تفكيك منظومات الاستبداد (٤٦): أيها الإسلاميون..
دعوها فإنها منتنة
بقلم: جاسر عودة
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
الانحياز إلى الهويات القومية والوطنية من أكبر عيوب
الذين يعملون للإسلام اليوم من خلال العمل الإسلامي المنظم، بل أرى أن انحياز المسلمين
-وخاصة صفوتهم من (الإسلاميين)- إلى الهويات القومية والوطنية يحتل مركز القلب من مآسينا
كأمة إسلامية، من أكبرها إلى أصغرها، بدءًا من مأساة غزة الهائلة، إلى خبر اليوم المؤسف
بقرار حكومة لبنان بتسليم الأخ والصديق والشاعر الأستاذ / عبد الرحمن يوسف القرضاوي
إلى أمراء الإمارات ليقتلوه.
أفهم أن المواطنين البسطاء المغرر بهم في بلادنا الإسلامية
يعتبرون أن هويتهم الوطنية هي أعمق أعماق وجودهم، حسب الدويلة التي ينتمون إليها -وكل
العالم الإسلامي دويلات-، ولعل لهم عذرًا من غسيل المخ الذي حدث لآخر جيلين أو ثلاثة
من آبائهم على مدار المائة سنة الأخيرة أو تزيد، والذي لوث عقولهم بأفكار من أمثال
أن وحدة المسلمين السياسية أصبحت جزءًا من التاريخ، وأن العالم أصبح عبارة عن دول
(حديثة) ذات شعب وأرض وسيادة، وأن الحدود الوطنية مسألة (طبيعية) لأنها رُسمت لتحقيق
مصالح قومية عرقية معينة، وأن على الدولة الوطنية أن تعمل لمصالح شعبها فحسب -هكذا
يدّعون كذبًا على أي حال-، وأن ما عدانا من دول وشعوب يعتبرون (أجانب)، وإن كان بيننا
وبين بعضهم روابط من اللغة أو الدين أو النسب أو غيرها، إلا أنها روابط ثانوية لأننا
في دولتنا شيء ومن سوانا شيء آخر. قتلانا غير قتلاهم، وأسرانا غير أسراهم، ومصالحنا
غير مصالحهم، وجيشنا غير جيشهم، وجنسيتنا غير جنسيتهم، وهويتنا غير هويتهم.
لا أستغرب أن يفكر البسطاء المغرر بهم هكذا، وهذا
التفكير الجاهلي -بالمناسبة- هو في عمق التخاذل المصري العام لغزة العزة، ولو شاء المصريون
أن ينصروهم لفعلوا، ولكن استخفهم المستخفون بفكرة حماية (حدودنا) و(دولتنا) و(مصالحنا)،
وأن رفح الغربية في ما يسمى بـ (جمهورية مصر) غير رفح الشرقية في ما يسمى بـ (فلسطين)
لأن هذه دولة وهذه دولة مختلفة، وأن أفضل ما يمكن أن نقدمه في هذه (الأزمة) -هكذا يقولون-
هو أن نرسل (مساعدات) إلى (إخواننا) في (فلسطين الشقيقة)، إلى آخر هذا الهراء. أفهم
كيف وصل الوعي الإسلامي في مصر -كمثال على دول العالم الإسلامي- إلى هذا المستوى المتدني
بعد قرن من (البروباجندا) القومية الزائفة في عشرات الصور والوسائل. وقد شهدتُ هذه
العصبيات الجاهلية الزائفة والانتماءات إلى تلك الكيانات السياسية الوهمية التي خطها
أعداؤنا ببساطة على الخريطة منذ بدايات القرن العشرين ليقطعوا بها أوصالنا، شهدتها
في صور كثيرة في طول العالم الإسلامي وعرضه، من غرب أفريقيا إلى شرق آسيا، ومن وسط
أوروبا إلى وسط أفريقيا، ولم يعد مستغربًا أن نشهد هذه العصبيات الضيقة الوهمية في
سلوكيات العامة، فقد عم بها البلاء.
لكنني أستغرب أشد الاستغراب -بل أستنكر أشد الاستنكار-
أن يفكر من يعملون للإسلام من أحزاب وجمعيات ومؤسسات إسلامية هكذا! كيف يستساغ أن ينظر
حزب يدعي أنه (إسلامي) -والإشارة اليوم إلى (الإسلاميين) في تركيا تحديدًا- على أننا
حزب قومي نعمل في دولة قومية، وأننا نتكرم ونتفضل على غيرنا حين نتضامن مع قضية فلسطين
-التي هي دولة مختلفة-، أو مع الأحزاب الإسلامية (الأجنبية)، أو مع الشخصيات الإسلامية
(الأجنبية)، أو نستقبل لاجئين مسلمين (أجانب) من هنا أو هناك، أو نرسل مساعدات للمستضعفين،
أو نحاول الوساطة بين متخاصمَين من (الأجانب) ولو كانوا مسلمين. كيف يستساغ أن ينظر
العامل للإسلام إلى العالم هكذا؟ أو أن تكون هوية العامل للإسلام الأعمق هي العصبية
القومية التي قال عنها النبي ﷺ: (دعوها فإنها منتنة)؟!
