عقيدة صناعية إسلامية (3)
بقلم: د.
فهمي إسلام جيوانتو
عضو
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
ليست
الصناعة في الإسلام عالما ماديا بحتا في تحويل الأشياء من هيئة إلى أخرى لترفع
قيمتها الاقتصادية وفائدتها المادية فحسب، بل الصناعة في الإسلام منخرطة في الهدف
الكبير من وجود الإنسان نفسه وهو العبادة، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ
وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56].
ولا
تخرج الصناعة في الإسلام عن
الإطار العام الذي وضعه الله للإنسان ليدخل في حلبة السباق إلى الإحسان والأحسن،
قال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ
أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الكهف: 7] وقال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ
الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ [الملك: 2]
توظيف
الصناعة لخدمة الدين
فصناعات
سليمان على كثرتها وعظمتها كانت مسخرة كلها لخدمة دين الله، فكانت رسالته إلى
زعماء العالم دعوةً إلى الله، كما أرسل إلى ملكة سبأ: ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ!
وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ!
وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ [النمل: 30-31] وبعد القصة المعروفة، استجابت وقالت:
﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ﴾ [النمل: 44]
وما
ذكر الله له من جمعٍ حاشد إلا جنودا في سبيل الله، قال تعالى: ﴿وَحُشِرَ
لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ
يُوزَعُونَ﴾ [النمل: 17].
وقد
عرف الهدهد ما كان يهمّ سليمان عليه الصلاة والسلام من كلّ هذا الحشد الكبير. كان
همّ سليمان هو نشر دين الله، لذلك كان الخبر الأهم الذي ركز عليه الهدهد في
"تقريره" عن أرض سبأ: ﴿إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ،
وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُهَا
وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَزَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ، فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ، فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ
(٢٤) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ، وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ؟ (٢٥) اللَّهُ لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [سبأ: 23-26] عرف الهدهد أن
الرسالة التي حملها سليمان هي رسالة الدعوة إلى توحيد الله، وهي عقيدة الدولة ومهمتها.
ومن
شدة حب سليمان للجهاد في سبيل الله، كان دائم الاعتناء بالخيول وترويضها وملاحظة
تفاصيلها، قال تعالى: ﴿إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ
الْجِيَادُ (٣١) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي
حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾ [ص: 30]
فهذه
قصة حب الخير من أجل الله تعالى وطاعة لله، إلا أن التفاسير المشهورة – مع الأسف
الشديد- ذهبت بعيدا عن هذا المعنى الظاهر، ونسبت إلى سليمان الغفلة عن صلاة العصر
بسبب انشغاله بعرض الخيول، ثم ندم وعقر تلك الخيول، فهذا الأمر لا يليق برجل مسلم
عاقل فضلا عن نبي مسدد بالوحي موصوف بالحكمة!
وقد
انبرى الإمام فخر الدين الرازي بتفنيد هذا القول ورد هذه الشبهة، وفسر بما يتلاءم
مع سياق الآية، ويتناسب مع مدح الله لسليمان، ويليق بمقام النبوة والفهم الحكمة
التي أوتيها سليمان عليه السلام.
فالصواب
كما قال الإمام الرازي: إن سليمان عليه السلام احتاج إلى الغزو، فجلس وأمر بإحضار
الخيل، وأمر بإجرائها، وذكر: "أني لا أحبها لأجل الدنيا ونصيب النفس، وإنما
أحبها لأمر الله، وطلب تقوية دينه." وهو المراد من قوله: {عن ذكر ربي}، ثم
إنه عليه السلام أمر بإعدائها وتسييرها {حتى توارت بالحجاب} أي غابت عن بصره، ثم
أمر الرائضين بأن يردوا تلك الخيل إليه، فلما عادت إليه طفق يمسح سوقها وأعناقها.
قال:
والغرض من ذلك المسح أمور:
الأول:
تشريفاً لها وإبانة لعزتها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو.
الثاني:
أنه أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة والملك يتضع إلى حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه.
الثالث:
أنه كان أعلم بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها، فكان يمتحنها ويمسح سوقها وأعناقها،
حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض.
