أسامة بن زيد..
حِبّ رسول الله ﷺ
بقلم: د. علي
بن محمد الصلابي
الأمين العام
للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
إنّه الصحابي أسامة بن زيد بن
حارثة (رضي الله عنه)، القائد الشابّ المجاهد، حِبّ رسول الله ﷺ وابن حبّه، من علماء
الصحابة المجاهدين، ومن فرسانهم المعدودين، كان قارئًا مفسرًا وعابدًا وعالمًا، وهو
الفقيه المحدّث، من مشاهير الصحابة وخيرة مجاهديهم.
اسمه
ونسبه وكنيته:
هو أسامة بن زيد بن حارثة بن
شراحيل بن كعب الكلبي. ينتمي لكنانة عوف، وهم من قبيلة معروفة بشدة المراس والصلابة
والحزم والحروب، هي قبيلة كلب. ويكنى (رضي الله عنه) "أبو محمد"، ويقال
"أبو زيد"، مولى رسول الله ﷺ، كان يسمى "الحِب بن الحِب"، فأبوه
زيد بن حارثة، حِبّ رسول الله ﷺ ومولاه. وأمه هي بركة الحبشية، أم أيمن، حاضنة النبي
ﷺ التي كانت مملوكة لآمنة بنت وهب أم الرسول ﷺ. (البداية والنهاية لابن كثير، ج6 ص334).
يظهر حب النبي
ﷺ لأسامة بن زيد (رضي الله عنه) في السفر، لأن الحبّ يستلزم ملازمة الحبيب، فكان النبي
ﷺ يردف وراءه أسامة (رضي الله عنه) مرات عديدة في أثناء السفر
في
صحبة النبي ﷺ:
كان أبوه «زيد بن حارثة» من أول
الناس إسلامًا، وقد عاش مع النبي ﷺ على أنه ابنه بالتبني، وولد له «أسامة» بمكة ونشأ
في ظل النبوة، وترعرع في بيت النبي ﷺ وتحت رعايته، فآمن بالإسلام منذ صغره، ولم يعرف
إلا الإسلام دينًا خالصًا لله تعالى، ولم يدِن بغير الإسلام عقيدةً وعملًا وسلوكًا،
وتربّى كجندي للإسلام، يضحي بكل شيء في سبيل عقيدته التي آمن بها، وهاجر مع أبيه إلى
المدينة، وتقلّب في أجواء الوحي والتنزيل القرآني، وكان رسول الله ﷺ يحبه حبًا شديدًا،
فكان عنده كبعض أهله (تهذيب تاريخ ابن عساكر، ج2 ص392).
واشتهر أسامة بكونه حِبَّ رسول
الله ﷺ وابن حِبِّه، وتلك منزلةٌ فريدة يغبطه عليها سائر المسلمين، وكان النبي يُقعد
أسامة على فخذه، ويُقعد الحسن على الفخذ الآخر ويقول: "اللهم ارحمهما، فإني أرحمهما"
أو "اللهم أحبهما، فإني أحببتهما" (الطبقات الكبرى ابن سعد، ج4 ص62).. وبه
تساوى في الحب مع الحسن.
وشاع أمر حبه بين الصحابة، فحكى
القصة ابن عمر قائلًا: إن رسول الله ﷺ قال: "أحب الناس إليّ أسامة ما خلا فاطمة،
ولا غيرها". وأكد القصة آخرون، فقد حدث هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله ﷺ قال:
"إن أسامة بن زيد لأحب الناس إليَّ، أو من أحب الناس إلي، وأنا أرجو أن يكون من
صالحيكم، فاستوصوا به خيرًا" (رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر).
