البحث

التفاصيل

هذا هو قدرك يا سوريا!!

الرابط المختصر :

هذا هو قدرك يا سوريا!!

الكاتب: التهامي مجوري

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

هذا قدرك يا سوريا فارضي به، وهذا نصيبك من رضى الناس وسخطهم، فلا تبحثي عن غيره واصبري، فأشد الناس بلاء الرساليون في كل زمان ومكان... لقد انتصر شعبك على طواغيتك، وفرحت لذلك، ولكنها فرحة مشوبة بالكثير من تعليقات المثبطين، التي صدقها العدو الصهيوني باحتلال أجزاء من أرضك، وانت منشغلة بترتيب البيت، وقصف أجزاء أخرى منها بحثا عن تجريدك من مستقبل تطمحين إليه... كما وجد من يريد إفساد هذه الفرحة عليك، وكأنك كنت في جنة على الأرض واستبدلتها بما هو أسوأ!! كما فعلت بنو إسرائيل قديما استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير...

هذا هو قدرك يا سوريا... أن تكوني مركز استقطاب وصراع وتنازع، ومربع تناقضات قد لا يوجد مثلها في غيرك... ومع ذلك لا يسعك إلا الإيمان بهذا القدر والتكيف معه بما يقتضيه الفعل الراشد، وكما قال ابنك البار قديما ابن القيم الجوزية رحمه الله، قاومي هذا القدر بقدر أفضل منه...

لقد كتب عليك أن تكوني أرض مباركة أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقعة علم تشد إليها الرحال لطلب العلم، ومنطلق لفتوحات كبيرة في عصر الإسلام الأول، وفيك غوطة دمشق مدفن بعض الصحابة، وفيك من الخير وفي أهلك ما يعجز الناس عن إحصائه.

ولكنك في نفس الوقت، قد احتضنت سلسلة من الانقلابات فريدة من نوعها في العالم، وأولها الانقلاب على الخلافة الراشدة، لتنتهي هذه المآسي الانقلابية بتثبيت أسوإ نظام سياسي شهدته الأمة في تاريخها الطويل، نظام بقي قائم فيك أكثر من نصف قرن، نظام طائفي مجرم سفاح متعطش للدماء ومحب لسفكها... ومع ذلك وجد من أبنائه البررة من يذكره بخير يثني عليه والشيخ محمد سعيد رمضان البوطي نموذجا، حتى أن محبيه تمنو على الله أن يقبضه إليه قبل نهاية هذا النظام الفاسد لحبهم له، وخوفا عليه من مصير أسوأ مما سيلقى النظام، فرحمه الله وغفر له وتقبله وتجاوز عن مواقفه السياسية التي لا تليق به ولا بأمثاله من علماء الأمة.

وحتى بعد انتصارك على هذه الأسرة الطائفية الطاغية، بعد صبر طويل وجهاد مرير... اختلف الناس بمواقفهم وتعليقاتهم في هذه النهاية التي هي سعيدة عليك بلا شك. فمنهم الإيجابي الذي فرح معك فرحة الأخ لأخيه فلم يقبل من الكلام إلا ما كان من عبارات التهاني والدعاء على الظالمين، ولم يقبل من يفسد عليه فرحته، مهما كانت النتائج القادمة من التي يخططون إليها والتي لا يخططون إليها...، ومنهم من لم ير في هذا النصر إلا مقدمات لما هو أسوأ، فراح يبشر أبناءك بما وقع في ليبيا والعراق واليمن... لا قدر الله، وكأنك –أيتها البلدة الطيبة العزيزة- كنت في خير وفضلت الاستغناء عنه!!

ألا فليعلم هؤلاء أن العالم اليوم تعاد صياغته، ومن لم يجد لنفسه مكانا فيه، لا حظ له في الحياة مستقبلا... لقد مرت علينا الحرب العالمية الثانية وما تبعها من خطط جهنمية... في ذلك الوقت الذي كان العلم يصنع مستقبله قرر الشعب الجزائري –الفقير الجاهل المقموع المعدم- إعلان الحرب على فرنسا بلا أسلحة ولا ذخيرة ولا دبابات ولا طائرات ولا صواريخ وانتصر، بعد فقدان أكثر من مليون شهيد من أبنائه بكل فرح وسرور، وقد ضحك المثبطون القاعدون على المجاهدين يومها، ولكن المجاهدين لم يعبأوا بقولهم...

لا شك أن الكثير من المخاطر محيطة بك، فأنت لست كغيرك من بلاد الله، مكانة وتاريخا وجغرافيا ومستقبلا للأمة، ولكن خبرتك التاريخية وطموحاتك وآمالك لا تعجزك على تجاوز هذه المخاطر والوقوف في وجهها بالقدر اللازم... فإذا كانت المقاومة في غزة العزة، قد أظهرت آيات القوة التي يستبطنها صاحب الحق، فإنك بلا شك أقدر على إظهار مثل هذه القوة وأكثر...

صحيح أن القوم لا يتركونك في حالك... ولكن مخزونك الثقافي والتاريخي وتجاربك النموذجية في التاريخ، كل ذلك يؤهلك لأن تقومي بالدور الفعال في هذا الجو الذي تعاد فيه صياغة المنظومة الدولية... والأمل فيك وفي شعبك العملاق، الذي صبر على ظلم الطواغيت وتكيف مع الواقع الذي فرضه العالم عليه، إلى أن جاء نصر الله والفتح... فكذلك سيأتي اليوم الذي تقودين في العالم كما قدت حركة الإسلام رسالتها التي نقلتها إلى العالم في بداية تاريخ الأمة المجيد.

