ثورة سوريا: الأسباب والإمكانيات
والمخاوف
بقلم: شعيب الحسيني الندوي
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
تتمتع أرض الشام بتاريخ
إسلامي عريق في عظمة الرجالات وخصبة الإنتاجات ورفعة المآثر، وفي الثقافة
والحضارة، والعلم والفن، فهي واحدة من أكثر الأماكن تأثيراً في تاريخ الأمة
الإسلامية، ولقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً إلى الشام في مرضه الذي
توفي فيه، وعين فيه أسامة بن زيد قائداً للجيش، وقد ورد العديد من الأحاديث التي
تبين أهمية هذه الأرض خاصة فيما يتعلق بالأحداث الكبرى التي ستحدث في آخر الزمان.
كانت أرض بلاد الشام
قديما واسعة تشمل فلسطين ولبنان والأردن، حيث قسمت القوى الغربية أراضيها في فترة
الاستعمار، وبعد سقوط الخلافة العثمانية، تفتت العالم الإسلامي وأصبح الوضع أكثر
ضعفاً. وفي قلب هذا الوضع، تم إنشاء دولة إسرائيل في فلسطين، وهو ما أدى إلى
انتشار الدماء في المنطقة ولا يزال مستمراً حتى يومنا هذا.
بعد الاستقلال عن
الاستعمار الفرنسي عام 1946، لم تتمكن سوريا من الوصول إلى الاستقرار بسبب
الاضطرابات الداخلية والمؤامرات الخارجية، فقد كانت تعاني من ضعف الإدارة، والتخلف
الاقتصادي، ونقص الجيش المدرب، وقلة المؤسسات التعليمية الجيدة، والصراع السياسي
الداخلي، بالإضافة إلى تداخلات القوى الخارجية، مثل حرب 1948م وتوقيع اتفاقية
بغداد في 1955. كانت القوى الغربية وخاصة إسرائيل تهدف إلى إضعاف سوريا وعدم
تمكينها من استعادة قوتها السياسية والعسكرية.
في عام 1963م، وصل حزب
البعث الاشتراكي العربي إلى السلطة عبر انقلاب، وتأسس الحزب الجديد بعد اتحاد
الحزبين البعثي والاشتراكي في 1952م، وكان ميشيل عفلق هو أول رئيس له. وفي عام 1970م،
استفاد حافظ الأسد من الانقسامات داخل الحزب وبدأ حركة إصلاحية ليحكم البلاد ويمسك
السلطة، حيث عمل على وحدة البلاد سياسيًا، إلا أنه عزز من الطائفية ودعم فئة
العلويين وقام بالقضاء على معارضيه من السنة، وقد لعب الجيش السوري دوراً مهماً في
حرب 1973م ضد إسرائيل، ولكن يقال إن هضبة جولان قد أتحفت لإسرائيل من قبل حافظ
الأسد للبقاء على الحكم وللمصالح الاقتصادية للبلاد.
بعد ثلاثين عاماً من
الحكم، توفي حافظ الأسد في عام 2000م، وتولى ابنه بشار الأسد الحكم، قام بشار
بمحاولات لتحقيق التنمية الاقتصادية وتحسين العلاقات الدولية، لكنه استمر في السير
على خطى والده في تعزيز الطائفية.
وفي عام 2011م، انتشرت
مظاهرات ضد حكم بشار الأسد، مما أدى إلى اندلاع ثورة شعبية قوبلت بالقمع الوحشي من
نظامه، حيث أسفرت هذه القمعات عن مقتل مئات الآلاف، ونزوح الملايين، وتدمير المدن
السورية.
وفي 27 نوفمبر 2024م،
انطلقت ثورة جديدة من شمال غرب سوريا تحت مسمى "ردع العدوان" بقيادة أبو
محمد الجولاني، قائد هيئة تحرير الشام، التي تكونت من تحالف عدة جماعات مقاومة.
هذه الثورة انتشرت بسرعة غير متوقعة، حيث تم تحرير حلب ثم حماه وحمص، وبحلول 8
ديسمبر 2024م، وصلت الثورة إلى دمشق، مما اضطر بشار الأسد إلى الفرار إلى روسيا في
منتصف الليل.
وقد كانت سرعة الأحداث
مفاجئة للجميع، ولكن تجدر الإشارة إلى أن روسيا قد بدأت تشعر بالإرهاق من دعمها
لحكومة بشار بسبب انشغالها بالحرب في أوكرانيا، وهو ما جعلها غير قادرة على تقديم
الدعم العسكري الفعال في سوريا. كما أن إيران، التي استفادت من الوضع في سوريا، قد
ابتعدت عن بشار بعد أن لم يعد يحقق مصالحها. بالإضافة إلى ذلك، حزب الله الذي كان
حليفاً رئيسياً لإيران في لبنان، قد صرف اهتمامه إلى جبهة إسرائيل، مما أثر على
دعم سوريا، أما الجيش السوري فقد انهار بسبب ضعف التدريب والموارد.
على الرغم من النجاح
الذي حققته الثورة، لا تزال هناك تحديات كبيرة، منها الحركات الكردية التي تطالب
بالدولة المستقلة، وبعض المناطق التي يسيطر عليها العلويون. كما أن إسرائيل، التي
ترى في سوريا تهديداً، بدأت في توسيع نطاق سيطرتها على مرتفعات الجولان وقامت بهجمات
صاروخية على المواقع العسكرية السورية، وتريد أن تستغل الفراغ العسكري الراهن في
سوريا لصالحها في سياسة الامتداد العسكري في هضبة جولان حتى وصولا إلى دمشق قلب
سوريا، وإبقاء سوريا بلا سلاح يهدد إسرائيل.
أما بالنسبة للولايات
المتحدة، فهي كامت تقوم ضد بشار الأسد في عدوانه على الشعب السوري وتعارض دعم
روسيا له وتبدي موافقتها على سقوط النظام والرضى بالواقع، لأنها ترى في سقوط حكومة
بشار خطوة نحو تعزيز مصالحها في المنطقة، كما أن تركيا تشارك في دعم الثورة رغبة
في إعادة اللاجئين السوريين إلى وطنهم، ولتقويض التهديدات الكردية في سوريا التي
تؤثر على أمنها.
نجاح الثورة يعتمد على الاستراتيجية
السياسية، والتحالفات القوية، وإعادة الاستقرار إلى البلاد. ستحتاج الحكومة
الجديدة إلى توخي الحذر في التعامل مع القوى الدولية لضمان الاستقرار وبناء جيش
قوي يحمي البلاد من التحديات الداخلية والخارجية.
وفي النهاية، يبدو أن
الثورة تسير في الاتجاه الصحيح، وإذا تم تبني استراتيجيات سياسية قوية، يمكن أن
تحقق الاستقرار قريباً. لكن إذا فشلت – لا قدر الله - فقد تُدفع البلاد إلى مزيد
من الفوضى والصراعات الطائفية، وهو ما تسعى إسرائيل إلى تحقيقه. نسأل الله أن يحفظ
سوريا، وأن يعيد لها السلام ويحقق تحرير فلسطين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.