العجز
الممنوع
بقلم: د.
فهمي إسلام جيوانتو
عضو
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العجز، قال عليه الصلاة والسلام: "احْرِصْ
عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَلَا تَعْجَزْ."
والعجز
المنهي هو ألا يحاول الإنسان بذل جهده في تحصيل الخير وتحسين وضعه وتغيير حاله إلى
أحسن حال. والله أراد من عبده أن يبذل قصارى جهده لتقديم أفضل ما لديه واستخراج
أقصى ما آتاه الله من الطاقات، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ
لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا] [الملك: 2] فالمستهدف في إقامة هذه
الدنيا هو الوصول إلى أحسن العمل. وما الصعوبات فيها إلا أدوات اختبار عزيمة العبد
عليه. فيسبق من يسبق بهمته، ويسقط من يسقط بعجزه.
من
صور العجز
وللعجز
المحرّم صور كثيرة منها: عجز الإنسان عن التحكم في نفسه ومقاومة هواه، كما
في الحديث: "وَالعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى
اللَّهِ."
وأعلى
مقدرة وأهم مهارة وأول كياسة هي القدرة على مجاهدة النفس ومغالبة نوازع الهوى
والتحكم في إدارة الذات، كما قال عليه الصلاة والسلام في أول الحديث: "الكَيِّسُ
مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ."
والقدرة
على إحجام النوازع السيئة من أهم أسباب فلاح الإنسان، ومن صفات أهل الجنة أنهم
ينهون أنفسهم عن اتباع الهوى، قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ
وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}
[النازعات: 40-41]
فلا
يسلم من هذا العجز إلا من داوم مجاهدة نفسه ومحاسبتها. قال تعالى: {وَالَّذِينَ
جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ
الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]
ومن
صور العجز: الاستسلام للقدر المكروه المأمور بتغييره، والاحتجاج به ليغطي
ضعفه ويبرر تقاعسه. فداء الجبرية قاتل لإرادة الإنسان ويشل تفكيره. وقد عالج
الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الآفة مبكرا، لما سأله أصحابه عن فائدة العمل بعد
نفاذ الأقدار، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، فَلِمَ نَعْمَلُ؟
قَالَ:
"اعْمَلُوا، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ"
ثم
قرأ قول الله تعالى: {فأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ
بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: ٥-١٠]
وقد
كان لعمر الفاروق كلام فصل وجزل في قطع هذه الشبهة، ففي صحيح البخاري: قَالَ أَبُو
عُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ -في طاعون عمواس: أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ؟
فَقَالَ
عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ؟ نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ
اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ
هَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ، إِحْدَاهُمَا خَصِبَةٌ، وَالأُخْرَى
جَدْبَةٌ، أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ،
وَإِنْ رَعَيْتَ الجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ؟
هكذا
يتعامل المسلم مع الأقدار، فمن الأقدار ما يجب على الإنسان مدافعته ومنازعته بما
آتاه الله من القدرة على الفكر والفعل. قال الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله: "وكثير
من الرجال إذا دخلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، وأنا انفتحت لي روزنة، فنازعت
أقدار الحق بالحق للحق، والولي من يكون منازعا للقدر، لا من يكون موافقا له."
قال
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بيان كلام الشيخ عبد القادر: "وهذا الذي
قاله الشيخ تكلم به على لسان المحمدية أي أن المسلم مأمور أن يفعل ما أمر الله به
ويدفع ما نهى الله عنه، وإن كانت أسبابه قد قدرت فيدفع قدر الله بقدر الله، كما
جاء في الحديث الذي رواه الطبراني في كتاب الدعاء عن النبي صلى الله تعالى عليه
وسلم "إن الدعاء والبلاء ليعتلجان بين السماء والأرض" وفي الترمذي: قيل
يا رسول الله؟ أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى نسترقي بها وتقى نتقيها هل ترد من قدر
الله شيئا؟ فقال: هن من قدر الله."
