حتميات
مستقبلية وعلاقة بعضها ببعض
بقلم: د.
فهمي إسلام جيوانتو
عضو
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
إن
التطلع نحو المستقبل توجُّه إنساني صحيح ونظر منطقي طبيعي، فإن الإنسان بحاجة إلى
معرفة ما سيؤول إليه أمره، وما ستكون عليه حاله في المستقبل القريب والبعيد. وبما
أن المستقبل مخبوء وراء ستار الأقدار، مغيب عن الأنظار خلف خط الزمان، فإن اعتبار
المستقبل من أمور الغيب الذي استأثر الله بعلمه حقيقة لا مرية فيها، وقد صرح الله
تعالى عن هذه الحقيقة بقوله: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا، وَمَا
تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ
خَبِيرٌ﴾ [لقمان: 34]
وهي
حقيقة معرفية أصيلة عرفها الإنسان بطبيعته، لذلك قال الزهير بن أبي سلمى:
وَأَعلَمُ
عِلمَ اليَومِ وَالأَمسِ قَبلَهُ ** وَلَكِنَّني عَن عِلمِ ما في غَدٍ عَمي
وادعاء
معرفة الغيب بلا علم ولا دليل معتبر من جملة الدجل والتكهن الذي نهينا عنه شرعا.
ومع
ذلك، فليس المستقبل كله غيب ومجهول، فإن بعض الحقائق المستقبلية مفتوحة يمكن كشفها
ببذل الجهد العلمي واستخدام الأدوات المعرفية الممنهجة. بل إن هناك أمورا مستقبلية
يمكن جزمها وتأكيد وقوعها بلا تردد.
والقرآن
الكريم لم يهمل هذا الجانب من المعارف المستقبلية، فإن في القرآن بيانات غير قليلة
عن الحقائق المستقبلية، وكلها معلومات أكيدة وحتميات ثابتة يمكن الاعتماد عليها
والاستناد إليها. وهي على ثلاثة أقسام:
الأول:
حتميات مبشرة للمؤمنين ومطمئنة لأهل الخير. كتبشير الله بنصرة دينه وإتمام
نوره، قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (٨)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [الصف: 8-9]
ووعد
الله بنصر المؤمنين، قال تعالى: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم:
47]
وإخبار
الله تعالى أن الأرض سيرثها عباد الله الصالحون عاجلا أم آجلا، قال تعالى:
﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا
عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ [الأنبياء: 105] وقال تعالى: ﴿إِنَّ الْأَرْضَ
لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الأعراف:
128]
وتأكيد
الله تعالى أن مصير الحق هو الظهور والانتصار، وأن مصير الباطل هو الزوال
والاندحار، قال تعالى: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ
الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ [الإسراء: 290]
والنوع
الثاني من الحتميات التي أخبر بها القرآن هو حتميات محذرة، تنذر
الظالمين وتهدد المفسدين بالهلاك والدمار والعذاب الشديد، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (١٨٢)
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [الأعراف: 182-183]
فقد
أخبرنا القرآن أن مشهد العلو والتجبر والقوة والسطوة لأهل الكفر والفساد والظلم
ليس نهاية المطاف، بل ذلك مقطع من مقاطع مكر الله واستدراج الله لهم، فلا يغتر
الإنسان بذلك المشهد المؤقت والمظهر الزائل، قال تعالى: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ
الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (١٩٦) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ
جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ [آل عمران: 196-197]
بل
لو أحكم هؤلاء الظلمة خطتهم وبذلوا قصارى جهدهم لكيد الناس الضعفاء وإغوائهم وقهرهم،
فليست النتيجة النهائية في صالحهم، بل لله مكر لا يحسبون له حسابا ولا يشعرون به
حسا، قال تعالى: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا، وَمَكَرْنَا مَكْرًا، وَهُمْ لَا
يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ: كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ؟ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ
وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [النمل: 51]
وأخبر
الله تعالى أن عمل المفسدين مبتور ومقطوع، لا خير ولا صلاح ولا مستقبل فيه، قال
تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ
اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾ [يونس: 81]
فكما يقول العامة: لا يصح إلا الصحيح.
والنوع
الثالث من الحتميات: هي حتميات محايدة، وهي
قوانين صارمة لا تحابي أحدا ولا تستثني شخصا دون آخر. فالكل يخضع لهذه الحتميات
المعيارية الصارمة.
ومن
هذه الحتميات: سنة التغيير، فإن الله تعالى يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا
يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد:
11] فهذه السنة جارية على كل الناس، مؤمنا كان أو كافرا، مسلما كان أو غير مسلم،
من أحدث في نفسه تغييرا فإن الله سيحدث في حياته تغييرا مناسبا لهذا التغيير. وأي
قوم أو شعب أو أمة قاموا بالتغيير في أنفسهم فإن الله سيغير أحوالهم تبعا لذلك
التغيير.
ومن
أهم هذه الحتميات: سنة الابتلاء، فإن كل إنسان في هذه الدنيا سيخضع
للاختبار والابتلاء. وهو الغرض الأساسي من هذه الحياة، قال تعالى: ﴿إِنَّا
جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الكهف:
7] وقال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ
أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الملك: 2]
ومن
طبيعة الاختبار والابتلاء أن يواجه الإنسان صعوبات وظروفا قاسية، فلا غرابة أن
يتعرض الإنسان للفتن والابتلاءات، قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ
الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ،
وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 155]
وقال
تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ
الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ، مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ
وَزُلْزِلُوا، حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ: مَتَى
نَصْرُ اللَّهِ؟ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة: 214]
وليس
الابتلاء قاصرا على الظروف السيئة والصعبة، بل يبتلى الإنسان أيضا بالنعمة
والرخاء، قال تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً
وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ [الأنبياء: 35] فالشر والخير كلاهما ابتلاء واختبار.
والإنسان يختبر في حالتي الضعف والقوة، والفقر والغنى، سواء بسواء.
ومن
الحتميات المستقبلية المحايدة: سنة التداول والتغيُّر وتبدل الأحوال، فإن
الناس يعيشون في عالم متغير منذ القدم، فلا قوي يبقى على قوته إلى الأبد، ولا ملك دائم بلا نهاية، فكل شيء يتغير، ودوام الحال من
المحال، قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا
بَيْنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: 140]
وهذه
الحتميات، أي الحتميات المحايدة، هي التي تحدد مسار الإنسان وتفرزه وتغربله،
فمن أدرك كنهها وأحسن التصرف فيها واتخذ المواقف الصحيحة حيالها استحق النصر
والفلاح والتكريم، ومن جهلها أو تجاهلها فأساء التصرف فيها باء بالخيبة والفشل.
فإذا
كان النوع الأول والثاني يصور مصائر الناس ومآلاتهم، فهذا النوع يقدم تصويرا وتفسيرا
عن طبيعة الطريق وشروط النجاح وأسباب الفشل واستحقاقات الثواب أو العقاب.
هدانا
الله وإياكم لما يحب ويرضى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*
ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.