تفكيك منظومات الاستبداد (٤٤): عودة إلى خيار
الجهاد على نظم الطغيان
بقلم: د. جاسر عودة
في صيف عام ٢٠١١م ومن أمام ”خيمة الثورة السورية“ في ميدان التحرير بالقاهرة حاولت الإجابة -على وسائل التواصل الاجتماعي في تلك الأيام- عن سؤال ”خيار العنف“ في الربيع العربي، وكان سؤالًا قد طُرح بقوة واختلفت فيه الآراء بين مؤيد ومعارض، خاصة مع إجرام النظام السوري آنذاك ودمويته الشيطانية في التعامل مع المتظاهرين السلميين المتحضرين الذين ينادون بأهازيج الحرية والعدل ليس إلا، واليوم بعد ثلاث عشرة سنة نسعد أيما سعادة بالسياسات الحكيمة الحصيفة التي ينتهجها الثوار في سوريا في جهادهم للبغاة المعتدين، وبتحقيقهم على أرض الواقع لأمنيات تمنيناها وكتبنا عنها في الفضاء الأزرق في تلك الأيام كأمنيات وأحلام بعيدة، فإذا بها اليوم واقع معيش. نسأل الله العلي العظيم أن لا تخيب آمالنا فيهم وأن يتمم عليهم نصرهم ويوسع به دوائر الإنصاف والتقويم والتغيير إلى الأفضل في كل عالمنا العربي والإسلامي والإنساني.
وقد جمعت تلك التغريدات أو الأمنيات منذ أيام الربيع العربي في مقالة قديمة من هذه السلسلة (رقم 9) كتبت فيها تحت عنوان: "خيار الجهاد المسلح وسؤال المآلات" أقول:
"ما نراه من مأساة مفجعة في وحشية نظم الاستبداد في كل بلاد (الربيع العربي) خاصة في سوريا قد تجاوز كل الخطوط الحمراء إنسانيًا حتى وصلنا إلى مستوى الكابوس المفزع وتحت سمع وبصر السياسة الدولية اللا إنسانية.. فهل لهذه المآلات المفزعة أثر في إجابة سؤالنا حول مشروعية خيار العنف وإعلان الجهاد على نظم الاستبداد؟
أول ملامح الإجابة عن سؤال العنف هو أنها ليست إجابة واحدة، بل إجابات تتراوح بين أقصى درجات (نعم) لأقصى درجات (لا) حسب الواقع، ذلك لأن كل مكان له ظروفه وله حساباته وما يصلح فيه قد لا يصلح في كل الأمكنة. ولكن القاسم المشترك بين كل الأمكنة هو أن يكون خيار الجهاد المسلح خيار استراتيجي مدروس ومقدر بقدره وليس رد فعل عفوي أو عشوائي. ردود الفعل العشوائية العنيفة غير المدروسة تضر أكثر من ما تنفع وبالتالي فهي ليست مشروعة شرعًا ولا عقلاً. ومعنى استراتيجية الخيار الجهادي هو في الإجابة على عدد من الأسئلة الاستكشافية لتعقيد الواقع الذي فيه سياق السؤال وفهم ملابساته بأكبر درجة متاحة من الدقة..
[أولًا] الأصل أن الجهاد في سبيل الله وفي سبيل نصرة المستضعفين ورفع الظلم عن المظلومين فريضة إسلامية قرآنية أصيلة وثابتة وباقية ولم ولن ينسخها شيء، [وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ...] (النساء: 75) وهذا الجهاد ليس بالضرورة في معركة بين الكفر والإيمان، بل يمكن أن يكون ضد الطائفة الباغية ولو كانت من المسلمين: [..فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي..] – (سورة الحجرات:9) والسؤال هنا إذن ليس عن مشروعية الجهاد، ولكن السؤال هو متى يكون الجهاد مشروعًا مطلوبًا ومتى يكون محرمًا مذمومًا؟..
[ثانيًا] المجاهدون قبل أن يجاهدوا لابد أن يخلصوا جهادهم لله، ولابد لهم من صياغة متدرجة وأحداث فارقة وتربية عالية حتى لا يختلط الحابل بالنابل ويتحولوا من مجاهدين إلى مرتزقة غاصبين وقتلة سارقين وشياطين بلا رحمة ولا خلق..
