بلاد الشام
والنصر العزيز
كتبه: د.
عبدالله بن محمد بن عبدالله الخديري
عضو الاتحاد
العالمي لعلماء المسلمين
بسم الله والحمدلله والصلاة
والسلام على نبينا محمد وصحابته أجمعين وبعد.
فإن الناظر إلى حال بلاد
الشام اليوم (سوريا) قد يصاب بالذهول كونه يرى النصر أياماً معدودة فقط ودخل أصحاب
الأرض المظلومين المبعدين قسراً من ديارهم رافعي الرؤوس مكبرين مهللين [فَرِحِينَ
بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ...] (سورة آل عمران:170)،، [وَمَا
جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ ۗ وَمَا
النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ] (سورة آل عمران:126)
وتهاوت وانحسرت وتساقطت أمامهم عروش الطغيان والظلم والشرك والفجور من حكم بائد
مصحوب ومستعين بشذاذ الآفاق من مليشيات الارهاب والخراب والدمار والقتل الممنهج
طيلة أربعة عشر عاما منذ اندلاع رياح التغيير وحتى سقوط وهروب الأسد وميليشياته
الطائفية المدعومة روسياً وإيرانيا.
إن إرهاب الأسد كحاكم في
حقيقة الأمر لم يكن عرضياً أو جديداً أو ردة فعل - وإن كانت هي الأقوى ولا شك -
ولكنه كان منهجاً أيدلوجياً وفكراً مستبداً قائماً على الفوقية المطلقة واستعباد
البشر طيلة خمسين عاماً أو تزيد؛ منذ حافظ الأب وحتى قبيل سقوط ابنه بشار.
إن هذا النصر المؤزر والمتوج
بالفرح الكبير والسعادة الغامرة لأبناء الشام عموماً لم يأت جزافاً، ولم يكن مجرد
مناوشات ولحظات آنية وردود أفعال، ولكنها تضحيات أبناء الشام المتراكمة منذ خمسين
عاماً وحتى قبيل سقوط المجرمين.
لقد ضحى الشاميون بالغالي
والنفيس لأجل دينهم وكرامتهم وإنسانيتهم.
فقدوا حتى الآن قرابة مليون
شهيد تنوعت بين إعدام معتقلين، أو دفن الناس أحياء، او بإسقاط البراميل المتفجرة
فوق الأبرياء.
ولجأ ونزح أكثر من سبعة
ملايين شخصاً، ودمرت أكثر المدن السكنية فوق ساكنيها، وضرب الاقتصاد المحلي، وحرم
الناس من مقومات الحياة الكريمة، واستأثر الأسد وميليشياته الطائفية بالمال
والوظائف المهمة وغيرها.
وقبل هذه الكارثة كلها كانت
مجزرة حماة المروعة عام 1982 وراح ضحيتها عشرات الآلاف التي قام بها الهالك حافظ.
إذاً هذه كلها تضحيات جسيمة
وكبيرة مهدت للنصر فكان ما تمنوا: [فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ
ظَلَمُوا ۚ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] (سورة الأنعام:45)، هل
علمتم أيها المسلمون لماذا كل هذا التكالب على أهل الشام ولماذا كل هذا الظلم والطغيان؟!
كل ذلك بسبب مكانتها الدينية
والجيوسياسية وهذا ينطبق على بلاد الشام ككل أعني بها البلدان الأربع في واقعنا
المعاصر (فلسطين، وسوريا، ولبنان، والأردن) وإن كانت في الأصل بلداً واحداً من حيث
التوصيف الشرعي.
إن بلاد الشام من خير بقاع
الأرض فهي التي ميَّزها الله وذكر بركتها في كتابه فقال: [سبحان الَّذِي
أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ
الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ] (سورة الإسراء:1)، فقد جعل الله بلاد الشام مسرى
الأنبياء، ومكاناً لنزول الوحي، وهي أرض المحشر والمنشر، وحين يبعث الله المسيحَ
ابن مريم في آخر الزمان لا ينزل إلا في دمشق.
فهي عمق الإسلام وعاصمة
الأمويين، صنفت على أراضيها كثير من كتب الإسلام، وانطلق منها موكب عمر الفاروق
حين ذهب لفتح بيت المقدس، وفيها دُفِن جمع كثير من الصحابة ومن علماء المسلمين،
ورفعت فيها راية الجهاد، وكسرت على أسوارها الحملات الصليبية، واستشهد فيها بعض الصحابةِ
ومنها انطلقت جيوش الإسلام إلى أرجاء الدنيا.
هي البلاد التي خرَّجَت
للأمة آلاف العلماءِ والفقهاء والأدباء منذ فجر الإسلام حتى يومنا هذا، لعل من
أبرزهم أولئك الأئمة الكبار كالنووي وابن كثير وابن تيمية وابن قيم الجوزية وغيرهم
وهي موطن الخلافة الأموية.