وقال
ابن القيم رحمه الله: "والرجل من يكون منازعا للقدر، لا من يكون مستسلما مع
القدر، ولا تتم مصالح العباد في معاشهم إلا بدفع الأقدار بعضها ببعض فكيف في
معادهم؟ والله تعالى أمر أن تُدفع السيئة - وهي من قدره - بالحسنة - وهي من قدره -
وكذلك الجوع من قدره، وأمر بدفعه بالأكل الذي هو من قدره، ولو استسلم العبد لقدر
الجوع، مع قدرته على دفعه بقدر الأكل، حتى مات: مات عاصيا، وكذلك البرد والحر
والعطش، كلها من أقداره، وأمر بدفعها بأقدار تضادها، والدافع والمدفوع والدفع من
قدره."
ومن
صور العجز أيضا الاحتجاج بالعامل الوراثي أو العرقي على الوضع السيء الذي
يمكن تغييره ويؤمر الإنسان بتبديله. فمن الناس من يرى أن النجاح والمجد مقصور على
سلالات معينة من البشر، أو أن التفوق لا يحوزه إلا طبقة النبلاء أصحاب "الدماء
الرزقاء" -كما اصطلح عليه الإنجليز والأسبان.
وقد
كرس بعض قوى الاحتلال مثل هذه الأفكار على أذهان الشعوب المستضعفة، وأقنعتهم بأن
بعض الشعوب حظهم من هذه الدنيا التبعية والتذلل للشعوب الراقية التي تستحق السيطرة
والتجبر على غيرها. وهذه أفكار هدامة ومدمرة تقتل الهمة وروح الارتقاء وتمحو مبدأ
المساواة والعدل بين الناس. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ
رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ
عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى
أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى." وقال
تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى
وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ
اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] وقال عليه الصلاة السلام: "مَنْ بَطَّأَ
بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ." وفي
الحديث: "النَّاسُ سَوَاسِيَةٌ كَأَسْنَانِ الْمشْطِ."
وهكذا
فإن الإسلام أطلق في الإنسان روح التحدي وحب السعي نحو المعالي، وأمات مبدأ الطبقيات
والعصبيات الجاهلية. فمن تشرّب هذه العقيدة الإسلامية الأصيلة فلن توقفه تلك
الأفكار المضللة القاتلة.
ومن
صور العجز أيضا: الاستسلام لنظرية المؤامرة. وقد شاع بين الناس اعتقاد بأن
العالم تديره قلة من الناس خلف الكواليس يتحكمون في سياسات العالم كلها، لا يعزب
عنهم مثقال ذرة، ولا يحدث شيء في الأرض إلا بعلمهم، ولا يتم أمر إلا بتدبيرهم.
فيجلس المساكين المخدوعون يستسلمون لهذا الوهم، لا ينشدون نهضة ولا يبغون إصلاحا.
وهذا
الوهم زُرع في عقول الناس عن طريق القصص المختلقة التي تخلط بين الحقائق الأكاذيب عن
نجاحات ونفوذ حركة سرية عالمية، فظن المغفلون أن الكلام كله حقائق خفية تفسر كل
الأحداث. وهذه الغفلة فشت في أوساط من لم يتعود على نقد الأخبار والتحقق في تلقي
المعلومات والتمييز بين الصحيح والكاذب من الأقوال. وقد نهى الله المؤمنين عن
التسرع في تصديق الأخبار الغريبة، وأمَرهم بالتبين قبل تلقيها. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]
وذم الله أناسا يتسرعون في نقل الأخبار قبل مراجعتهم لأهل الاختصاص، قال تعالى: {وَإِذَا
جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ
إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]
وقصص
المؤامرة منها صحيح ومنها مختلق، والصحيح منها يصعب التأكد منه في الغالب، فيفتح
المجال للمبالغة والمزايدة والتلاعب في المشاعر والتخيلات. ولكن القرآن الكريم
يكفينا مؤنة التحرز من هذا التهويل والتخويف. وقد أخبر الله بأن مكر الماكرين مهما
بلغ من الإحكام والدهاء فلا يخرج عن إرادة الله وقدرته، ولا يصيب منه إلا ما أراده
الله، وأن النافذ هو ما أراده الله، قال الله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ
وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54] وقال تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا
وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ . فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل: 50-51] وقال
أيضا: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ
مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ. فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ
وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [إبراهيم: 46-47]
وقال
النبي عليه الصلاة والسلام: "وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ
عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ
اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ
إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ."
