عقيدة صناعية إسلامية (4)
بقلم: د.
فهمي إسلام جيوانتو
عضو
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
تبين
لنا من خلال مقالاتنا السابقة مدى اهتمام القرآن بالصناعة، وأنها من صميم أعمال
الأنبياء، وهي الوسائل المعتمدة في تنفيذ مهامهم وتحقيق أهدافهم، ولكن لا يتوهم
متوهم أن النماذج القرآنية كلها مقرونة بالمعجزات التي عجز عن تطبيقها الإنسان العادي
في ظروف اعتيادية.
وأعمال
الأنبياء ليست كلها معجزات، بل أكثرها مساعي إنسانية طبيعية تخضع لكل القوانين والنواميس
الاعتيادية التي تحكم أعمال البشر وأفعالهم. وإنما تأتي المعجزات في حالات
استثنائية قليلة يحتاج فيها الناس إلى تقوية إيمانهم وتثبيت قلوبهم والبرهنة في صدق
الرسالة. قال الله تعالى: ﴿قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ: إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ
مِثْلُكُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَمَا
كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَعَلَى
اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [إبراهيم: 11] فأثبتوا أن الأصل في
شأن الأنبياء والرسل هو الطبيعة البشرية، وكل ما يخرج عن تلك الطبيعة من المعجزات إنما
هو استثناء قليل حاصل بإذن الخالق عز وجل.
ومع
ذلك فإن القرآن قدم للبشرية أيضا نموذجا بشريا طبيعيا، خاليا عن معجزات خارقة
للعادة خارجة عن قوانين الطبيعة المطردة، بل بنيت إنجازاته كلها على أسباب معقولة منضبطة
يمكن اتباعها وتعلمها، ألا وهو نموذج ذي القرنين.
فقد
ذكر الله تعالى نموذج ذي القرنين في آخر سورة الكهف، قال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ
عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (٨٣) إِنَّا
مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (٨٤)
فَأَتْبَعَ سَبَبًا﴾ [الكهف: 83-85]
إذا
التزمنا بالمنهجية العلمية الدقيقة في دراسة التناول القرآني لشخصية ذي القرنين
بحيث لا نقبل إلا ما هو ثابت في القرآن والسنة، ولا نعتمد إلا على الرواية
الصحيحة، فإن علينا أن نستبعد أقوالا وآراء كثيرة مطروحة في كتب التفسير وغيرها عن
هذه الشخصية المهمة التي رغم أهميتها إلا أن القرآن آثر إبهام اسمه ومكانه وزمانه،
ولم يذكر إلا لقبه وأعماله.
قال
ابن عاشور رحمه الله: "... ولم يتجاوز القرآن ذكر هذا الرجل بأكثر من لقبه
المشتهر به إلى تعيين اسمه وبلاده وقومه، لأن ذلك من شؤون أهل التاريخ والقصص،
وليس من أغراض القرآن، فكان منه الاقتصار على ما يفيد الأمة من هذه القصة..."
فقد
روي عن ابن عباس قوله: "أبهموا ما أبهمه القرآن."
وفي
هذا السياق يقول الدكتور صلاح الخالدي: "...موقف القارئ من مبهمات القرآن، وهي
ما أبهمه القرآن من أسماء الأشخاص والأماكن في قصص السابقين.
وهي
التي يستحيل علينا أن نبيّنها، وأن نحدد تلك الأسماء لأننا لم نشهدها، ولأن
الروايات عن أهل الكتاب فيها مطعون فيها، ومردودة علميا، لتطرق التحريف والكذب
إليها وغلبته عليها. موقف القارئ منها أن ينظر في القرآن، فإذا وجد ما أبهم في
موضع، مبينا في موطن آخر أخذه، فإن لم يجده مبينا في القرآن، توجّه إلى ما صح من
حديث رسول الله عليه السلام، فإذا بين هناك أخذه.. ولا يجوز أن يبحث في غير هذين
المصدرين اليقينيين، فليتركه بعد ذلك على إبهامه، وليسعه ما وسع رسول الله عليه
الصلاة والسلام وأصحابه في موقفهم منه..
فإن
لم يفعل ذلك قال على الله بدون علم، واتبع من ليس عنده علم. وأشغل نفسه فيما لا
خير فيه، وخرج عن جو النص القرآني، وأقبل على موانع وحجب تحجب عنه نور القرآن..."
خلاصة عن شخصية ذي القرنين
وهذه
القصة القرآنية - كما استخلصه ابن عاشور- تعطي صفات لا محيد عنها:
إحداها:
أنه كان ملكا صالحا عادلا.