ولذلك كانت كل تلك الجرائم
الموبقات والتضحيات العظام التي لا نظير لها في واقعنا المعاصر والحكايات والقصص
التي رآها العالم وسمعها عبر شاشات الإعلام المتنوعة هي التي أسقطت الظلمة
والمجرمين بعد أن ظنوا بل وقالوا إنهم أبديون في سلطتهم وقهرهم للناس ولا أحد قادر
على إزاحتهم وتناسوا قوله تعالى: [..فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ..] (سورة
الأنبياء:87)، [فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَىٰ مَثَلُ
الْأَوَّلِينَ] (سورة الزخرف:8).
ولذلك وضعوا حصوناً ومخابئ
وملاجئ لهم ظناً أنهم سينقذون أنفسهم من السقوط أو العدالة وينجون بجلدتهم: [...وَظَنُّوا
أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ
حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ۚ يُخْرِبُونَ
بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي
الْأَبْصَارِ] (سورة الحشر:8)
لكن الله أذن بزوالهم عن
كرسيهم بعد اكتمال أسباب الهلاك والسقوط وإذا أراد الله وقوع شيء في الدنيا هيأ له
أسبابه التي يقع بها، فكل سبب موقوف على وجود الشروط وانتفاء الموانع، وصدق الله
إذ يقول: [وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ
قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ
فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا]
(سورة الإسراء:16)
وهذه سنة الله في الأخذ
بالأسباب بعد التوكل عليه والالتجاء إليه سبحانه وتعالى.
كم أهلك ربنا من ممالك وأمم
وقرى كانت ظالمة وأنشأ بعدها قوماً آخرين: [وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ
كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ] (سورة
الأنبياء:11)
كم أهلك من طغاة وظلمة
ومتجبرين كفرعون وهامان وقارون وجنودهم، وقوم عاد وثمود فأصبحت مآثرهم أطلالاً
وأثراً بعد عين [فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا ۗ إِنَّ فِي
ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ] (سورة النمل:52) الفاء هنا للسببية،
أي بسبب ظلمهم.
[وَكَمْ
أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ۖ فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ
تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا ۖ وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ] (سورة القصص:58) وقد جاء في الصحيح من حديث أبي موسى
الأشعري رضي الله عنه قال، قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليملي للظالم،
حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: [وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ
الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ۚ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ] (سورة هود:102)
وفي الصحيح أيضا: "اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات القيامة"، قال الإمام
الذهبي: "الظلم يكون بأكل أموال الناس وأخذها ظلمـا، وظلم الناس بالضرب
والشتم والتعدي والاستطالة على الضعفاء…"، وهذا كله بل وأعظم منه كان موجوداً
في الطاغية من كفر وشرك ومحاربة لشعائر الإسلام الظاهرة؛ ولأن الظلم مؤذن بخراب
العمران كما قال ابن خلدون في مقدمته؛ لذلك رأينا كيف كانت بلاد الشام في عهد
الطغاة سابقاً ولاحقاً وكيف أصبحت خراباً ودماراً حتى قبيل سقوط الطاغية ونصر
أبناءها عليه.
بعد كل هذا أفلا يعقل ويتفكر
ويتدبر كل عاقل سوي الفطرة مصارع الظالمين ومآلاتهم؟!!
وكيف أظهر الله الصادقين
عليهم رغم فارق الإمكانات البشرية والمادية؟!
إنه وعد الله في كل زمان
ومكان: [...وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ] (سورة الروم:47)،
فكما نصر الله النبي صلى
الله عليه وسلم وأصحابه المؤمنين يوم بدر وهم قلة قليلة مستضعفين: [وَلَقَدْ
نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] (سورة آل عمران:123)
ونصرهم في فتح مكة بعد
خروجهم منها: [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ] (سورة النصر:1)
فكذلك نصر الله أهل الشام بعد خروجهم من ديارهم مستضعفين ونصرهم بعد أن كانوا قلة
وأقل مالاً وعدة.
فالتأريخ يعيد نفسه، وهذا
حال الأحفاد مع الآباء والأجداد، وكلهم يصدق عليهم قوله تعالى: [وَمَا نَقَمُوا
مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ] (سورة
البروج:8)،،
نصر بلاد الشام هو نصر
للمسلمين وعزهم هو عز المسلمين وهكذا كل بلد مسلم.
عوداً على بدء؛ فإن بلاد
الشام كفلسطين وسوريا ولبنان قد نالوا ما نالوا من التمحيص والابتلاء عقوداً
طويلة، لكن أملنا بالله كبير فكما تحررت سوريا بعد إحباط لدى البعض؛ ستتحرر قبلة
المسلمين الأولى ومسرى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فلسطين أرض الفتوحات.