ويظهر حب النبي ﷺ لأسامة بن زيد
(رضي الله عنه) في السفر، لأن الحبّ يستلزم ملازمة الحبيب، فكان النبي ﷺ يردف وراءه
أسامة (رضي الله عنه) مرات عديدة في أثناء السفر. قال أسامة: إن رسول الله ﷺ ركب على
حمار عليه قطيفة، وأردف وراءه أسامة وهو يعود سعدا بن عبادة قبل وقعة بدر. ودخل النبي
ﷺ مكة يوم الفتح ورديفه أسامة، فأناخ في ظل الكعبة، ودخلها مع بلال وأسامة (رضي الله
عنهما). وأفاض النبي ﷺ من عرفات وأسامة رديف النبي (فتح الباري شرح البخاري، ج8 ص81).
عرف حِب رسول
الله أسامة بن زيد رضي الله عنه طريق الجنة بالعبادة فسلكه، وأحس بعظم ثواب الصوم والتهجد
في الليل، فصام وهجر لذة المنام، كما أحس بأن نعيم الحياة موقوت، ونعيم الآخرة دائم
خالد، فعزف عن الأول، وعكف على الثاني
صفاته:
كان أسامة كأمه الحبشية أفطس
الأنف أسود، على عكس أبيه زيد الذي كان أبيض أشقر، قال إبراهيم بن سعد: كان زيد أحمر
أبيض أشقر، وكان أسامة بن زيد مثل الليل (أسد الغابة، ج1 ص66) و (الاستيعاب، ج1 ص76).
وكان أسامة حاد الذكاء، فطنًا
حكيمًا يضع الأمور في مواضعها الصحيحة، شجاعًا بطلًا، عفيف اللسان ومترفعًا عن الدنايا،
يألف ويؤلف ويحبه الناس، عالي الهمة، متفانيًا في القيام بالواجب، ذا عقل كبير وفكر
ناضج مبكر.
تقواه
وزهده وورعه:
كان أسامة (رضي الله عنه) في
التقوى والطاعة والعبادة والزهد مثلًا يقتدى به.. عرف طريق الجنة بالعبادة فسلكه، وأحس
بعظم ثواب الصوم والتهجد في الليل، فصام وهجر لذة المنام، كما أحس بأن نعيم الحياة
موقوت، ونعيم الآخرة دائم خالد، فعزف عن الأول، وعكف على الثاني، وعلم أن الدنيا مهما
طالت فهي إلى زوال وفناء، فلم يأبه بزخارف اللباس والزينة، ولمس هيبة الله وجلاله،
فخاف عذابه وخشي عقابه، وأدرك مزايا الصالحين، فالتزم طريقهم، وأيقن أن باب الجنان
والرضوان هو الجهاد في سبيل الله، فجاهد وقاتل، وقاد جيش الإسلام.
في غزوة الخندق
تكررت محاولة أسامة (رضي الله عنه) مع نفر من الصحابة للمشاركة في الجهاد، وجعل يرفع
قامته ليجيزه رسول الله، فرقّ له النبي ﷺ وأجازه بعد أن بلغ خمس عشرة سنة
جهاده:
جاء أسامة وهو في سن الرابعة
عشرة إلى النبي ﷺ يوم أحد، مع نفرٍ من فتيان الصحابة الكرام، فأجاز النبي ﷺ من كان
في الخامسة عشرة يومئذ، وهما سمرة بن جندب الفزاري ورافع بن خديج من بني حارثة (رضي
الله عنهم)، لأن رافعًا رامٍ يحسن الرمي بالسهام، ولأن سمرة يصرع رافعًا لقدرته الجسدية،
وردّ رسول الله ﷺ أسامة بن زيد، وعبدالله بن عمر بن الخطاب، وزيد بن ثابت، وعمرو بن
حزم. فتألم أسامة (رضي الله عنه)، ورجع وعيناه تدمعان ألا يجاهد من رسول الله ﷺ (السيرة
النبوية، ابن هشام، ج2 ص66).
