى حال قومه وهو يدعوهم
إلى الله فلم يهدم الأصنام التي بقيت حول الكعبة المشرّفة إحدى وعشرين سنة، وقال
لعائشة رضى الله عنها يوم دخل مكة فاتحاً: "لَوْلا حَداثَةُ عَهْدِ قَوْمِكِ
بالكُفْرِ لَنَقَضْتُ الكَعْبَةَ، ولَجَعَلْتُها علَى أساسِ إبْراهِيمَ.."،
وأنّ درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح، وأن ما ينبغي أن يشغل بالنا اليوم: كيف
ننصر غزة وننتصر للأقصى؟!