تمكين
بعد امتحان
لم
يأت ذلك التفضيل الذي أوتيه سليمان عن فراغ، ولم ينله بغير مؤهلات، بل كان ذلك بعد
ابتلاء ومعاناة وصبر. وقضاها سليمان بثبات ويقين، حتى يخرج من المحنة صابرا
محتسبا، ثابتا على دينه، ومحافظا على مبادئه، متحلًّيا بأخلاقه. فلم تخرج قصة
سليمان عن سنن الله وقوانينه التي تحكم كل البشر بلا استثناء، من ابتناء النتائج
على المقدمات، وحصول المسبَّبات عن الأسباب. قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ
أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا
يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 24]
قال
ابن تيمية رحمه الله: فالصبر واليقين بهما تُنال الإمامة في الدين.
وهذا
هو طريق المجد الشريف الذي سلكه كل العظماء، كما قال الشاعر:
دَبَبْتُ
للمجدِ والساعون قد بلغوا ** جَهْدَ النفوس وألقَوا دونه الأُزُرا
وكابدوا
المجد حتى ملَّ أكثرُهم ** وعانقَ المجدَ مَن أوفى ومَن صَبَرا
لا
تحسَبِ المجدَ تمرًا أنتَ آكلُه ** لن تبلغَ المجد حتى تلعَق الصَّبِرا
فرغم أن سليمان ورث الملك عن أبيه داود عليهما السلام، إلا
أن سنة الابتلاء جارية عليه كما جرى على غيره، بل الأنبياء هم أكثر الناس تعرضا
للابتلاءات الشديدة.
عن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: «الْأَنْبِيَاءُ،
ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الْعَبْدُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ،
فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صُلْبًا، اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ
رِقَّةٌ، ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ،
حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ، وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ»
قال الله تعالى عن الفتنة والابتلاء الذي تعرض لها سليمان
باختصار: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ
وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ﴾ [ص: 34]
قال
ابن عاشور رحمه الله: قد أشارت الآية إلى حدث عظيم حلّ بسليمان. واختلفت أقوال
المفسرين في تعيين هذه الفتنة، فذكروا قصصا هي بالخرافات أشبه، ومقام سليمان عن
أمثالها أَنزَه.
ونحن
في غنى عن تلك الروايات الإسرائيلية الغريبة التي تبعدنا عن روح القرآن وروح
الإسلام. ولكن المعنى الثابت والمحكم والمعتمد في هذه الآية أن سليمان ابتلي فصبر
وأناب إلى الله. ثم ناجى ربه: ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا
يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ [ص: 35] فكان ذلك
المُلك العظيم والتفوق الكبير والسيطرة الواسعة استجابة لهذا الدعاء ونتيجة لذلك
الصبر.
دور
التفوق الصناعي في نصرة الدين ونشره
إن
ما آتاه الله لسليمان من تسخير الريح والطير والإنس والجن يحقق تفوقا ماديا وتقنيا
وعسكريا على غيره من حكام ذلك الزمان. وهذا التفوق يختصر طريق الإقناع في جلب
الناس إلى دين الله.
فكانت
طريقته في إرسال الرسالة لافتة تدعو إلى الإعجاب والاحترام والتقدير والهبية...
والخوف منه أيضا، حتى قالت ملكة سبأ: ﴿يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ
كِتَابٌ كَرِيمٌ﴾ [سبأ: 29] فوصف الكتاب بالكرم لمضمونه وهيئته وطريقة وصوله.
قال
ابن كثير: تلك البطاقة كانت مع طائر سامع مطيع فاهم عالم بما يقول ويقال له. فذكر
غير واحد من المفسرين وغيرهم: أن الهدهد حمل الكتاب، وجاء إلى قصرها، فألقاه إليها
وهي في خلوة لها، ثم وقف ناحية ينتظر ما يكون من جوابها عن كتابها.
فبعض
التقنيات المتفوقة تغني عن المعارك والأتعاب. وفي المقابل كانت بلقيس تدرك خطورة
هذا التفوق، فكانت تعرف أن الطريقة المناسبة لمواجهة هذا التوفق ليس بالقوة
العنيفة التي لن توصلها إلى النتيجة المرجوة، فعدلت عن الفكرة التي طرحها
مستشاروها.
