غزّة .. رمز العزة وأسطورة الصمود
بقلم
الدكتور سعد الحلبوسي
ونحن نتابع معركة الطوفان التي تجاوزت العام منذ
انطلاقتها المباركة، نستطيع القول بكل فخر واعتزاز، أنّ غزة مدينة تتحدى الصعاب بصبر
وثبات يفوق الجبال الراسيات، وتنحني لها هامات الرجال إجلالًا وفخاراً، فهم الذين
تمثّلوا قول ربنا تبارك وتعالى: ﵟٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ
إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدۡ جَمَعُواْ لَكُمۡ فَٱخۡشَوۡهُمۡ فَزَادَهُمۡ إِيمَٰنٗا
وَقَالُواْ حَسۡبُنَا ٱللَّهُ وَنِعۡمَ ٱلۡوَكِيلُﵞ ﵝآل عِمۡرَان :
فصار الإيمان يتلألأ في
قلوبهم رغم ما يحيط بهم من دمارٍ وحصار، فأهلها الأبطال الأفذاذ رمزٌ خالدٌ
للعزيمة والثبات، وإن حكايات صبرهم وصمودهم وجلدهم تُكتب بمدادٍ من ماء العيون، ففي
كل زاويةٍ تناظر الكرامة في وجوههم، وترى بأعينهم عزيمةً تلامس حدود الأساطير؛
فالجرحى يلتقطون أنفاسهم بصبرٍ وإيمان ولا يظهرون بمظهر الانكسار مهما كان الألم،
والأمهات يودعن أبنائهن بقلوبٍ مفعمة بالعزيمة، يرددن بعد كل غارة "الحمد
لله" يتعالين على الجراح النازفة، والأطفال يكبرون تحت ظلال القوة التي
لا تستكين، فماذا أبقى أهل غزة للأمة من معاني الإيمان والصمود والشجاعة؟!!
ولقد
تعلمنا من نبينا صلى الله عليه وسلم : أنّ ﵟذِمَّةُ المُسْلِمِينَ واحِدَةٌ،
يَسْعَى بها أدْناهُمْﵞ (البخاري) وتعلمنا
كذلك: أن المسلمين ﵟكمثلِ
الجسدِ الواحدِﵞ (شعب الايمان)
فغزة ليست كأي مدينة عند المسلمين، بل هي جزءٌ من ذاكرة
الأمة ووجدانها، وأيقونةٌ تتربع في قلوب الملايين من المسلمين ممن يرون فيها
مثالاً للصبر والكرامة، وحينما نتابع أخبار أهلنا في غزة، نتذكر قول الله تعالى: ﵟوَلَا
تَهِنُواْ وَلَا تَحۡزَنُواْ وَأَنتُمُ ٱلۡأَعۡلَوۡنَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَﵞ ﵝآل عِمۡرَان : ﵙﵓﵑﵜ ،
وكأن هذه الآيةٌ تخاطب أهلنا في غزة لتكون لهم مصدر إلهامٍ وسبباً للصمود، وتخفف
عنهم أعباء معركة الطوفان، وتُضيء لهم الدرب وتبث فيهم الأمل بأن الله معهم وأن القادم
أجمل وأن الفرج قريب، وهم بلا ادنى شك يؤمنون بأن الله معهم، وأن العاقبة للمتقين،
فيتحدّون الألم ويرفعون شعار "لن نركع"،
ويبقون صامدين كأنهم جبلٌ لا تهزهم الرياح العاتية.