ومثلما وجد المحب لك والفرح بما تحقق لك، والسلبي المتشائم الذي غطى تشاؤمه على تفاؤله، يوجد والحمد لله في الأمة –بين السلبي والإيجابي- من يحافظ على توازنه، فيرى الأمور بعين العقل الذي لا يهمل جهاد شعبك بل يشاركه فرحته ولا ينغصها عليه، كما لا يغفل عن المؤامرات والدسائس التي تحاك ضدك... ولو قصف الصهاينة كل بقاع سوريا... فإن القادم من الأيام أفضل بكثير مما مضى منها، فقد روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يبشر الناس ببلوغ الدعوة الإسلامية الأرض كلها وسيعم الأمن والاستقرار... والصحابة في بداية الدعوة يعذبون ولا يقوى الواحد منهم على على التصريح بأنه مؤمن... فقال عليه الصلاة والسلام "والله ليتمن الله هذا الأمر...." إلى أخر الحديث.

هذا قدرك يا سوريا... وعليه لا أراني متشائما، بل متفائل بغد أفضل وأوضح وأنسب لواقعنا الإسلامي المغبون، ولذا أرى من المناسب أن أنقل إليك طرفا من خطبة الجمعة التي ألقاها علّامة الجزائر وعلَامَتُها الشيخ محمد البشير الإبراهيمي في 2 نوفمبر 1962، ولم يمر على نيل الاستقلال إلا أشهر، بمناسبة استرجاع مسجد كتشاوة الذي حٌوِّل إلى كنسية مدة قرن وثلث، وأراها موجهة إليك أنت أيضا اليوم ولأبنائك من مجاهدين ومناضلين ومبتلين وغيرهم من أبنائك البررة: "يا إخواني: إنكم خارجون من ثورة التهمت الأخضر واليابس، وإنكم اشتريتم حريتكم بالثمن الغالي، وقدمتم في سبيلها من الضحايا ما لم يقدمه شعب من شعوب الأرض قديمًا ولا حديثًا، وحزتم من إعجاب العالم بكم ما لم يحزه شعب ثائر، فاحذروا أن يركبكم الغرور ويستزلكم الشيطان، فتشوهوا بسوء تدبيركم محاسن هذه الثورة أو تقضوا على هذه السمعة العاطرة.

إن حكومتكم الفتية منكم، تلقت تركة مثقلة بالتكاليف والتبعات في وقت ضيق لم يجاوز أسابيع، فأعينوها بقوّة، وانصحوها في ما يجب النصح فيه بالتي هي أحسن، ولا تقطعوا أوقاتكم في السفاسف والصغائر، وانصرفوا بجميع قواكم إلى الإصلاح والتجديد، والبناء والتشييد، ولا تجعلوا للشيطان بينكم وبينها منفذًا يدخل منه، ولا لحظوظ النفس بينكم مدخلًا.

وفقكم الله جميعًا، وأجرى الخير على أيديكم جميعًا، وجمع أيديكم على خدمة الوطن، وقلوبكم على المحبة لأبناء الوطن، وجعلكم متعاونين على البر والتقوى غير متعاونين على الإثم والعدوان قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) [النور 55]".

وأنقل إليك ما قاله يوما الشيخ أبو الحسن الندوي رحمه الله في مقاله الرائع "اسمعي يا سوريا":

"دعي التردد يا سوريا، فلا أضر على الأمم من التردد وخذي العزم والأمر والحزم واحملي راية الإيمان والدعوة إلى الخارج وراية الإصلاح والتربية في الداخل، وحاربي فساد الأخلاق والتحلل والميل الزائد إلى الملاهي والرخاوة والترف فلا بقاء لأمة ولا قوة على عدو بانحلال الأخلاق ورخاوة الأجسام والترف الفاحش واذكري أن من أسباب أن من أسباب انتصار العرب تقشفهم في الحياة واحتمالهم للمشاق ومن أسباب انكسارالروم تنعمهم في الحياة وغلوهم في المدنية، ولا تنسي أنك دائما على الحدود فلا تضعي السلاح ولا تميلي إلى الدعة والراحة، ولا تمكني الغواة والذين تجارتهم في الأخلاق والأعراض من إفساد شبابك وإضعاف العقيدة والقوة المعنوية".

ولا تعبئي بما تخبئ لك الأقدار السلبية من بث الهزائم في النفوس التي يريدها لك البعض عن حسن قصد أو سوء نية، ومن سموم الظنون السيئة وإشاعة التفرقة بين أبنائك التي نالت منهم الأيام والسنين...

فامض على بركة الله وضعي المحراث في مكانه فإنه سيجد طريقة ولا تسألي عنه بعدئذ... إذ سيمدك الله ويمد أبناءك بعون منه وتوفيق ليتحقق ما آمنت به الأمة طيلة القرون الماضية... وما ذلك على الله بعزيز.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.


: الأوسمة


المرفقات

التالي
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين: في أكبر عملية جوية للاحتلال الإسرائيلي، ندين تدمير مقدرات سوريا وندعو إلى ردع العدوان (بيان)
السابق
حركة النهضة تطالب بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وإيقاف نزيف الحريات في تونس

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع