قرر فقهاء السياسة الشرعية من قديم ــ منهم الماوردى الشافعى ، وأبو يعلى الحنبلى - وحديثا - منهم الدكتور محمد ضياء الريس - أن الرئاسة التى عبروا عنها بالإمامة عقد لا يتم إلا بعاقد ، والعقد يفتقر لانعقاده إلى إيجاب وقبول، والأمة هي المنشئ له، لأنها هي صاحبة المصلحة في إيجاده ، وقرروا أن الإمامة لا تنعقد إلا بالرضى والاختيار ، فالعقود تنشأ من الإرادات الحرة ، وكل ما يؤثر في حرية الإرادة يؤثر في صحة التعاقد . كما قرروا أنه متى انعقدت للإمام الإمامة فالمطلوب منه الوفاء بما تضمنه العقد، فإذا قام بواجباته نحو الأمة فقد وجب له حقان : الطاعة والنصرة ما لم يتغير حاله، وأوضحوا أن الذي يتغير به حاله فيخرج به عن الإمامة شيئان: أحدهما جرح في عدالته، والثاني: نقص في بدنه ، أو ما يعبر عنه حديثا بالحالة الصحية للرئيس .
وإذا كان منصب الرئاسة يمثل عقدًا بين الشعب والرئيس ، فلابد من إرادة حرة بين طرفي العقد وقت الانعقاد ، كما أن مضمون العقد يجب أن يكون من الوضوح بحيث لا يتطرق إليه لبس أو غموض، كما أن أي إخلال ببنود العقد يوجب نقضه ، أو فسخه ، أو ما يعبر عنه فى الدساتير المعاصرة بالعزل .
والعقود في الإسلام لها قداسة و حرمة والوفاء بها واجب ، والرضى بعقدها يمثل التزامًا دينيًا، والوفاء بها يعد واجبا أخلاقيا قبل أن يكون التزامًا قانونيًا ودستوريا ، وإن النكوث عن الوفاء بها يعدّ طعنًا في دين الناكث، قبل أن يكون خللًا بمتطلبات العقد يوجب المقاضاة والتحاكم .
وقد توالت النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية التي تدعو إلى الوفاء بالعقود، وتحذر من نقضها، وتصف من لا يلتزم بهذا بالغدر والنفاق. من ذلك قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ﴾ المائدة 1 . وقوله تعالى: ﴿ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ النحل 91. وقال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم : " أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر" رواه البخارى. وقال - أيضا - : "إن الغادر يرفع له لواء يوم القيامة يقال: هذه غدرة فلان بن فلان " رواه البخارى .
والعقد بين الشعب والرئيس ، أو بين الحاكم والمحكوم كان يطلق عليه قديما البيعة ، وهي العهد على الطاعة ــ كما يقول ابن خلدون فى المقدمة ــ كأن المبايع يعاهد أميره على أن يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين.
وأصل البيعة التي كانت تتم بين الأمة والخليفة - أى الشعب والرئيس - أن أولي الحل والعقد والجنود وجماهير المسلمين يعطون الخليفة عهدًا على السمع والطاعة في المنشط والمكره، ما لم تكن معصية، ويعطيهم العهد على أن يقيم الفرائض، ويقيم بينهم العدل ، وأن يسعى فى مصالحهم . ولذلك قرر الفقهاء فى قواعدهم الفقهية أن تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة .
وأصل البيعة التي كانت تتم بين الأمة والخليفة – الحاكم والمحكوم - تتفق مع نظرية العقد الاجتماعي التي قال بها علماء العصر الحديث في أصل الدولة، فقد قرر جان جاك روسو الفرنسي وغيره ، بأن الأصل في قيام الدولة هو عقد بين الحاكم والمحكوم ، على أن يقوم الحاكم بمصلحة الرعية في نظير طاعتها والتزامها بما تفرضه الحكومة من ضرائب وغيرها ، وعلماء المسلمين في ظل الفطرة المستقيمة والنظم الإسلامية المقررة في الإسلام قد انتهوا إلى هذا العقد وقد جعلوه واقعةً عمليةً ، إذ كانوا يعقدون ذلك العقد الاجتماعي النظامي فعلًا. وقد كان الالتزام فيه على الحاكم أقوى من الالتزام على المحكوم وأوثق وأشد، فلم يفرض أن وجود الحاكم في ذاته مصلحة، كما فرض بعض الكتاب الإنجليز، بل فرضوا وجوده نقمة إذا لم يلتزم بالعدل والمصلحة والرفق كما يقول الشيخ محمد أبو زهرة .
وعلى هذا الأساس كانت الأمة هي المنشئة لعقد الإمامة وهي التي تعين الإمام ، ومن يملك حق التعيين يملك حق العزل .
وعقد يقوم على هذه الأسس وينطلق من تلك الثوابت لجدير بأن يحفظ حق الأمة فيمن تختاره، ويصون حرية إرادتها من عواصف الهوى والاستبداد، ويجعلها هي صاحبة القرار والكلمة الفصل في شأنها كله، ويجعل من الحاكم موظفًا لديها، أو أجيرًا عندها كما صوره علماؤنا من قديم، وكما كان واقعًا في ظل الخلافة الراشدة، وقد اجتهد فقهاؤنا وعلماؤنا فى أن يلزموا به خلفاء الحكم الوراثي، والملك العضوض ، أو على أقل تقدير سطروا نظرية العقد بين الحاكم والمحكوم ، وما ينبغى أن يكون عليه الأمر فى الحكم الرشيد .