الأرصدة
الدافعة لحيوية الأمة الإسلامية عند الإمام القرضاوي
بقلم: د. محمد
عبد الحليم بيشي
عضو الاتحاد
العالمي لعلماء المسلمين
المراد بالأرصدة هنا مجمل الروافع المبثوثة في روح
الشريعة وتفاعلات المسلمين معها طوال القرون الماضية، وهي ليست باليسيرة، فللأمة
تاريخ عريض وإنجاز كبير في حقل التاريخ، وهذه الأرصدة هي التي تحوي دافعية كبيرة
لمصالح الأمة التي يجب عليها شرعا وعقلا تحقيقها وتنزيلها، ويمكن تناول بعضها من
خلال الآتي:
أ- الرصيد
المنهاجي.
وذلك ممثلا في
قوة وعمق وشمول النظرية الإسلامية، فقوة الإسلام وشمول تعاليمه للحياة واضحة
لائحة، فالشمولية في أحكام الإسلام على مناشط الحياة كلها أمر مستقر، لأن الإسلام
هو رسالة الإنسان في كل أطوار حياته ووجوده، فهو الرسالة التي تتساوق مع فطرته
وكينونته وكرامته، وهو الرسالة التي بلغت الأوج الفقهي في تناول الإنسان قبل ولوجه
للدنيا، وبعد خروجه منها، وأخبرت عن المنشأ والمصير والمعاد.
يقول القرضاوي:" إن الشريعة الإسلامية حاكمة على
جميع أفعال المكلفين، فلا يخلو فعل ولا واقعة من الوقائع إلا ولها فيها حكم من
الأحكام الشرعية الخمسة، كما قرر ذلك الأصوليون من كل الطوائف والمذاهب المنتسبة
للملة". وهذا بناء على أن الحياة واحدة لا تتجزأ، بما يمكن أن يسمى بالمنهاج
الضابط الكلي للحياة.
فعلى العكس من الديانات السابقة التي قصرت عن تحقيق ذلك،
إما لمحدودية جمهورها والمرسل إليهم، وإما لارتباطها بشروط تاريخية خاصة، وهو أمر
مشهود من تاريخ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فمحمد ﷺ أنشأ دولة على العكس من
المسيح عليه السلام، تبعا للظروف السياسية التي نشأت فيها الدعوتان، من خلو أرض
العرب من سلطة ضابطة واحدة أيام المبعث، في حين عاش المسيح في ظل الإمبراطورية
الرومانية التي هيمنت على نصف المعمورة.
ولأجل ذلك القرضاوي في كل مكتوباته يدافع عن الحل
الإسلامي الذي أقام دولة وحضارة:" كل هذه النتائج تحتم علينا أن نسير إلى
الإسلام لنحل به عقد حياتنا، ونعالج به مشكلاتنا، ونحقق في ظله أهدافنا الكبرى،
وكفى ما ضاع من عمر أمتنا في التجارب والتخبطات، فإذا كنا «عربًا» فهذا الحل هو
أليق الحلول بكرامتنا القومية، لأنه الحل النابع من عقائدنا وتراثنا وأرضنا، وإذا
كنا «مسلمين» فهذا الحل هو مقتضى إسلامنا، وموجب إيماننا، ولا يتحقق لنا إسلام ولا
إيمان بغير العودة إليه، والإصرار عليه؛ فوراءه فلاح الآخرة والأول.
فالقوة المنهاجية لائحة في شمول الرسالة الإسلامية،
وواضحة في تحقيق المسلمين لذلك الشمول على أرض الواقع بما أبدعوه من نظم إدارية
واجتماعية، وبما أنتجوه من حضارة شهد لها الموافق والمخالف، مما يمكن الإفادة منه
في الانطلاق في درس المصالح الحيوية المعاصر تأصيلا، وتنزيلا وتأثيتا، وإضافة
واستدراكا.
ب- الرصيد
التاريخي والسياسي.