وفي غزوة الخندق تكررت محاولة
أسامة (رضي الله عنه) مع نفر من الصحابة للمشاركة في الجهاد، وجعل يرفع قامته ليجيزه
رسول الله، فرقّ له النبي ﷺ وأجازه بعد أن بلغ خمس عشرة سنة.
ومن ثم حمل أسامة (رضي الله عنه)
راية الجهاد في سبيل الله، وشارك في سائر الغزوات مع النبي ﷺ، كما اشترك في غزوة مؤتة
تحت إمرة أبيه زيد (جوامع السير، ابن حزم، ص220). وتابع أسامة القتال بعد استشهاد أبيه
مع القادة الثلاثة، وعاد إلى المدينة تاركًا جسد أبيه الطاهر على حدود الشام، راكبًا
جواده الذي استشهد عليه.
ولم ينقطع جهاده، فشارك في غزوة
حنين، واشترك في حروب الردة في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه. ومن أشهر تجارب أسامة
بن زيد (رضي الله عنه) في الحرب والجهاد جعْلُه قائدًا على الجيش الذي بعثه رسول الله
ﷺ قبل وفاته إلى الشام لقتال الروم، والذي عُرف بـ "بعث أسامة"، وقد أنفذ
هذا البعث الخليفة أبو بكر الصديق (رضي الله عنه)؛ لأن النبي ﷺ توفي قبل ذلك (البدء
والتاريخ لأبي زيد البلخي، ج5 ص152).
من الأحاديث
التي رواها (رضي الله عنه) حديثه في فتنة النساء، فعن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله
ﷺ: «ما تركت بعدي فتنة أضرَّ على أمتي من النساء على الرجال»
مكانته
العلمية وروايته للحديث:
كما كان أسامة بن زيد (رضي الله
عنه) قائدًا حربيًا فذًا، فقد كان كذلك عالمًا بارعًا وفقيهًا محدثًا، فقد روى الحديث
عن النبي ﷺ، وكان يقصده الناس من الصحابة والتابعين لسماع أحاديثه عن النبي ﷺ، ولمعرفة
رأيه وفتواه في بعض المسائل، فقد عده ابن حزم من أصحاب الفتيا من الصحابة (أسد الغابة
لابن الأثير، ج1 ص65). وقد روى عن الرسول ﷺ 128 حديثًا، ذكر منها الإمام أحمد في مسند
أسامة 93 حديثًا، ولكن بعضها مكرر (مسند أحمد، ج5 ص199- 210).
ومن الأحاديث التي رواها (رضي
الله عنه) حديثه في فتنة النساء، فعن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله ﷺ: «ما تركت
بعدي فتنة أضرَّ على أمتي من النساء على الرجال». (مسند أحمد، ج5 ص200 – 202).
وحديثه في الحفاظ على صلاة الجماعة،
فعن الزبرقان: أن رهطًا من قريش، مرّ بهم زيد بن ثابت وهم مجتمعون، فأرسلوا إليه غلامين
لهم يسألانه عن الصلاة الوسطى، فقال: هي العصر. فقام إليه رجلان منهم فسألاه، فقال:
هي الظهر، ثم انصرفا إلى أسامة بن زيد (رضي الله عنه) فسألاه، فقال: هي الظهر، إن رسول
الله ﷺ كان يصلي الظهر بالهجير (نصف النهار)، ولا يكون وراءه إلا الصف والصفان، والناس
في قائلتهم وفي تجارتهم، فأنزل الله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا
الله قاتنين}، قال: فقال رسول الله ﷺ: لينتهين رجال، أو لأحرقن بيوتهم (المرجع السابق،
ج5 ص206).
وفاته:
سكن أسامة بن زيد (رضي الله عنه)
المزة غرب دمشق في زمن معاوية، ثم رجع فسكن وادي القرى، ثم نزل إلى المدينة المنورة
فمات بِها بالجرف، ودفن بالبقيع، وصحح ابن عبد البر أنه مات سنة 54 هـ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة
تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.