الشكر.. دوامٌ للنعم في الدنيا وفوزٌ في
الآخرة
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء
المسلمين
أنعم الله تعالى وتفضّل على عباده بالكثير من النعم
والأفضال؛ فمنها ما هو متعلق بالدين، ومنها ما هو متعلق بالدنيا..
وقال العلماء إن أعظم نعم الله -عز وجل- على الإنسان
هي نعمة الهداية إلى الإسلام، وهو دين الله الذي اختاره وارتضاه للخلق في رسالة
الرسول محمد ﷺ. ومن نعم الله تعالى الدنيوية توفير الطعام والشراب والمأكل
والملبس، ومنها أيضاً خلق الإنسان في أحسن تقويم، وتسخير جميع المخلوقات لخدمة
العباد، ونعمة الجسد والسمع والبصر وباقي الحواس. وإن المسلم إما أن يكون شاكراً
لنعم الله تعالى، وإما صابراً على ابتلائه، ولذلك فإن شكر الله -تعالى- له أهمية
كبيرة في حياة المسلم، وخاصة عندما يعلم الإنسان أن الله تعالى وعده بالمزيد من
النعم إن أقبل عليه بالشكر؛ قال الله تعالى: {وإذ تأذَّن ربُّكم لئن شكرتم
لأزيدنَّكم}.
والشكر هو ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده قولاً،
وفي سلوكه عملاً. وقيل: الاعتراف بنعمة المنعم على وجه الخضوع. وقال ابن القيم
(رحمه الله): الشكر ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده: ثناءً واعترافاً، وعلى قلبه
شهوداً ومحبة، وعلى جوارحه انقياداً وطاعة. (مدارج السالكين، ابن القيم ج2 ص244)
ومنزلة الشكر هي من أعلى المنازل، وهي فوق منزلة
الرضا، فالرضا مندرج في الشكر، إذ يستحيل وجود الشكر بدونه. وهو نصف الإيمان،
والإيمان نصفان: شكرٌ وصبر. وقد أمر الله به ونهى عن ضده، وأثنى على أهله ووصف به
خواص خلقه، وجعله غاية خلقه وأمره، ووعد أهله بأحسن جزائه، وجعله سبباً للمزيد
بفضله، واشتق لهم اسماً من أسمائه، فإنه سبحانه هو الشكور، وهو موصل الشاكر إلى
مشكوره، وأهله هم القليلون من عباده، قال تعالى: ﴿واشكروا لله إن كنتم إياه
تعبدون﴾ [البقرة: 172]. وقال تعالى: ﴿واشكروا لي ولا تكفرون﴾ [البقرة: 152].
(مدارج السالكين، ابن القيم ج2 ص586).
وشكر العبد يدور على ثلاثة أركان، لا يكون شكراً إلا
بمجموعها، وهي الاعتراف بالنعمة باطناً، والتحدث بها ظاهراً، والاستعانة بها على
طاعة الله، فالشكر يتعلق بالقلب واللسان والجوارح، فالقلب للمعرفة والمحبة،
واللسان للثناء والحمد، والجوارح لاستعمالها في طاعة المشكور وكفها عن معاصيه. وقد
ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قام حتى تفطرت قدماه، فقيل له أتفعل هذا وقد غفر
الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال:
“أفلا أكون عبداً شكوراً” [البخاري برقم (3/40)، ومسلم برقم
(17/162)]، وثبت عنه ﷺ أنه قال لمعاذ (رضي الله عنه):
“والله إنى لأحبك، فلا تنسَ أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعنّي على ذكرك وشكرك وحسن
عبادتك” [رواه أبو داود برقم: 1508].
والشكر قيد النعم وسبب زيادتها، كما قال عمر بن عبد
العزيز(رضي الله عنه): “قيدوا نعم الله بشكر الله”. وذكر ابن أبي الدنيا عن علي بن
أبي طالب (رضي الله عنه) أنه قال لرجل من همذان: “إن النعمة موصولةٌ بالشكر،
والشكر يتعلق بالمزيد، وهما مقرونان في قرن، فلن ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع
الشكر من العبد” (البحر الرائق، أحمد فريد، ص216).