الثانية:
أنه كان مُلهَما من الله.
الثالثة:
أن ملكه شمل أقطارا شاسعة.
الرابعة:
أنه بلغ في فتوحه من جهة المغرب مكانا كان مجهولا وهو عين حمئة.
الخامسة:
أنه بلغ بلاد يأجوج ومأجوج، وأنها كانت في جهة مما شمله ملكه غير الجهتين الشرقية
والغربية فكانت وسطا بينهما كما يقتضيه استقراء مبلغ أسبابه.
السادسة:
أنه أقام سدا يحول بين يأجوج ومأجوج وبين قوم آخرين.
السابعة:
أن ياجوج وماجوج هؤلاء كانوا عائثين في الأرض فسادا، وأنهم كانوا يفسدون بلاد قوم
موالين لهذا الملك.
الثامنة:
أنه كان معه قوم أهل صناعة متقنة في الحديد والبناء.
التاسعة:
أن خبره خفي دقيق لا يعلمه إلا الأحبار علما إجماليا كما دل عليه سبب النزول.
اتباع قانون السببية
إن
أهم ما فعله ذو القرنين للوصول إلى تلك الإنجازات هو اتباع الأسباب المتاحة
واستغلالها أحسن استغلال، قال تعالى: ﴿وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا
(٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَبًا﴾ [الكهف: 84-85]، وقد كرر القرآن هذا الأمر ثلاث
مرات في هذه القصة، فكما قال في الرحلة الأولى: ﴿فَأَتْبَعَ سَبَبًا﴾، قال الثانية
والثالثة: ﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا﴾ [الكهف: 89، 92]، مما يدل على أن هذا هو
السر (وما هو بسر في الحقيقة) في تلك الإنجازات العظيمة.
فقوله
تعالى: ﴿وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا﴾ يعني – كما قال الطبري رحمه
الله- ما يُتسبَّب إليه وهو العلم به. قال
ابن عباس: عِلْماً يتسبب به إِلى ما يريد. وقيل: هو العِلْم بالطُّرق والمسالك. والصحيح
– كما قال ابن كثير- أنه يعم كل سبب يتوصل به إلى نيل مقصوده في المملكة وغيرها. ومثلما
قال الله في حق بلقيس: ﴿وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [النمل: 23] أي:
مما يؤتى مثلها من الملوك، وهكذا ذو القرنين يسر الله له الأسباب، أي الطرق
والوسائل إلى فتح الأقاليم والرساتيق والبلاد والأراضي وكسر الأعداء، وكبت ملوك
الأرض، وإذلال أهل الشرك. قد أوتي من كل شيء مما يحتاج إليه مثله سببا.
إن
القرآن هنا يريد أن يعلمنا بأن النجاح والفلاح إنما يحصل باتباع أسبابه، والله قد
جعل حدوث الأشياء في هذا الكون وفق قانون صارم لا يتغير ولا يتبدل، وهو قانون
السببية. وكل ما في الكون يخضع لهذا القانون، لا يحدث شيء هنا إلا بسببه.
قال
شيخ الإسلام رحمه الله: "فليس في الدنيا والآخرة شيء إلا بسبب، والله خالق
الأسباب والمسببات."[10] وقال: "فالله تعالى اقتضت حكمته ربط
المسببات بأسبابها."[11]
وإن
قانون السببية قانون ثابت مقرر في القرآن الكريم، قال ابن القيم: إن القرآن مملوء
من ترتيب الأحكام الكونية والشرعية والثواب العقاب على الأسباب بطرق متنوعة، فيأتي
بباء السببية تارة كقوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ
فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24] ، ويأتي باللام تارة كقوله تعالى: {كِتَابٌ
أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ
بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [إبراهيم: 1]، ويأتي بذكر الوصف المقتضي للحكم تارة كقوله
تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق: 2].[12]
فالعقلية
التي يبنيها القرآن من خلال أحكامه وقصصه وتوجيهاته هي العقلية العلمية المنطقية التي
تربط بين النتائج والمقدمات والأسباب والمسببات، وتنطلق من أرضية الواقع والعوامل
المؤثرة لتنظر إلى النتائج بآليتها المدروسة. فنجاح ذي القرنين – حسب المعطيات
القرآنية- لا يشذ عن هذا القانون.