وهو رصيد غني
ثرّ بالتجارب التاريخية والسياسية على مدار ألف وأربعمائة عام، مما يمكن أن يشكل
دافعية للمصالح الحيوية للأمة إذا أحسن استثماره وقراءته وتجاوز قصوره، كما يمكن
أن يكون قيدا وعائقا إذا استرد بما فيه دون نقد أو تمحيص، أو تناولته قراءات
التقديس أو التبخيس كما هو حال البعض مع التراث.
ولأجل ما سبق كان القرضاوي وسطيا في قراءته للتاريخ
الإسلامي، مع شيء مع التمجيد له:" فهو تاريخ له مفاخر: منها عمق الجانب
الرباني، ووضوح المعاني الإنسانية، رسوخ القيم الأخلاقية، شيوع التسامح الديني،
قدرة الإسلام على الانتشار السلمي، القدرة على تجاوز المحن الكبرى. ولأجل ذلك نعى
على بعض القراءات القاصرة أو الأحكام القاسية التي أطلقها البعض من الدائرة
الإسلامية كالمودودي في كتبه: (الخلافة والملك، موجز تاريخ تجديد الدين وإحيائه،
الحكومة الإسلامية)، وخاصة رأيه بوثبة الجاهلية مجددا زمن عثمان، ثم الانقلاب
الرجعي للحكم العضوض. معتبرا ذلك من التجنّي الزائد، فصفحات التاريخ الإسلام
البيضاء أكثر من غيرها، وخاصة إذا ما قارنها بتاريخ الشعوب الأخرى في العصر
الوسيط.
وأهم نقاط القوة
في التاريخ الإسلامي عند القرضاوي هو الجانب الحضاري، وليس السياسي الذي اعترته
بعض النكسات والتراجعات عن هدي الخلافة الراشدة، فقوة الإسلام هي في الحضارة التي
أغنت العالم، وفضل العرب والإسلام على النهضة الأوروبية لا يجحده أحد، ويحيل
القرضاوي في ذلك على شهادات منصفين في كتب رصينة مثل حضارة العرب لغوستاف لوبون،
كتاب بناء الإنسانية لبيير فوليت، وكتاب النزاع بين العلم والدين لدايبر، وكتاب
تاريخ العلم لجورج سارتون وكتاب شمس الله تسطع على الغرب لزيغريد هونكه. والشاهد
الأكبر على غناء وثراء الحضارة الإسلامية الكتاب الشهير "تاريخ التراث
العربي" لفؤاد سيزكين".
كما أن ظهور الإسلام إنما كان بفضائله وقوته الذاتية،
وأن انتشاره كان بتأثير الأفراد تجارا أو شيوخ طرق ممن هاجروا واختلطوا بغيرهم في
آسيا وإفريقيا، وأغلب المساحات التي دخلها الإسلام، وثبت فيها هي ما كان بجهود
هؤلاء كما هو الأمر في شرق آسيا، وغرب إفريقيا، على العكس من بعض البلدان التي
دخلها عسكريا كما هو الشأن في الأندلس والبلقان. واستشهد بكتاب حسين مؤنس
"الإسلام الفاتح": إسلام أغلب أقطار الأرض بالأخلاق والسماحة، وخلاصة
الأمر أن الإسلام دين طيّار، ولن يوقفه ظهوره أحد إلا بإذن الله، ولا تزال فضائل
الإسلام وقوته المعنوية ملهمة لإسلام الكثير كما هو المشهور في هذه الأيام.
ج- الرصيد
المعنوي.
وهو ممثل في حقيقة وجود الأمة الإسلامية وبقائها وحفظ
كتابها، وحفظ الله لها من الفناء والاستئصال كما هو الوعد في حديث: "وإني
أعطيتك لأمتك، أن لا أهلكهم بسنة بعامة، ولا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح
بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها، أو قال: من بأقطارها، حتى يكون بعضهم
يسبي بعضا، وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين" ، وكما هو الوعد الإلهي،
الذي أنجزه النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ
كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ
الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا
يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ [النور، 55]
يقيّم القرضاوي موجات ارتفاع ونزول الأمة الإسلامية،
ومحاولات طمسها أو استئصالها، والتي فشلت على مرّ التاريخ، قائلا: "ومن
المحاولات الغازية نستطيع أن نقول: الأمة باقية لم تمت، ولن تموت، وهي حقيقة لا
وهم، هي حقيقة بمنطق الدين... حقيقة بمنطق التاريخ... حقيقة بمنطق الجغرافيا...