ومن المأمول والمهم من
الحكومة السورية الجديدة المحافظة على هذا النصر المؤزر بأهم الأشياء منها:
⁃ التربية الإيمانيّة
والدعوية للشعب المسلم بالحكمة والموعظة الحسنة.
⁃ تعديل المناهج
الدراسية إذا تطلب الأمر؛ لتكون متوافقة مع الشريعة الإسلامية.
⁃ الحزم والعدل
والقصاص من القتلة فلا تسامح ولا تغاضي عمن تلطخت أيديهم بدماء الناس وأعراضهم وأموالهم
حتى ينعم أبناء الشام بالأمن بعد الخوف.
⁃ التنمية وإصلاح
البنى التحتية للوصول إلى تنمية مستدامة.
⁃ الاهتمام بالاقتصاد
كونه العمود الأساسي لاستقرار وديمومة أي بلد.
⁃ وحدة الصف
وحمايته من التدخلات الخارجية التي قد تفسد نصركم وفرحتكم.
⁃ تطهير الجيش
والأمن والقضاء والإعلام من الفاسدين والمتنفذين.
⁃ المواطنة المتساوية
هي أساس الاستقرار لأي بلد فيه طوائف ومتعدد المذاهب.
⁃ الاهتمام الكبير
بوزارات الدفاع والإعلام والخارجية كونها سيادية وذات أهمية.
⁃ الانفتاح على
العالم الغربي مهم في الاستفادة منهم حسب المصالح المشتركة.
⁃ كل هذه وغيرها
ينبغي مراعاتها والسعي لتحصيلها حسب المصالح والمفاسد حتى يتم الاستفادة مما حصل من
أخطاء في دول مشابهة مرت بنفس الظروف.
ولا شك والحمدلله بأنهم أحرص
على القيام بمثل هذه الأشياء ومدركون لهذا الأمر يقيناً، ولكنها ذكرى تنفع
المؤمنين وحرص على تمام النصر وسد الباب
أمام كل متربص وغادر.
والظلمة والطغاة وإن اختلفت
أفكارهم ومعتقداتهم وتوجهاتهم وانتماءاتهم إلا إن القاسم المشترك بينهم هو
الاستعباد المطلق والقهر ومصادرة كرامة الإنسان أياً كان لونه وشكله.
ومثال ذلك سوريا وفلسطين
الشاميتان رغم اختلاف من يحكمهما فكراً ومعتقداً لكن النتيجة كما نرى ونسمع؛
فالقتل والعنف والارهاب ومصادرة الحقوق والحريات العامة وهدم البيوت فوق ساكنيها
وحتى دور العبادة والمستشفيات والمدارس لم تسلم من هذا كله في تحدي صارخ لكل القيم
الدينية والقوانين الوضعية.
قهر وإذلال ممنهج، ليس له أي
تفسير إلا الغيرة من كرامة الإنسان وحياته الطبيعية وكونه ايضاً مقدر أن يعيش في
أرض مباركة ومقدسة كانت ومازالت مطمعاً للغرب والشرق.
وفي المصطلح المعاصر
الجيوسياسية.
وصدق الله [لَن
يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى ۖ وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ
ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ] (سورة آل عمران:111)، فكانت النتيجة حتمية شرعية المآل:
[إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ] (سورة هود:49)، فذهب الطارئ وحضر
الدائم، وانتهت العصابة وجاءت الدولة، وهلكت المليشيات ونجت الشرعية.
وقد جاء في الحديث الثابت
المتواتر من جهة استفاضة ثبوته عند الأئمة، ومخرج في الصحيحين وغيرهما، قوله صلى
الله عليا وسلم "لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو
خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس"،،
وهذه الطائفة المذكورة
المقصودة هي الكائنة ببيت المقدس وأكنافه -بقية بلاد الشام -ونسأل الله أن يتمم
فرحة العالم الإسلامي بنصر اليمن العظيم، يمن الإيمان والحكمة والفقه، مهد العرب
الأول، ومنبع العروبة، وقلبها النابض في الجزيرة العربية وأن يهلك المفسدين في الأرض،
وأن ينصر إخواننا كذلك في بقية بلاد الشام المباركة في فلسطين ولبنان على اليهود
الغاصبين المعتدين والمجوس المجرمين ويحفظ سائر بلاد المسلمين آمين.
وصلى الله على نبينا محمد
وصحابته أجمعين
وآخر دعوانا أن الحمدلله رب
العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* م. د. عبدالله بن محمد بن
عبدالله الخديري: أستاذ الفقه والقضايا المعاصرة، عضو الاتحاد العالمي لعلماء
المسلمين، عضو هيئة علماء اليــــمن.
* ملحوظة: جميع المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء
المسلمين.