قال
ابن كثير: فكان رأيها أتم وأسد من رأيهم، وعلمت أن صاحب هذا الكتاب لا يغالب ولا
يمانع ولا يخالف ولا يخادع. ﴿قَالَتْ
إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ
أَهْلِهَا أَذِلَّةً، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ [النمل: 34].
فطرحت
حلا آخر بإرسال الهدايا لسليمان، لعله يرضى بها ويكف عن الهجوم، فقالت: ﴿وَإِنِّي
مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ
الْمُرْسَلُونَ﴾ [النمل: 35] أرادت أن تصانع عن نفسها وأهل مملكتها بهدية
ترسلها، وتحَفٍ تبعثها.
ولكن
هدف سليمان ليس المال، بل الدعوة إلى الإيمان. ﴿فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ:
أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ؟ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ، بَلْ
أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ﴾ [النمل: 29]
فهنا
استخدم تفوقه العسكري لدفعهم إلى ما أراد. قال: ﴿ارْجِعْ إِلَيْهِمْ!
فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا، وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ
مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [النمل: 37] أي: فلأبعثن إليهم بجنود
لا يستطيعون دفاعهم ولا نزالهم ولا ممانعتهم ولا قتالهم، ولأخرجنهم من بلدهم
وحوزتهم ومعاملتهم ودولتهم {أذلة وهم صاغرون} [النمل: 37]، عليهم الصغار والعار
والدمار.
ثم استخدم تفوقا آخر في تقنية النقل في إحضار عرش بلقيس
الذي هو مفخرة لدولة سبأ، فهي رسالة صادمة من سليمان تكسر معنويات الجهة المقابلة،
حتى لا يفكرون في المعاندة ويندفعون إلى الاستسلام، ﴿قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ
أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ [النمل:
38]
فعُرضت عليه طريقتان للنقل: "طريقة عفريتية"
وطريقة علمية، فاختار الطريقة العلمية. ﴿قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ: أَنَا
آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ، وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ
أَمِينٌ (٣٩) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ: أَنَا آتِيكَ بِهِ
قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ [النمل: 39-40]
هناك أقوال كثيرة من المفسرين كيف يتم نقل ذلك العرش، ولكن ما
يهمنا هنا أن قدرة أهل العلم متفوقة على قدرة الجن.
وبعد إحضار العرش، وإظهاره أمام الملكة أبهرها المنظر
وفاجأها، ولكنه غير كاف لدفعها إلى الإسلام، فاستخدم صناعة أخرى متفوقة وهي صناعة
البلاط الزجاجي مما يوهم الناظر أنه سطح الماء.
قال
ابن كثير: وكان سليمان قد أمر ببناء صرح من زجاج، وعمل في ممرّه ماء، وجعل عليه
سقفا من زجاج، وجعل فيه من السمك وغيرها من دواب الماء، وأمرت بدخول الصرح،
وسليمان جالس على سريره فيه.
﴿فَلَمَّا جَاءَتْ، قِيلَ: أَهَكَذَا عَرْشُكِ؟ قَالَتْ:
كَأَنَّهُ هُوَ، وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا، وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢)
وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ
قَوْمٍ كَافِرِينَ (٤٣) قِيلَ: لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ! فَلَمَّا رَأَتْهُ
حَسِبَتْهُ لُجَّةً، وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا، قَالَ: إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ
مِنْ قَوَارِيرَ! قَالَتْ: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ
سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [النمل: 42-44]
فهنا بعد سلسلة من استخدام الصناعات المتفوقة وصل الأمر إلى
النتيجة المرجوة وهي إسلام ملكة سبأ وأهلها طوعية بلا حرب ولا رفع سلاح.
وهذه كلها عن الصناعات التي قام بها الأنبياء، وللقرآن مثال
آخر للصناعة التي أنشأها إنسان عادي من غير الأنبياء، وهو موضوعنا في المقالة
القادمة بإذن الله تعالى.