وعندما ننظر إلى حياة أهل غزة، نجد أنفسنا أمام ملحمةٍ
إنسانيةٍ لا مثيل لها، وأمام اختبار صعب لإيماننا وإنسانيتنا ووجداننا، فأهلنا في
ميادين غزة يعيشون فصول قصة تتجاوز الأوجاع اليومية وتتسع لتكون درساً في الكرامة
والعيش من أجلها والتشبث بها رغم التحديات، فهم يواجهون صعوباتٍ لا تنتهي، ويعيشون
تحت الحصار الخانق، إلا أن نفوسهم الأبية تزداد قوةً وصبراً، ومع أنهم قد فقدوا
الكثير من أحبابهم وممتلكاتهم ومنازلهم، لكنّهم يؤمنون بقول الله تعالى: ﵟفَعَسَى
ٱللَّهُ أَن يَأۡتِيَ بِٱلۡفَتۡحِ أَوۡ أَمۡرٖ مِّنۡﵞ ﵝالمَائـِدَة :
ﵒﵕﵜ فلربما في المحنة حكمة، وفي الألم مغزىً عظيم، وفي الصبر
طريقٌ نحو النصر الذي ينتظرونه والذي يعيشون من أجله ويربون أبنائهم عليه.
وليس من السهل على الإنسان أن يرى ما يجري حوله من قسوةٍ
وظلمٍ ودمار، لكنه يتعجب عندما يرى أهل غزة وهم يصمدون تحت وطأة القصف الوحشي الذي
يمارسه عليهم أحفاد القردة والخنازير بشكل يومي، فلا يثنيهم الموت ولا ينال من
عزيمتهم، ، فالسنوار مثلاً يقاتل حتى الرمق الأخير وتقارير الطب العدلي تشير الى
أنه لم يأكل خلال 72 ساعة الأخيرة من حياته ومع هذا يقاتل حتى في عصاه ويأبى
الاستسلام حتى اللحظة الأخيرة، وتجد الأم، التي ودّعت فلذة كبدها بدموعٍ من نار
وألم، ومع ذلك ترفع رأسها فخراً بما قدمت من أجل الدين والعقيدة، وترى الآباء
الذين يشدّون على أيدي أبنائهم، يعطونهم من صبرهم قوةً ومن عزيمتهم أملاً، فهم
يدركون أن الطريق ليس مفروشاً بالورود، وأن المعاناة جزءٌ من الثمن الذي يدفعونه
في سبيل حريتهم وكرامتهم ودينهم الذي هو أغلى ما يملكون.
فيا أحرار العالم ويا أصحاب الضمائر الحية، ويا أيها
الباحثون عن المجد الإسلامي العظيم الذي تتطلعون اليه ردحا من الزمن، ها أنتم
اليوم ترونه بأعينكم في الأرض التي باركها الله ومن حولها، فغزة اليوم ليست مجرد
مدينة فلسطينية، بل هي مدرسة تخرج منها الأجيال التي تؤمن بأن النصر لن يأتي إلا
لمن يملك العزيمة والإيمان، وحينما ترى هؤلاء الأبطال يتحدّون الموت بشجاعة فائقة
لا توصف، تشعر بأنك أمام عالمٍ يفوق الخيال، بل عالم مليء بالإلهام والعبر، وكأنهم
يروون لنا حكايةً عن تلك الحياة التي لا يمكن أن تكون فيها الراحة إلا عبر الطريق
الوعر والصبر على الشدائد، فهم الصابرون على الابتلاء الذين نحسبهم تمثلوا قول
ربنا ﵟوَلَنَبۡلُوَنَّكُمۡ حَتَّىٰ نَعۡلَمَ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ مِنكُمۡ
وَٱلصَّٰبِرِينَﵞ ﵝمُحَمَّد : ﵑﵓﵜ وكأنهم يقولون لنا نحن المجاهدون ونحن الصابرون، وبصبرهم
هذا يخاطبونا بخطاب الاعتزاز "نحن أحياء"، كأنما يُعلنون أن
الموت ليس في فراق الجسد بل في فقدان الروح الصابرة المحتسبة، وأنهم لن يسمحوا
لشيء بأن يسلبهم إنسانيتهم وعزتهم وإصرارهم وثباتهم الأسطوري النادر.