فالغالب
هو الله، وأكبر قوة تتحكم في مصير العالم ليست أحدا من البشر بل الله الواحد
القهار. ولتأكيد ذلك كرر الله قصة موسى مع فرعون، وكيف عجز فرعون مع كونه ملكا
متجبرا محاطا بالجنود ذوي البطش الشديد، كيف عجز فرعون عن قتل موسى وكل الأسباب
المادية متوفرة عنده. {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ
رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي
الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26] ولا يملك موسى شيئا من الحماية غير أنه قال: {إِنِّي
عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ
الْحِسَابِ} [غافر: 27] فلم ينفع فرعون كل جنوده المتجبرة، ولم يضر موسى تلك القوة
التي تكبر بها فرعون وتوعد بها.
وكما
أن الاستسلام لنظرية المؤامرة عجز، فإن التجاهل والغفلة عن مكر الأعداء أيضا عجز،
والمُؤْمِنُ كَيِّسٌ فَطِنٌ حَذِر – كما في مسند القضاعي. والله أمر المؤمنين
باتخاذ الحذر في مواجهة أعداء الدين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} [النساء: 71]
فالوعي
بحقيقة المؤامرة واجب ولكن التهويل والمبالغة ضعف وعجز. وعلى المؤمنين أن يستيقنوا
بأن العاقبة للتقوى والبقاء لقوى الخير وأن ظهور الشر لا يكون إلا بإذن الله من
أجل التمييز بين الخبيث والطيب. {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا
مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد: 17]
ومن
العجز أيضا اعتقاد بأننا في آخر الزمان حيث لا يرجى فيه خير ولا ينفع فيه
إصلاح ولا يبقى من الدنيا إلا ظهور الدجال ثم تقوم الساعة. وهذا فهم معكوس ونظر
منكوس لأحاديث الفتن وأشراط الساعة. فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أخبر أمته
بحدوث الفتن وقيام الساعة إنما أراد من أمته الاستعداد ومقاومة الشر بالخير ودرأ
السيئة بالحسنة، فقد قال عليه الصلاة والسلام: "إِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ
وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى
يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ."
فالرسول
صلى الله عليه وسلم يعلمنا الإصرار على عمل الخير مهما تكن الظروف صعبة ومهما تبدو
النتيجة بعيدة أو شبه مستحيلة. فهذه هي الروح التي بثها النبي صلى الله عليه وسلم
في نفوس أمته، روح الإيجابية وروح التحدي والإصرار على عمل الخير، لا روح
الاستسلام واليأس والإحباط. وقد أخطأ كثير من الوعاظ والخطباء والكتاب الذين
يسرفون في سرد أخبار الفتن والملاحم مجردة ومنفصلة عن التبشير بانتصار الخير وظهور
الدين ودفاع الله عن المؤمنين.
فإن
الحياة مركبة من الخير والشر، وكما أن الحذر من الشر مطلوب فإن الأمل بالخير ركيزة
من ركائز الإيمان، لذلك فإن رسول الرحمة عليه الصلاة والسلام يزاوج في دعوته بين
التحذير والتبشير. وما أكثر تلك النصوص التي تبشر بالخير كقول الله تعالى: {هُوَ
الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] وقوله تعالى: {وَلَقَدْ
كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا
عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105] وقد تحدثنا
كثيرا عن هذا الموضوع في مقالاتنا السابقة بما فيه كفاية.
ومن
العجز أيضا انتظار الأحداث الخارقة ومجيء شخص خارق ليحدث التغيير، كمن يجلس
ينتظر ظهور المهدي، ولا يعمل من أجل تحسين واقعه ونفع أمته ونصرة دينه. مع أن الأحاديث
عن المهدي أكثرها ضعيف أو موضوع، والصحيح منها ليس فيه تعيين وقت ظهوره، وليس فيه
أمر بانتظاره والاتكال عليه، وقد استغلت طوائف ضالة وحركات منحرفة على مر التاريخ هذا
الموضوع لجر الناس إلى متاهات وويلات، وقد انتُهك المسجد الحرام وقُتل عدد كبير فيه
بسبب دعوى المهدية. وهذا الموضوع أيضا قد تطرقنا إليه في إحدى مقالاتنا.