الصناعة الثقيلة العملاقة
وما
أنجزه ذو القرنين في مجال الصناعة يستحق الدراسة والوقوف عليها. ويتجلى الإنجاز
الصناعي العظيم لذي القرنين في بناءه السد الضخم والمتين للحيلولة بين يأجوج
ومأجوج المفسدين وبين جيرانه المسالمين. فقد قام بالصناعة الثقيلة العملاقة التي
لم يأت بمثلها غيره، فقد كانت أعجوبة هندسية مدهشة تمتد آثارها آلاف السنين مما
يحدد مسار تاريخ البشر في الماضي والحاضر والمستقبل.
قال
تعالى: ﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ،
وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (٩٣) قَالُوا:
يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ،
فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا؟﴾ [الكهف:
92-94]
ففي
هذه الرحلة الثالثة طُلب من سليمان أن يبني سدا منيعا لعزل شعب كامل يهدد جيرانه! ورغم
صعوبة التواصل معهم إلا أن الرسالة المطلوبة وصلت بشكل سليم، قد سألوا ذا القرنين
أن يبني لهم سدا يقيهم من هجوم واعتداء يأجوج ومأجوج مقابل أن يعطوه خرجا أي جعلا
من المال. فإنهم أرادوا أن يجمعوا له من
بينهم مالا يعطونه إياه، حتى يجعل بينهم وبينهم سدا.
فقال
ذو القرنين بعفة وديانة وصلاح وقصد للخير: ﴿مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ﴾
أي: إن الذي أعطاني الله من الملك والتمكين خير لي من الذي تجمعونه.
واقترح ذو القرنين -بدل المقابل المادي الذي لم يحتج إليه وزهد فيه- اقترح أن
يشاركوه في البناء ويعينوه عليه قال: ﴿فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ، أَجْعَلْ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا﴾ [الكهف: 95] فتم اتفاق التعاون بين الدولة
القوية المشفقة على الناس والشعب المستعد للعمل والبناء.
وهذا
السد المطلوب ليس سدا لمنع تدفق الماء كما هو المعتاد في وظيفة السدود، بل السد
الذي يمنع حركات البشر ويمنعهم من العدوان، وهذا الأمر لا يتحقق إلا بتوفر عدة
مواصفات: أن يكون حجمه ضخما حتى يغطي مساحة ما بين الجبلين، وأن يكون عاليا جدا بحيث
يصعب الوصول إلى أعلاه، وأن يكون أملس حتى يستحيل التسلق عليه، وأن يكون صلبا قويا
حيث لا يمكن ثقبه وخرقه، وأن يصمد طويلا فلا ينهار بعد وقت قصير. فماذا فعل ذو
القرنين لتوفير هذه المواصفات؟
فكانت
تلك الأعجوبة الهندسية العملاقة والتكنولوجيا المتطورة... قال الله على لسان ذي
القرنين: ﴿آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ
قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ
قِطْرًا﴾ [الكهف: ٩٦] والنتيجة الهائلة: ﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا
اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا﴾ [الكهف: 97]
طلب
ذو القرنين أولا الإتيان بزبر الحديد، والزبر جمع زبرة، أي قطعة عظيمة من الحديد.
وهذا بحد ذاته عجب، فإن عامة البنايات تتكون إما من الأحجار أو اللبنات، أما أن
يكون قوام البناء قطعا كبيرة من الحديد فهذا غاية في القوة والمتانة، وهي فكرة
إبداعية عجيبة، وتجاوزت حدود الإتقان المعهود! ومع ذلك فإن الحديد رغم قوته
ومتانته يتعرض للصدأ مع تقادم الزمان، فما الحل؟
الحل
في أعجوبة هندسية أخرى! قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ
قَالَ انْفُخُوا﴾ [الكهف: 96]، قال الإمام الرازي مفصلا لهذا الإجراء: "فأتوه
بها – أي زبر الحديد - فوضع تلك الزبر بعضها على بعض، حتى صارت بحيث تسد ما بين
الجبلين إلى أعلاهما، ثم وضع المنافخ عليها ﴿حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ
آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا﴾ [الكهف: 96]، والقطر هو النحاس المذاب، أي
حتى إذا صارت مشتعلة كالنار، صبّ النحاس المذاب على الحديد المحمّى، فالتصق بعضه
ببعض وصار جبلا صلدا.
فخلط الحديد بالنحاس يمنع عملية التصدئ.
فقد
أنجز قمة في المواد المستخدمة وقمة في طريقة التركيب والبناء... وقد استخدمت هذه
الطريقة حديثا في تقوية الحديد فوجد أن إضافة نسبة من النحاس إليه تضاعف مقاومته
وصلابته.
وثبت علميا – كما نقله الدكتور زغلول النجار حفظه الله- أن أقوى سبيكة هي سبيكة
الحديد المضاف بالنحاس.
