البحث

التفاصيل

سوريا الجديدة.. رحلة البحث عن العدالة والمواطنة

الرابط المختصر :

سوريا الجديدة.. رحلة البحث عن العدالة والمواطنة

كتبه: د. علاء الدين آل رشي

 

ها هي سوريا تقف أمام التاريخ، لكنه هذه المرة لا يأتيها بالأجوبة، بل يغمرها بالأسئلة. كيف لوطن مزقته الحرب أن يعيد لملمة ذاته؟ وهل تُبنى الأوطان بالكلمات وحدها، أم أن البناء يستدعي ما هو أبعد من الشعارات؟

تدور الأحاديث عن دولة المواطنة وسيادة القانون، لكن هل هذه مفاهيم غريبة على السوريين؟ أم أنها عبارات أعيد صقلها لتتلاءم مع ضرورات اللحظة؟

الدولة، ببساطة، هي عقد بين الشعب يحفظ الحقوق ويوازن الواجبات، لكن في سوريا كان الانتماء للطائفة أو الحزب هو القانون الفعلي.

العدالة ليست في المحاكم وحدها، بل في شعور الناس بأن الغد لا يشبه الأمس. يقول البعض إن التصالح مع الماضي ضرورة، لكن هل يُبنى التصالح دون إنصاف حقيقي؟ العدالة ليست أداة انتقام، بل وسيلة لإغلاق جراح مفتوحة دون أن تتحول إلى ندوب أبدية. في هذا السياق، قد يكون تحقيق العدالة الانتقالية إحدى الوسائل المهمة. فهي لا تقتصر على محاسبة مرتكبي الجرائم، بل تسعى لتضميد الجراح وإعادة بناء الثقة بين الأطراف المختلفة في المجتمع.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه: كيف يمكن تحقيق هذه العدالة في ظل انقسامات حادة وغياب مؤسسات فاعلة؟ ربما تكون البداية في استحداث آليات محلية تعتمد على التوافق المجتمعي والعدالة التصالحية؛ مما يتيح لكل الأطراف فرصة المشاركة في صنع مستقبل جديد.

الدستور وثيقة للماضي أم مفتاح للمستقبل؟

تلوح فكرة الدستور الجديد في الأفق كطوق نجاة. لكن، هل يُكتب الدستور ليعلق على الجدران أم ليعكس أحلام الناس؟ سوريا عرفت الدساتير، لكنها عرفت أيضًا كيف تُكتب بعيدًا عن الشعب. السؤال الأكبر: هل يمكن لمن عاش عقودًا من الاستبداد أن يصوغ دستورًا يستوعب الجميع؟

الدستور يجب أن يكون نتاج حوار وطني شامل، تشارك فيه جميع الفئات دون استثناء. من الضروري أن يعبر عن تطلعات الأجيال الشابة التي تمثل مستقبل البلاد. هذا الدستور لا بد أن يرسخ مبادئ الفصل بين السلطات، ويضمن الحقوق الأساسية للجميع دون تمييز، سواء على أساس الدين أو العرق أو الانتماء السياسي.

إن كتابة دستور جديد ليست مجرد خطوة قانونية، بل هي أيضًا فرصة لإعادة تعريف الهوية الوطنية. إنها فرصة للتأكيد على قيم الحرية والمساواة واحترام التنوع الذي طالما كان ميزة فريدة لسوريا.

الاقتصاد أعقد التحديات

وسط مدن مدمرة وأراضٍ زراعية منهوبة ومصانع مغلقة، يطرح سؤال الاقتصاد نفسه بوصفه أكثر التحديات تعقيدا. التحول من اقتصاد مركزي إلى آخر يعتمد على السوق لا يعني التخلي عن العدالة الاجتماعية، لكنه يتطلب رؤية لا شعارات.

التحدي هنا لا يقتصر على إعادة بناء البنية التحتية فحسب، بل يشمل أيضًا توفير فرص عمل دائمة للمواطنين. إن تحقيق النمو الاقتصادي يتطلب استثمارات في التعليم والتكنولوجيا، وتوفير بيئة عمل تحفز على الإبداع والابتكار.

ومع ذلك، يجب أن يكون هناك تركيز خاص على المناطق الريفية التي تضررت بشدة من الحرب. الزراعة، باعتبارها عصب الاقتصاد السوري، يمكن أن تكون نقطة انطلاق للتنمية. الاستثمار في التكنولوجيا الزراعية الحديثة، وإعادة تأهيل الأراضي الزراعية، ودعم المزارعين، من شأنه أن يعزز الأمن الغذائي ويوجِد فرص عمل جديدة.

