قبول تحالف فجر ليبيا المشارَكة في الحوار بعد نقله إلى الأراضي الليبية خطوة في الاتجاه الصحيح، وليس مقصود العنوان هذا التحالف وإنما فجر ليبيا الشامل الذي يعني وضع السلاح والمصالحة الوطنية الاجتماعية وبدء تأسيس إطار دستوري جامع من محطته التي اتفق عليها أو من مسار جديد.
ولعل الأوضاع الإقليمية الجديدة تساعد أنصار المشروع الوطني السلمي في كل الأطراف على العبور إلى هذه النتيجة، إضافة إلى التأمل الجاد في الخلاصات والخسائر المروعة لعمليات اغتيال الربيع العربي في أكثر من دولة من كلا الطرفين، من حلقة التحالف المركزي الشرسة لنقض الربيع ومن شركاء الربيع وأطيافه الفكرية التي مكنت أخطاؤها لهذا الاغتيال.
وعليه فإن الحراك الوطني الليبي بمجمله يحتاج لمدارسة عميقة وعاجلة تُثبت تصوره المرحلي ورؤيته الإستراتيجية وقرار خطواته التنفيذية دون تردد يتسبب في كارثة أو أزمة لا يمكن تلافيها، لو انهارت آخر آمال السلام الليبي.
ولكن المدخل سيكون عن طريق الإسلاميين، ليس لتحميلهم أوزار المرحلة وحدهم، ولكن لقدرتهم وشعبيتهم على الأرض التي تساعدهم وتساعد ليبيا الجديدة الجريحة على النهوض، وقبل أيام كتب أحد أهم شخصيات تويتر المحسوبين على جبهة النصرة السورية يقول إن حراك المجاهدين (الثوار) اليوم ينصب على قاعدة دفع الصائل وإسقاط النظام وليس التوافق على صيغة لتحكيم الشرع، فحتى الفصائل (الشرعية) تختلف على صيغة فقه الشريعة المراد.
هذه العبارة التي لم يكن يُتصور أن تصل إلى عناصر فقه السلفية الجهادية، الذين حاربوا المفكرين الإسلاميين على أصل هذا التفكير وخريطة تحقيق الشريعة بمقاصدها، وإزالة أكبر الضررين، وما يترتب عليها من مسار اجتماعي مقاصدي للإسلام في ديارهم وأوطانهم، لم تَصدر إلا بعد حصاد كارثي يعيشه الشعب السوري أمام مشروع قوي يزحف لتصفية الثورة بعد أن أُنهكت من أعدائها ومؤامرات بعض أصدقائها المزعومين ومن أمراء الحرب الجدد الذين صنعتهم أيديولوجيات عابرة متعددة للسلفية الجهادية، وأموال مرت بغطاء رسمي أو بدونه، فأسقطت هيكل الثورة الاجتماعي والعسكري وفتتت جسوره.
هذا هو الدرس الأول والمهم لفصائل الثوار الإسلاميين وقاعدتهم السياسية في ليبيا وأنصارهم من إخوان أو سلفيين أو مستقلين، يتعلق الأمر بكيف تُصاغ الرؤية للاستفادة من هذه الحقيقة المرة، وأين أخطأت فصائل الثوار الإسلامية، وكيف تُصحح حتى لا يتمكن العدو المتربص بليبيا من العودة بقوة وهو لم ينسحب بعد، وما موقف مفتي ليبيا في جولة اليوم، هل يَستدعي تاريخ التشريع الإسلامي الأصيل والعريق وفقه مدرسة الإمام مالك والمصالح المرسلة وكل اجتهاد أصيل يؤدي لمصالح الشعب، لكونه تحت المسؤولية أمام جميع أهل ليبيا وأمام الشارع قبله، أم يكون محصورا في إطاره السابق كمفت فقط لبعض المجموعات الثورية الإسلامية.
وهل هناك قدرة على صياغة قواعد تحالف جديدة يُشارك فيها ويقودها الإسلاميون مع شركاء وطنيين، أم أن دورة التصنيف الحاد ستعود لتفرق الصف الليبي من جديد، وكل ذلك مبني على قاعدة أصلية أو تساؤل جوهري هو:
هل قرر المشروع الإسلامي في ليبيا اليوم -الذي كانت فرصته أفضل من نظيريه في تونس ومصر- أن ينتهج صناعة فن الممكن للخروج بدولة دستورية تسمح له بشراكة سياسية يبشر فيها بفكر الإسلام ونهضته ويتحمل فيها موقف الرأي العام ولومه له والانتقال من أخطائه إلى جولة تصحيح هو أول من يحتاج إليها، أم أن الخيار لا يزال بالنسبة له هو نصرٌ نهائي في اعتقاده مع شركاء لم يتفق معهم على ما هو تطبيق الشريعة التي يُقاتلون عليها حتى آخر حجر من ليبيا، في حين تحتاج البلاد إلى اطمئنان ووعي وتصفية أفكار وإرث من عهد القذافي وما لحق به، ويحتاج الناس إلى أن يفقهوا شريعة المقاصد قبل أن يُقاتَلوا على ما يجهلون أو ما يجهله من يُقاتِلهم.
إذا تحررت هذه الفكرة -وهو ما أعتقد أنه يمثل شرطا لنجاح أي مشروع سياسي سيخوضه الإسلاميون لإنقاذ ما تبقى من ثورة ليبيا والسلم الاجتماعي للبلاد- فإن فيما تظهره خريطة الواقع الإقليمي والعربي مساحة يمكن أن تُستثمر نجملها في الآتي:
1- حديث اللواء حفتر عن أن مصر وأبوظبي مستمرتان في دعمه وأعطته ما يكفي لتصعيد الحرب واستمرارها، ليس ضرورة أن يُحقق ما يريده، فهناك احتمالات تحول درامي في الخليج خاصة في الرياض، يتمحور في ضرورة الانسحاب من حروب مطاردة الربيع العربي والإسلاميين إلى البيت الإقليمي الذي اجتاحته إيران.
2- الواقع الذي تعيشه مصر سواء في أعمال العنف ضد الجيش المصري في سيناء أو الانفجار السياسي الانتقامي الذي قادت إليه سياسة الرئيس السيسي باعتماد القتل السياسي المتطرف لمدنيي المعارضة، يُعطي رسائل مهمة لحلفاء سياسيين ليبيين انخرطوا مع مشروع حفتر، وتعزز فكرة انسحابهم منه ومن مشروع إمارة "أبو ظبي"/القاهرة، وارد جدا.
3- الخشية لدى دول المغرب العربي من أن استمرار الحرب الليبية سيؤثر عليها وخاصة المغرب الحليف التاريخي للرياض، يُشجع على هذه المصالحة.
4- مجمل الموقف الدولي في الغرب انتهازي مصلحي، لكن ذلك لا يمنع من قبوله وتشجيعه لمصالحة خشية من امتدادات عنف تؤثر عليه في أرضه وعلى خريطته الإقليمية الأمنية في المنطقة وصعود داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) والقاعدة وبوكو حرام.
إن مهمة التوافق الوطني في ليبيا هي تجميع العناصر للنجاح وليس للمزايدات على المواقف السياسية، وأهمية الانسحاب لفريق محمود جبريل من خريطة حفتر الحربية المدمرة هي على عاتقه وعاتق الفريق الوطني معه الذي يتحمل مسؤولية دعمه السياسي.
دون هذا التجانس وشعور كل طرف بالحاجة إلى خريطة طريق مدنية تُنقذ ليبيا، وتسمح لعداد التعبير الانتخابي أن يعود وينظم خلافات الليبيين، فإن هذه الفرصة قد تنهار ويعود هذا الواقع الخطير، الذي قد يتفجر من جديد وتصبح ليبيا خارج سيطرة حتى الأطراف التي عبثت بها، وتلك مسؤولية كل الأطراف الوطنية الليبية، التي ضاعت بعد حكيمها مصطفى عبد الجليل، في مزايدات على مساحة سياسية قضاها بعض الوطنيين اضطرارا تحت حكم القذافي وضُيعت مصالح كبرى للشعب باسمها.
كما أن المغرب العربي مهما اختلفت توجهاته مدعوّ لتفعيل دوره الإقليمي لتشجيع خريطة الطريق المدنية، لتحقق اختراقا تستقر عبره كل بلدانه، ويُفسح المجال لشراكة الإسلاميين في المغرب وتونس لدعم ورعاية هذه المصالحة، فليبيا بين فتح باب الجحيم وإشراقة الفجر الجديد الذي ينقذها، وينقذ من حولها.