[ثالثًا] الأصل أنه لا يصح شرعًا أن يفتئت الآحاد ولا المجموعات على سلطة الدولة، إلا أن أصل هذا الكلام ليس على إطلاقه لأن للمرء أن يتساءل هنا: ماذا لو كانت شرعية هذه الدولة نفسها محل استفهام؟ ماذا لو كانت رؤوس تلك (الدولة) هم مجرد عصابة من الإرهابيين؟ هل تصح محاربتها؟ ورغم أن الإجابة هي نعم إلا أن (كيف) مسألة على أكبر درجة من الأهمية..
[رابعًا] الولوج إلى خيار الجهاد المسلح يحتاج إلى استيعاب عدد من الدروس القرآنية المهمة، على رأسها تمايز المعسكرين ووضوح الفريقين للجميع، وإعلان الجهاد خطأ كبير إذا لم يتمايز معسكران واضحان للحق والباطل يتفق على تمييزهما الناس، وإلا كان قتالاً باطلاً وكان ضرره أكبر من نفعه..
[خامسًا] لا يصح الجهاد ضد جيوش نظامية وتحالفات دولية عملاقة دون سلاح معتبر ورادع مناسب ودون روافد للقوة الاقتصادية، والمعلوماتية، والإعلامية، وغيرها. لا يمكن أن ندعي الجهاد ببعض السيارات المسروقة والحسابات الموهومة على شركات اتصال لا نملك فيها شيئًا. هذا النوع من (الجهاد) أقرب للمزاح منه للجد، ولا يؤدي إلا إلى كوارث في عالم نزعت من قلوب أصحاب القرار السياسي فيه الرحمة. لابد من الاستخدام الاستراتيجي للموارد القليلة وتعظيم النتائج المتوقعة بأقل التكلفة المادية والبشرية..
[سادسًا] لابد من التركيز على رؤوس الفساد، ولا مفر من استهداف المصالح الاقتصادية للمستبدين بالأساس وبشكل واع، ولابد من تصفية رموز القتل والعدوان التي لا خلاف عليها بين الناس، ولابد من شق صف الاستبداد والتحالفات الفرعونية من الداخل، وبدون شق صف (النخبة) فليس هناك جهاد مؤثر، بل هو انتحار ساذج، ولابد من عدم التورط في قتل الأبرياء ولو كانت نفسًا واحدة..
والخلاصة فيما يسمح به هذا المقام هو أن الجهاد مشروع وباق، ولكن لابد من الوعي بالواقع وبالشروط التي يتطلبها هذا الخيار في واقع المجاهدين وفي سياق الأحداث. ليس هناك حل عنيف أو غير عنيف دون استراتيجية ووعي وحكمة"..
وها هم أبطال الشام على الأرض يحققون لنا تلك الأمنيات القديمة باستيفائهم الشروط وتجنبهم المحاذير، بل ويضيفون مزيدًا من الإحسان والحكمة والاستعداد بفضل الله تعالى، وقد كان طريقًا طويلًا ومخاضًا عسيرًا، ولكن نسأل الله تعالى لهم التوفيق والفلاح، وأن لا تخِيب آمالُنا فيهم يا أكرم الأكرمين، وأن تكون انتفاضة جند الشام -كما كانت في تاريخ أمتنا المجيد- إرهاصة لاستيقاظ جند مصر من سباتهم الطويل، فهؤلاء جميعًا لا غنى لأمة محمد ﷺ عنهم لكي تدافع عن نفسها حق الدفاع، وتحرر أقصاها الأسير، وتنصر المستضعفين في كل مكان، خاصة في أرض الرباط في فلسطين.
وأخيرًا، ومع تحرير مدن سورية واحدة تلو الأخرى -خاصة حماة- نذكر أساتذتنا الكرام من رجالات الشام وعلمائها وشرفائها الذين رحلوا عن دنيانا قبل أن يروا هذه اللحظة التاريخية، ونترحم عليهم وندعو الله لهم أن يتقبل جهادهم عند سلطان جائر وما لاقوا في غربتهم في سبيل الله، وأن يجعل ما يتولد عن هذه الأحداث الجسام من خير في موازين حسناتهم يوم يقوم الأشهاد، ولهؤلاء حديث آخر، والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*
د. جاسر عودة: عضو مجلس الأمناء ورئيس لجنة التعريف
بالإسلام في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
* ملحوظة:
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد
العالمي لعلماء المسلمين.