حقيق بمنطق الواقع... حقيقة بمنطق المصلحة... حقيقة بمنطق الآخرين".
مع العلم أن هناك أمما مقطوعة الجذور ممسوخة التاريخ
تختلق أساطير لبث الروح المعنوية في أجيالها الجديدة، وفي فرقها العسكرية، في حين
فإن التاريخ الإسلامي العريض يحوي مئات الصور البطولية التي لا يجحدها أحد، وهو ما
يشكل ذاكرة جماعية وقوة مولدة ملهمة للأجيال المعاصرة التي ينبغي أن ترتبط شعوريا
بها.
إن وجود الأمة حقيقة، وهو مرتبط بالهوية الدينية لا
العرقية ولا القومية ولا القطرية، مما يجعل هذا الرصيد دافعا للحمة المعنوية، ففي
أقطار الإسلام كانت الأخوة الإسلامية ماثلة، والجهاد ماض في كل مكان، ووسائل
التواصل بين المسلمين لم تنقطع بتاتا، والمستعرض لكتب الحج الرحلات والطبقات
والجغرافيا والتاريخ المحلي أو الكلي يدرك هذا، هذا فضلا عن الشواهد المادية
كالربط والتكايا والزوايا التي كانت مفتوحة للعابرين واللاجئين والتجار والرحالة،
مما شكل بوتقة انصهرت فيها الشعوب الإسلامية على مر العصور.
والأمة
الإسلامية تصدر في هذا كله عن النصوص القاطعة المانعة لكل أسباب القطيعة التي
حرمتها وجرمتها الشريعة، عندما أعلت من الانتماء الديني على ما سواه، وفي
الحديث:" من قاتل تحت راية عميه، يغضب لعصبة أو يدعو إلى عَصبة، أو ينصر
عصبة، فقتل فقتلة جاهلية".
د- الرصيد
التراثي، استثمار التراث الإسلامي.
يعتبر القرضاوي من أكبر الفقهاء المستثمرين لخبرة التراث
الإسلامي العريض، فهو خريج مدرسة المنار التي لا تضيق بأي اجتهاد إسلامي رصين أو
حكمة إنسانية عالية، وهو ما جعلها تتصدر ريادة المدارس الإسلامية الأخرى، وجعل
غنائها في الاجتهاد الفقهي والتوجيه الفكري لائحا، ويكفي استقراء واستعراض مكتوبات
الفكر الإسلامي الحديث، ليلوح للقارئ ظهور هذا المدرسة على غيرها، وأثرها البيّن
في صناعة الحياة الإسلامية.
وباعتبار انتماء القرضاوي بالأصالة لفئة الفقهاء
المجددين، فقد دعا نظراءه إلى التخفيف من حدة الغلواء المذهبية والانفتاح على
البراح الواسع للمذاهب الفقهية المتبوعة أو المنقرضة، والعود إلى مذاهب الصحابة
وأقوال التابعين ما إن في ذلك السعة والتيسير، ومما قاله في ذلك:" الأولى
بالمفتي المعاصر أن يخرج بالناس من سجن المذهبية الضيقة إلى سعة الشريعة الواسعة
بما فيها المذاهب المتبوعة والمذاهب المنقرضة، وأقوال الأئمة الذين لم يعرف لهم
مذهب يتبع، وهم جد كثيرين".