هذا غير مقبول، ولا يمكن أن ننتصر كأمة إسلامية إلا
أن يتخلص الإسلاميون من هذا العيب الخطير، وتصبح -حقيقة لا رياء- كل بلاد الإسلام سواء
في قلوبهم، لا فرق بينها وبين بلدهم القومي الذي فرضته معادلات السياسة الحالية، وأن
يصبح كل مسلم أو مسلمة أيًا كان أخ أو أخت له مثل ابن بلدته الذي هو من قبيلته أو عنصره
أو لونه سواء بسواء، بل لا يستساغ إلا أن يكون ابن الإسلام الذي ينافح عن قضايا أمته
أقرب لي من ابن بلدي الذي لا يلتزم بالإسلام ولو كان من عائلتي. إذا لم يصل أنصار الإسلام
إلى هذا الشعور الإسلامي الأخوي فلنقل على قضايا الأمة الإسلامية السلام، ولنسلّم لمستر
سايكس الإنجليزي ومسيو بيكو الفرنسي بالانتصار علينا وهما اللذان بدءآ تقسيمنا إلى
تلك الدويلات الوهمية المتفرقة برسم حدودها بأقلامهم على الخريطة، فإذا بنا نسلم بعضنا
البعض للموت -بدءًا من غزة وانتهاء بعبد الرحمن القرضاوي- بناء على الحدود الوهمية
التي رسموها!
وأتفهم أن النظم السياسية الوطنية حتمت على الأحزاب
(الإسلامية) أن ترفع شعارات وطنية وأن تحرص إذا كانت في الحكم على المصلحة الوطنية،
إلى آخرها، ولا مانع من هذا العمل من أجل الصالح الوطني، بل يؤجر عليه الأخ المسلم
العامل للإسلام لأنه نوع من الإصلاح في حدود الاستطاعة، ويكون كما قال شعيب عليه السلام:
(إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت - هود ٨٨). إلا أن المعيار الحقيقي لإسلامية وصدق وتجرد
هذه الشخصيات والأحزاب (الإسلامية) هو حين يتعارض الرصيد السياسي الوطني مع الواجب
الإسلامي. هل نقدم الواجب الإسلامي فنعتبر أن الأخ الفلاني الذي هو من (دولة) مختلفة
كأبناء بلدنا سواء بسواء؟ وماذا لو منحناه جنسية بلدنا ورحبنا به مواطنًا كامل الحقوق؟
هل نقسم الجنسيات إلى درجة أولى ودرجة ثانية حسب العرق والعنصر أم نعامل المواطنين
كلهم على سواء؟ هل نحمي الأخ المسلم الذي لجأ إلينا بنفوسنا ونذود عنه كما نذود عن
أهلينا وأبناء عنصرنا وقوميتنا لأنه أخ مسلم في ذمة الإسلام؟ أم سنتبع العصبية المنتنة
ونفرّق بينه وبين أبناء عنصرنا وقوميتنا وننظر إليه على أنه أجنبي و(ضيف) يحمّلنا ما
لا نطيق ويثقل علينا وهو مجرد (وافد) علينا ليس إلا؟
الحق أنه لا فلاح لهذه الأمة الإسلامية إلا أن تتخلص
من هذه الجاهليات العفنة، وأن يقودها (الإسلاميون) -ولن يقودها سواهم- إلى أن تتجاوز
غسيل المخ وطمس الهوية الذي مرت بها أجيالها الأخيرة، وذلك بأن يضربوا المثل لغيرهم
أن الإسلام هو الأم والأب، وأنه لا انتماء يعلو عليه. ورحم الله والدنا وأستاذنا الشيخ
يوسف القرضاوي، والد الأخ عبد الرحمن فك الله أسره الذي هو شاعر فحل مقدام كأبيه ومن
شابه أباه فما ظلم، وقد كتب أستاذنا قصيدته المشهورة بعنوان (مسلمون مسلمون مسلمون)
فكان مما قال فيها:
يا أخي في الهند أو في
المغربِ ** أنا منك، أنت مني، أنت بي
لا تسل عن عنصري عن نسبي
** إنه الإسلام أمي وأبي
إخوة نحن به مؤتلفون ** مسلمون مسلمون مسلمون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*
ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.