الجماعات المسلحة إرث ثقيل

كيف تستعيد الدولة احتكارها للعنف دون أن تكرر أخطاء الماضي؟ وهل يمكن إدماج من حملوا السلاح في نسيج الوطن دون أن يصبحوا أدوات استغلال جديدة؟

التعامل مع الجماعات المسلحة يتطلب مزيجًا من الحزم والمرونة. فمن جهة، لا يمكن السماح لأي جماعة بفرض إرادتها بالقوة، ومن جهة أخرى، يجب فتح قنوات للحوار وإتاحة فرص لإعادة دمج المقاتلين السابقين في المجتمع.

من الخطوات المهمة إطلاق برامج إعادة تأهيل شاملة تهدف إلى توفير التدريب المهني والتعليم والدعم النفسي لهؤلاء الأفراد. هذه البرامج يجب أن تكون مصحوبة بخطط عملية لإعادة بناء المجتمعات المحلية التي تضررت جراء العنف.

بين التصريحات والتناقضات

بين دعوات المحاسبة ومناداة العفو تظهر تناقضات في رؤى بناء الوطن. كيف تُبنى سوريا المتماسكة إذا بقيت الجراح مفتوحة؟ التحدي الأكبر ليس في الداخل فقط، بل في العلاقات مع الجوار ودور القوى الكبرى.

لا يمكن تجاهل أهمية الدور الإقليمي والدولي في دعم عملية إعادة البناء. لكن هذا الدعم يجب أن يكون مشروطًا باحترام السيادة السورية وضمان تحقيق المصالح الوطنية.

التعليم حجر الأساس

لا يمكن الحديث عن بناء سوريا جديدة دون التطرق إلى التعليم. التعليم هو الأساس الذي يقوم عليه مستقبل الأوطان، خاصة في مجتمعات مزقتها الحروب. إن توفير تعليم شامل وعادل للجميع، بغض النظر عن الخلفية الاجتماعية أو الطائفية، سيكون مفتاحًا أساسيًّا لنجاح أي عملية إعادة بناء.

التعليم ليس مجرد وسيلة لتزويد الأفراد بالمعرفة، بل هو أيضًا أداة لإعادة بناء النسيج الاجتماعي وتعزيز القيم المشتركة. يجب أن تكون المناهج الدراسية خالية من أي محتوى يدعو إلى الكراهية أو التفرقة، وأن تركز بدلًا من ذلك على قيم التعايش والتسامح والمواطنة.

دور المجتمع المدني

إلى جانب التعليم، يؤدي المجتمع المدني دورًا حيويًّا في إعادة بناء سوريا. منظمات المجتمع المدني يمكن أن تكون قوة دافعة للتغيير، من خلال تعزيز الوعي الحقوقي، والمشاركة في مشاريع التنمية، والعمل على ترسيخ قيم الديمقراطية.

هذا الدور يتطلب دعمًا حكوميًّا ومجتمعيًّا، إضافة إلى بيئة قانونية تسمح لهذه المنظمات بالعمل بحرية.

سوريا الجديدة أمل يتجدد

بين الركام وأحلام الغد، تقف سوريا في لحظة فارقة. إذا اختارت الوحدة والعمل، فإنها قد تكتب لنفسها تاريخًا جديدًا، وإذا انغمست في الأحقاد القديمة، فلن تكون إلا امتدادًا للماضي.

سوريا الغد ليست مجرد فكرة، بل إرادة تُبنى خطوة بخطوة، وإذا استطاعت الخروج من هذه اللحظة بوعي جديد، فإنها لن تستعيد ما فقدته فحسب، بل ستصبح القلب النابض في هذا العالم. السؤال اليوم ليس ما الذي فقدته سوريا، بل كيف يمكنها أن تستعيد دورها كجسر ثقافي وحضاري يربط الشرق بالغرب. سوريا الجديدة تبدأ بإرادة شعبها وإيمانهم بأن ما يجمعهم أكبر مما يفرقهم.

إن رحلة سوريا نحو العدالة والمواطنة ليست سهلة، لكنها ليست مستحيلة. الإرادة، والعمل الجماعي، والاستثمار في الإنسان هي المفاتيح لبناء سوريا جديدة تستطيع أن تكون نموذجًا يحتذى به في العالم.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

* د. علاء الدين آل رشي؛ عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، كاتب سوري.

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.


: الأوسمة


المرفقات

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع