إلى صديقي الذي لم يعجبه سقوط طاغية
وانتصار شعب (2)
كتبه: التهامي مجوري
عضو الاتحاد
العالمي لعلماء المسلمين
نظام وشعب..
النظام السوري المنتهي، نظام سياسي طائفي شمولي فاسد
بامتياز، لعله أكثر النظم العربية طغيانا وفسادا، رغم أن المُسوَّق عنه، أنه واحد
من أعمدة المقاومة في وجه الكيان الصهيوني، فيما يعرف بجيهة الصمود والتصدي
المعارضة للمبادرة المصرية التي انتهت باتفاقية الاستسلام والتطبيع، ابتداء من
"كامب ديفيد" مع نهاية السبعينيات وبداية ثمانينيات القرن الماضي،
وانتهاء بمبادرات التطبيع العربي مع الكيان، التي كانت بدايتها المُذِلَّة
اتفاقيات أوصلو المكملة والمتممة لكامب ديفيد.
ومما تميز به هذا النظام فغطى عن رذائله الكبيرة، أنه
يحتضن المواطن العربي كمواطن سوري تماما، وربما كان النظام الوحيد من يفعل ذلك، مع
النظام العراقي قبل سقوط صدام حسين، والنظام المصري كذلك في مرحلة معينة ولا أدري
ما إذا تغير الوضع أم لا؟ وقد زرت سوريا ومكثت ما بين سنتي 1978/1980، وتقدمت بملف
للبحث عن عمل، ولم يقل لي أحد من أين أتيت؟ أو إلى أين ذاهب؟ فإقامتي كانت مفتوحة
وسجلت في الدراسة كمواطن عربي مثل السوري تماما وأقمت كمواطن سوري...إلخ.
ولكن عندما اندلعت الأحداث في تلك الفترة، بعملية الكلية
المدفعية في حلب، أظن في جوان 1979، اكتشفت أنا شخصيا بشاعة هذا النظام، بسبب ما
رأيت من سرور وابتهاج بما ظهر من ارتباك في النظام يومها، حيث كانت التهمة جاهزة
وموجهة مباشرة من قبل وزير الداخلية إلى الإخوان المسلمين، ولكن بُدُوِّ البسمات
على وجوه الناس كلهم، توحي بأن أعداء النظام وخصومه في الشعب كثر وليس الإخوان
وحدهم، وكأن كل الشعب كان ينتظر هذا الفعل أو يتمناه أو أنه كان يخطط له بجميع
فئاته... تصوروا معي هذه الفرحة في سنة 1979...، فرحة اشترك فيها المسلم بالنصراني
والدرزي...، ولكن للأسف رغم هذا الإجماع الخفي بين أفراد الشعب
على رفض هذا النظام وعدم الارتياح له، فإنه لم يحقق ما يريد رغم الأنشطة المعارضة
في الداخل وفي الخارج وقوتها واستماتتها.
أما على مستوى علاقات هذا النظام مع النظم السياسية
العربية فإنه لا صديق له، ولا يكن لأحد من الأنظمة حبا أو وفاء، بل لم يكن صديقا
لأحد من النظم العربية كلها إلا من دخل في لعبته أو آمن بها، فهو نظام عربي، ولكنه
لم يعرف عنه وفاء لأحد، فقد دعم القذافي في معاركه مع غيره من المصريين
والتشاديين، وجيّش الجيوش على حدود الاردن، ونقل قواته إلى لبنان للمشاركة في
تصفية الحسابات هناك.
أما الشعب السوري فمن خيرة الشعوب المحبة للخير، شعب
أصيل في أخلاقه العالية وفضائله ومعاملاته مع ضيوفه العرب والمسلمين؛ بل إن الذين
أقاموا بسوريا للدراسة أو التجارة أو حتى للسياحة، لا يشعر بمظالم النظام التي
يعاني منها الشعب، بفضل العادات والتقاليد التي عرف بها الشعب السوري تجاه ضيوفه؛
بل إن القيم العلمية والثقافية والدينية أوضح ما تكون في الشعب وعاداته، ولذلك
عندما دخل الثوار دمشق أقيمت الصلاة في جامعة دمشق، فكانت تلك الصلاة بمثابة
التعبير عن عمق صلاح هذا الشعب، ومن رأى ذلك المشهد، لا يصدق أن هذا المجتمع كان
يحكمه نظام فاسد؛ لأن الأنظمة الفاسدة لا تنتج هذا النوع من البشر... ومع ذلك فإن
الحِلَق العلمية في بيوت العلماء لم تنقطع، بحيث تحولت إلى عرف عام وعادات معرفية
جارية في المجتمع السوري كله، فكل عالم له دورات علمية دراسية في بيته، فيستقبل من
الطلبة ما سمحت به ظروفه لتعليمهم...
فلم يكن من المعقول أن تستمر العلاقة بين شعب هذه هي
صفاته وطيبته وحسن معشره، مع نظام طائفي فاسد سيء الطبع والسريرة، ولكن قدر الشعب
السوري أن يعيش حياته لمدة جاوزت نصف قرن من المعاناة المزدوجة، معاناة الحفاظ على
الطيبة وحسن المعشر، في ظل تحولات كبرى في العالم تفرض على المستضعفين قيمها
الدخلية عليهم، ومعاناة في تحمل نظام هذه طبيعته ومسلكه المنحرف.
كان على هذا النظام ان يسقط لأنه غير ملائم لطبيعة الشعب
السوري أخلاقا وطيبة وحسن معشر، ولكن هذا الشعب المسكين قد حيل بينه وبين الخير
الذي استولى عليه هذا النظام الطائفي واستبعده من ساحاته الطبيعية... فأول ما حرص
عليه هذا النظام الطائفي، أن استولى على الجيش وحوله إلى جيش طائفي سبعين بالمائة
من عناصره من الطائفة العلوية، والباقي من الطوائف الأخرى المسلمين السنة والدروز
والنصارى... واستولى على مقدرات البلاد وحولها إلى ممتلكات خاصة بيد شرذمة من
أنصاره ومقربيه، حول المعرفة والقيم والسياسية والأخلاق كلها أدوات طيعة بيد الحزب
والمنظمات التابعة له ثم عبيدا للرئيس.
المعروف في التاريخ الوطني السوري، أن المعارضة السياسية
قد قضي عليها منذ اعتلاء آل الأسد الحكم، باسم حزب البعث العربي السوري، الذي لم
يبق منه إلا الشعار والعنوان، أما النظام والحزب فليس إلا طائفة أو قل عائلة من
هذه الطائفة، هي كل شيء، ولا وجود لأحد إلا في ظل هذا النظام المتعفن...، ففي ظل
هذا النظام أجبر الشيخ عصام العطار على مغادرة سوريا والعيش في الغربة في ألمانيا،
كما هجر عشرات الآلاف من طاقات المجتمع السوري، ليعيشوا في أوروبا وفي العالم
العربي، يشتغلون في قطاع التعليم، مثل الذين غادروا إلى الجزائر في بداية
استقلالها، والذين هاجروا إلى السعودية في عهد الملك فيصل رحمه الله... فمنهم
الإسلامي ومنهم الشيوعي ومنهم القومي، بل يوجد من إطارات الدولة السورية من قيادات
الجيش من "هرب بالروح" كما يقال ليعيش في العراق، مثل أمين الحافظ
وجماعته، ناهيك عمن بقوا في البلاد من السياسيين والدعاة ممن احتصنتهم السجون
عشرات السنين، ومنهم عائلة الأتاسي السياسية...
ومع ذلك لم يستسلم الشعب السوري للنظام الطائفي؛ بل صمد
في مواجهته بما يملك من قيم فاضلة وأعراف راسخة، ولم تهدأ الأوضاع في سوريا
يوما...، ولكنها "نار تحت الرماد" كما يقال، وظل الشعب يتحين الفرص...،
ومنذ استيلاء البعث على السلطة، والأحداث متتالية، فكانت أحداث جامع السلطان
احتجاجا على حكم البعث، ثم كانت أحداث الدستور، حيث احتج الشعب على الدستور الذي
وضع السلطة المطلقة بيد الرئيس، وتخللت هذه الأحداث قبلها وبعدها، حملات إذلال سجن
وقمع وتعذيب وتهجير...إلخ، ولعل بسبب ذلك كان اللجوء إلى النشاط المسلح ورفع
السلاح في وجه النظام، بتنظيم اغتيالات رموز النظام الفاسدة، ببعث تنظيم مسلح
"حركة الطليعة المقاتلة" بقيادة الشيخ مروان حديد سنة 1975، ولكن النظام
بقوة بطشه وعنفوان طغيانه قضى عليها... ثم لم تمض إلا سنوات قليلة حتى اندلعت
الأحداث من جديد، بعملية الكلية المدفعية في حلب في منتصف سنة 1979، لتنتهي بعد
سنوات بمذبجة حماة الشهيرة التي كانت حصيلتها القضاء على أكثر من أربعين ألف قتيل
وسبعة عشر ألف مفقود... أما عشرات الآلاف التي بالسجون التي كان يتفنن النظام في
صناعتها فلا تحصى ولا تعد، وقد كشفت الأحداث بعد سقوط النظام عن نوعية هذه السجون
وطبيعتها وحجمها بما يغني عن ذكرها في هذه الرسالة القصيرة لصديقي الذي يحن إلى
هذا النظام بعد سقوطه.
فنظام بهذه المواصفات كان لا بد من إزالته. صحيح أنه لا
يختلف كثيرا عن الأنظمة الاستبدادية الأخرى، ولكن ما تميز به هذا النظام أنه متستر
بقيم فاضلة أحاطت به وليست من جنسه، فطبيعة الشعب السوري وخيريته وثقافته أخفت
الكثير من مساوئ النظام، بحيث لا يظهر الاختلال في المجتمع، بسبب الخيرية الطاغية
على المجتمع السوري، وتبنى في خطابه الظاهر فكرة المقاومة التي هي مطلب جماهيري
واسع، فهو من المسكوت عن جرائمهم شعبيا بفضل ما يرى الناس من خير في اليوميات
السورية، ومدعوم من الأنظمة الداعمة للقضية الفلسطينية، مثل النظام الجزائري.
(..يتبع..)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء
المسلمين.