وهذه الأوقات العصيبة لم تكن يوماً سبباً في انكسارهم،
بل كانت نقطة قوةٍ لهم، ووسط الرماد والأطلال، يولد الأمل، ووسط الشقاء ينبع الفرج،
ويؤمن أهل غزة بأن الله لا يخذل الصابرين، فتراهم يمسكون بآية ﵟفَإِنَّ مَعَ
ٱلۡعُسۡرِ يُسۡرًاﵞ ﵝالشَّرۡح : ﵕﵜ كملاذٍ
للرجاء في ظل هذه الظروف القاسية، ويرفعون رؤوسهم عالياً رغم مرارة المحنة، مؤمنين
بأن النصر قريب، وأن ما حل بهم لن يدوم، وأن الله قد وعدهم بأن لكل شدةٍ نهاية،
ولكل معاناةٍ فرجاً قريباً.
إن الإيمان الحقيقي إذا تربّع في القلوب المؤمنة يرتقي
بها من حضيض الأرض الى معارج الله العليا، ويتعالى المؤمن على كل الجراح الغائرة،
ولا يتكلم في محنته الا ما يرضي ربنا، مستذكراً آلام أعداء الله ﵟإِن
تَكُونُواْ تَأۡلَمُونَ فَإِنَّهُمۡ يَأۡلَمُونَ كَمَا تَأۡلَمُونَۖ وَتَرۡجُونَ
مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا يَرۡجُونَۗﵞ ﵝالنِّسَاء : ﵔﵐﵑﵜ فعندما
تستمع إلى أحاديث أهل غزة الأشداء، تسمع كلماتٍ مليئة بالصبر واليقين، فهم قد فقدوا
الكثير، لكنهم لم يفقدوا ما هو أهم؛ كرامتهم وإيمانهم بوعد الله، إنهم يرددون
دائماً (اصبروا فالنصر قريب، وإن مرارة الصبر ستتحول يوماً إلى راحة)، ويشعرون
بأن الصبر هو مفتاحهم الوحيد للخلاص من محنتهم، وأنه رغم مرارته فإنه يحمل في
طياته عاقبةً حسنة، تداوي جراحهم وتخفف عنهم وطأة الألم، وهذا بحد ذاته درسٌ خالدٌ
عن معنى الكرامة وعزة النفس، التي تعلّمنا أن البطولة ليست في حمل السلاح وحده، بل
في الصبر والثبات، وأن المعاناة ليست إلا وسيلةً لاختبار قوة الأيمان، فكلما اشتدت
المحنة، كلما ازدادوا إيماناً بقضيتهم، وازدادوا إصراراً على الحياة بكرامة، فهم أيقونة
للصمود، وشعلةٌ تضيء درب الحرية لمن يريدها.
ان أهلنا في غزة الواثقون بنصر الله، مع كل ما يعانونه
ينتظرون اللحظة الحاسمة ﵟفَهَزَمُوهُم بِإِذۡنِ ٱللَّهِﵞ ﵝالبَقَرَةِ :
ﵑﵕﵒﵜ فلم
تثنهم النوائب، ولم يوقفهم كيد الصهاينة الغاصبين، وهذه قصةٌ الصمود الذي ينبت من
بين الركام، وهذا حال الجندي الذي يؤمن بأن الله لن يخذله، فهم يواجهون الحياة
بقوة، ويمسكون بأيدي بعضهم البعض، يبنون مستقبلهم وسط الدمار، ويشعرون أن الغد
سيكون مشرقاً مهما طالت لياليهم القاسية، وهم يتحدّون الحياة بقلوبٍ ملؤها الإيمان
والثقة بوعد الله، يرفعون راية الصبر عالياً ويعلنون للعالم أن أهل العزة لا
يعرفون الهزيمة، وأن الشجاعة تُولد من رحم الصعاب، وسيشهد التاريخ للأجيال اللاحقة
بأن غزة ليست مجرد مدينة فلسطينية، بل هي رسالةٌ خالدة في تاريخ البشرية، وبالخصوص
أحرار العالم الباحثين عن الحرية والكرامة.