ثم
إن نتيجة هذا الإبداع ومتانة البناء: ﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا
اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا﴾ [الكهف: 97]، أي ما قدروا على الصعود عليه لأجل
ارتفاعه وملاسته، ولا على نقبه لأجل صلابته وثخانته.
الإسلام رسالة حضارية
فقد
تبين من كل ما سبق أن هذا الدين يهتم بأمر الصناعة بل يشجع على التطور الصناعي
والتكنولوجي. ومن الخطـأ الكبير والضلال البعيد أن يتصور أن التمسك بالدين الإسلامي
يعني العودة إلى الحياة البدائية وتجنب مواكبة التطورات التقنية، وأن الأنبياء والصالحين
كلهم كانوا يعيشون حياة بدوية بعيدة عن التقدم الحضاري وليس لهم علاقة بتطوير
الحياة المدنية.
والحقيقة
أن الدين - بالإضافة إلى تعليمه العقيدة والعبادة – فإنه يحمل أيضا رسالة حضارية،
فقد علّم الناس أسلوب حياة أفضل، ودلهم على طريق الرقي الإنساني المادي والمعنوي
على السواء. لهذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أصحابه - رضوان الله عليهم-
عن سكنى البادية ويعتبر ذلك ارتدادا، يعني ارتدادا عن خط التقدم الذي حث عليه
الدين، وليس الارتداد بمعنى الخروج عن الدين بالكلية. يدل على هذا المعنى ما أخرجه
الشيخان في الصحيحين، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ: أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى
الحَجَّاجِ فَقَالَ: يَا ابْنَ الأَكْوَعِ، ارْتَدَدْتَ عَلَى عَقِبَيْكَ،
تَعَرَّبْتَ؟ قَالَ: لاَ، وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَذِنَ لِي فِي البَدْوِ.
وَمعنى
"تعربتَ" كما قال ابن الجوزي رحمه الله: عدتَ أَعْرَابِيًا بعد صُحْبَة
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
تبين
من الحديث أن العودة إلى حياة البداوة للصحابة - باستثناء حالات فردية- بعد مصاحبة
الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة يعتبر ارتدادا منكرا، ولولا إذن الرسول صلى
الله عليه وسلم لسلمة بن الأكوع لكان ذلك منكرا لا يقبل منه، ومع ذلك فإن سلمة بن
الأكوع رضي الله عنه لم يرض أن تقبض روحه وهو مقيم في البادية، فقد انتقل إلى
المدينة قبل وفاته بليالٍ رضي الله عنه.
وَعَنْ
يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، قَالَ: «لَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ،
خَرَجَ سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ إِلَى الرَّبَذَةِ، وَتَزَوَّجَ هُنَاكَ
امْرَأَةً، وَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلاَدًا، فَلَمْ يَزَلْ بِهَا، حَتَّى قَبْلَ أَنْ
يَمُوتَ بِلَيَالٍ، فَنَزَلَ المَدِينَةَ»
إن
حياة التمدن والتحضر أكمل في تحقيق مقاصد الدين وامتثال شرائعه وإقامة شعائره، وإن
حياة البداوة فيها جفاء وبعد عن الرقة التي تتهذب بها النفوس. أخرج أحمد في مسنده
عن أبي هريرة والبراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مَنْ بَدَا
جَفَا. أي
من قطن بالبادية صار فيه جفاء الأعراب.
وبيّن ابن الأثير رحمه الله سبب ذلك أن من سكن الباديَة غلظ طبعه لِقلة مخالطة
النَّاسِ.
وليست
حياة البادية كلها سيئة، بل فيها من الإيجابيات الكثيرة ما ينبغي ألا يفوتها
الإنسان كصحة الطبيعة والقوة وأخلاق الشجاعة والبساطة والبعد عن الفتن. فقد تربى
النبي صلى الله عليه وسلم في بادية بني سعد لاكتساب تلك الصفات. ولكن الإسلام يركز
على الحياة المدنية لأنها مركز انتشار الدين ومقر الحكم، إذا صلحت المدن صلحت
توابعها من المناطق المجاورة وكل ما يتصل بها.
ثم
إن هناك علاقة التعاضد بين الدين والتحضر. وهو من أهم ما خلص إليه مالك بن نبي في
تأملاته الفكرية عبر تواريخ الأمم، قال: "...أن الحضارات جميعها إنما نشأت من الروح
الدينية، والفكرة الدينية دائما - قديما وحديثا - هي المركِّب والمحفِّز (Catalyseur / Catalyst) لنشأة الحضارات."
والحمد
لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم
إلى يوم الدين....