وقال الحسن البصري (رحمه الله): أكثروا من ذكر هذه
النعم فإن ذكرها شكر، وقد أمر الله نبيه أن يحدث بنعمة ربه فقال: ﴿وأما بنعمة ربك
فحدث﴾ [الضحى: 11]، والله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده فإن ذلك شكرها
بلسان الحال. فالإنسان يملك أن يستبقي نعمة الله عليه، إذا هو عرف صاحبها فشكر،
فمن شكر نعم الله حفظها أولاً وازداد منها ثانياً، ومن أقبل على الله بملاحظة
إحسانه وجب عليه شكر ما أسدى من لطائف کرمه وامتنانه، وإلا زالت عنه بسبب كفره
وعصيانه، وإلى ذلك أشار بقوله: من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها، ومن شكرها فقد
قيدها بعقالها (في ظلال القرآن، سيد قطب، ج 3 ص 1535- 1563).
فمن شكر النعمة فقد قيدها بعقالها، ومن كفرها فقد
تعرض لزوالها، قال تعالى: ﴿إن الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم﴾
[الرعد: 11]، أي لا يغير ما بقوم من النعم حتى يغيروا ما بأنفسهم من الشكر، وتغيير
الشكر هو اشتغالهم بالمعاصي والكفر (الشكر في القرآن، كاملة حجاب، ص349).
وإن الشكر هو رأس الأعمال الصالحة، ولا أدل على ذلك
من أنه يشمل ذكر الله عز وجل، وذكر الله عز وجل هو روح العبادات جميعها. قال تعالى
مشيراً إلى ذلك: ﴿وأقم الصلاة لذكري﴾ [طه: 14]. والأعمال الصالحة يسعد بها الإنسان
في دنياه وأخراه معاً، وإن العمل الصالح مع الإيمان جزاؤه الحياة الطيبة في هذه
الأرض، فلا يهم أن تكون ناعمة رغيدة ثرية بالمال، فقد تكون به، وقد لا تكون، ففي
الحياة أشياء كثيرة غير المال تطيب بها الحياة في حدود الكفاية.. ومنها الاتصال
بالله، والثقة به، والاطمئنان إلى رعايته وستره ورضاه، وفيها الصحة والهدوء والرضى
والبركة التي تسكن البيوت. وإن الحياة الطيبة في الدنيا لا تنقص من الأجر الحسن في
الآخرة (في ظلال القرآن، سيد قطب، ج4 ص2193).
وللشكر أجرٌ عظيم في الآخرة، قال تعالى: ﴿وسيجزي الله
الشَّاكرين﴾ [آل عمران: 144]. والشاكرون هم الذين يعرفون قيمة النعمة التي منحها
الله لعباده، فيشكرون الله تعالى عليها حق شكرها، فيسعدون بالحياة الطيبة والمزيد
من النعم في الدنيا، ويسعدون بجزاء الله لهم في الآخرة، وهو أكبر وأبقى (في ظلال
القرآن، مرجع سابق، د1 ص486).
فمن داوم على شكر الله -تعالى- على نعمه زاده الله
تعالى من تلك النعم، وبارك له فيها، وكل أمر يبدأ فيه بالحمد لله فهو خير وبركة،
كأن يحمد المسلم الله عند أكله وشربه. والشكر من أعظم العبادات التي تُقرّب العبد
من ربه، وهو بوابة إلى مزيد من نعم الله وبركاته، فكلما زاد شكرنا، زادت سعادتنا
وارتقينا في مراتب الإيمان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
1- البحر الرائق في
الزهد والرقائق، جمع وترتيب: أحمد فريد، (مكتبة الصحابة – جدة)، الطبعة الثانية
1411هــ – 1991م.
2- مدارج السالكين
بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، للإمام ابن قيم الجوزية، دار الصميعي للنشر-
الرياض، الطبعة الأولى 1432هــ – 2011م.
3- في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق- مصر، ط1.
4- الشكر في القرآن، د. كاملة الأنوار حجاب، دار
الأفاق العربية، ط1.