وقد بين منهجيته في استثمار الفقه الإسلامي كله وعدم
الجمود على المذاهب الأربعة وجحد غيرها بدعوته إلى: "الانتفاع بكنوز الفقه
الإسلامي، والاغتراف من بحارة الزاخرة، دون تحيز لمذهب على مذهب، ولا انغلاق لإمام
دون إمام، بل نعتبر هذه التركة الكبرى ملكا لها باحثاً. بل قد نخرج في بعض
الجزئيات عن المذاهب عن المذاهب السنية إلى مذهب الزيدية أو الجعفرية، إذا وجدنا
الحل فيها، وقد نأخذ ببعض المذاهب المنقرضة مثل مذهب الأوزاعي أو الثوري أو
الطبري. بل قد نخرج عن المذاهب كلها إلى الساحة الرحبة لفقهاء الصحابة والتابعين
والأتباع".
وفي هذا المضمار كان القرضاوي شديد الحساسية في نقد
التراث، وما أضيف إليه من مبتدعات شوهت الدين، وقعدت بالأمة الإسلامية، معتبرا
مقاومة الابتداع والانحراف الفكري من صميم الجهاد، وهو في هذا سلفي في الصميم، وكم
كانت نقوده لاذعة للمبتدعات والتزيدات التي أضافها بعض الجهلة والمتعصبة، أو
الفلكور الذي ألحق بالتصوف، وهو منه بريء.
ومما يجدر عطفه هنا في استثمار التراث الإسلامي كله
اهتمام القرضاوي باللغة العربية، -وهو فارسها ونحوياها وخطيبها وشاعرها- ودعوته
إلى تعليمها لباقي المسلمين عسى أن تكون اللغة الأولى في التواصل، وواقعا فإنه
يتكلم بها أربعمئة مليون، هذا فضلا عن عدد اللغات التي تكتب بالحرف العربي
العثمانية القديمة، والآن الفارسية والأوردية والبشتونية، والهوسا، وبعض
الأمازيغية، بما يشكل حوضا حضاريا كبيرا يسهل معه التواصل الإسلامي، على العكس من
المؤامرات التي تبغي تفتيت المسلمين، وقطعهم عن فهم القرآن والدين الإسلامي.
وكل هذه الأرصدة الكبرى وغيرها من الأرصدة التبعية كافية
لرفع درس المصالح الحيوية الجماعية للأمة من أجل انطلاقة واعية راشدة لتنزيلها
واستثمارها، ومن أجل استجابة جادة للتحديات الحضارية التي تنوء بها أثقال الأفراد،
ولكن الجماعة المسلمة بما تمتلكه من قدرات ومقدرات قادرة على العود وبقوة لساحة
التاريخ مفيدة ومستفيدة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها
ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
- انظر يوسف
القرضاوي، الخصائص العامة للإسلام، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط3، 1997، ص 121.
- يوسف
القرضاوي، الخصائص العامة للإسلام، ص 109.
- القرضاوي،
شمول الإسلام في ضوء شرح علمي مفصل للأصول العشرين، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط3،
1997، ص 44.
- يوسف
القرضاوي، الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا، القاهرة: مكتبة وهبة، ط5، 1993، ص
4.
- القرضاوي،
تاريخنا المفترى عليه، القاهرة:، دار الشروق، ط 2، 2006، ص 125.
- القرضاوي،
تاريخنا المفترى عليه، ص 47.
- انظر
المودودي، الخلافة والملك، الكويت: دار القلم، ط 1، 1978، ص 63.
- القرضاوي،
تاريخنا المفترى عليه، ص 119، ص 198.
- يوسف
القرضاوي، في فقه الأقليات المسلمة: القاهرة، دار الشروق، ط3، 2001، ص33.
- حسين مؤنس، الإسلام الفاتح، ص 17. وانظر
القرضاوي، تاريخنا المفترى عليه، ص 202.
- مسند الإمام
أحمد، رقم (22395).
- انظر
القرضاوي، الأمة الإسلامية حقيقة لا وهم، القاهرة: مكتبة وهبة، ط1، 2001، ص8.
- صحيح مسلم،
كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين، رقم (1850)
- يوسف القرضاوي، في فقه الأقليات المسلمة، ص 57.
- يوسف
القرضاوي، فقه الجهاد، القاهرة: مكتبة وهبة، ط3، 2010، ج 1 ص 35.