ومسؤولية
الإصلاح تقع على كل مسلم حسب قدرته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رَأَى
مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ
فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ
الْإِيمَانِ."
ومن
العجز أيضا التوهم بأن تفرق الأمة قدر محتوم لا يمكن إصلاحه ولا حتى تقليله،
وبالتالي ليس هناك أمل في جمع الكلمة وترتيب الصفوف وتقريب المواقف. ومؤدى ذلك
إلغاء العمل بالآيات المحكمات والأحاديث الصحيحات المجمع عليها التي تأمر بالاتحاد
وتنهى عن التفرق. وقد جعل بعض الناس حديث افتراق الأمة رغم اختلاف المحدثين عليه
فوق قول الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}
[آل عمران: 103] وفوق قول الله تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا
تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] ونسوا أو تناسوا قول الله تعالى: {إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] وقول الرسول
صلى الله عليه وسلم: "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ
وَلَا يَخْذُلُهُ." [متفق عليه] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ
المُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا." [متفق
عليه] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ترَى المُؤْمِنِينَ فِي
تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، كَمَثَلِ الجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى
عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالحُمَّى."
ومن
الكياسة والفهم الصحيح لهذا الدين أن يسعى المسلم إلى الإصلاح ما أمكن، وألا يخلط
بين التفرق المذموم بمعنى الخروج والشذوذ عن إجماع الأمة واجتماعهم وبين الاختلاف
المشروع في المسائل الفرعية الجزئية. وعلى كل مسلم أن يجعل نقاط الاجتماع سبيلا
للتغلب على نقاط الافتراق. ويتعامل مع الاختلاف أو الافتراق كما يتعامل مع قدر
المرض وسائر المصائب التي هي جزء ثابت من الحياة الدنيا بحيث يجب دفعها أو
مدافعتها بما يضادها من أقدار الخير ما وجد إلى ذلك سبيلا. قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ
بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 25] فالمؤمن الكيس هو الذي يدفع الشر
بالخير، ولا يستسلم لقدر الشر.
ومن
صور العجز الفاشي بين الناس الإخلاد إلى الراحة وعدم الرغبة في العمل والاتكال
على الغير وعدم قبول العمل غير المريح. وكثير من الناس أصيبوا بوهم العجز، حيث
يتوهمون أنهم عاجزون معذورون، مع توفر القدرة والإمكانية لديهم إلا أنهم يتنكرونها
ويتجاهلونها، بسبب إيثارهم للراحة واعتيادهم على الكسل.
ومن
الكسل الكسل الفكري حيث لم يجتهد الإنسان في التفكير والبحث عن الحلول في مشاكله
بل وقف بهم التفكير عند حد عدّ المشاكل وتعظيم المعوقات، ويظن -ويصر على هذا الظن-
أن ما هو عليه من المشاكل ليس له حل، وإن كان هناك حل فمن عند الغير لا من عند
نفسه.
مدافعة
العجز باكتساب عوامل القوة
والحل
من كل ذلك أن يدفع المؤمن كل الأمور السلبية بكل المعاني الإيجابية التي وفرها
للعباد الذين يعرفون مدى رحمة الله وكرمه عليهم. فيَدُ الخير والعطاء من عند الله
مطلقة ممدودة مبسوطة، والشر والضيق من الله استثناء مقيد محدد. فمن عرف رحمة الله
لا يقنط ولا ييأس أبدا. {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا
الضَّالُّونَ} [الحجر: 56]
فبسبب
هذا كله رغّب النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يسعوا إلى اكتساب أسباب القوة.
فقد كان هذا الباب كله تحت العناوين الكبار التي يتضمنها هذا الحديث العظيم: «الْمُؤْمِنُ
الْقَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي
كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ»
وفقنا
الله وإياكم إلى كل خير.