كثيرا ما كان يخطر ببالي ضمن أحلام اليقظة، أو تخيلات السرحان: أن بإمكان الشعب المصري أن يسقط رئيسه - لو أراد - بدون انتخاب أو تظاهر أو ثورة أو انقلاب أو اغتيال، لو أن الساقي الذي يناول الرئيس كوبا ليشرب، والطباخ الذي يعد له طعاما ليأكل، والسائق الذي يقود سيارته، والحاجب الذي يقف على بابه، والجندي الذي يحرس موكبه، لو أن كل هؤلاء وغيرهم تركوا أعمالهم في خدمة السلطان، وذهبوا إلى حال سبيلهم. لن يجد أحدا يتأمَّر عليه، أو يتسلَّط ببعضنا على البعض الآخر.
ولما كان كل هؤلاء باقين في أعمالهم، لا عجب أن يبقى النظام على تسلطه.
وصلت إلى قناعة شخصية قبل 25 يناير، وهي: لا أمل في تحقيق الأحلام الكبيرة في بلد مثل مصر. فعلى المواطن أن يودع أحلامه في عيش كريم، وشوارع نظيفة، ومرور منظم، وتعامل إنساني كريم من السلطات الحاكمة في وطن حر، فضلا عن أحلام الوحدة العربية، أو الخلافة الإسلامية، أو تحرير القدس وفلسطين، ليس لعدم لشك في تحققها ذات يوم، ولكن لعدم وجود بارقة أمل لها في عمرنا القصير.
كانت معارضة النظام - أو بالأحرى مناكفة النظام إذ لا يرقى سلوكنا لمستوى المعارضة الحقيقية – هي نوع من تأدية واجب لا يشكر من قام به، أو نوع من إرضاء الضمير، أكثر منه إيمانا بأن هذه المناكفة ستؤدي إلى تغيير، إنها بلغة القرآن: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:164]. إنها نوع من عمل المعروف وإلقائه في البحر، نوع من "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها"، أما الأوضاع التي كانت راهنة، فتحتاج إلى معجزة من السماء، وقد ولى زمن المعجزات.
لم تكن تفاصيل المستقبل لتحدث فرقا كبيرا، يبدو مستقبلا أسود قاتما، ولا ضوء في آخر النفق. سواء طال عمر حسني مبارك عقدا آخر من الزمن، أو تحولت مصر إلى إمارة أو سلطنة أو مملكة مباركية، وتولى ولي العهد جمال مبارك، أو تولى اللواء عمر سليمان، أو تولى غيرهما أمر مصر، فنحن نسير من سيئ إلى أسوأ. فقط من باب حفظ الكبرياء الزائف، كنا نحاول أن نبدو متأكدين من أن جمال مبارك لن يرثنا ضمن تركة أبيه، لكن كيف؟ الله أعلم.
تعايش (المناكفون) للنظام في العصر الغابر مع متاعب (المناكفة)، مراقبة التليفونات، تعطيل الأعمال، المنع من الوظائف، الاستدعاء لأمن الدولة، أن يبيت الواحد منهم في منزله وهو لا يدري هل سيصبح فيه أم في زنزانة من زنازين أمن الدولة، لا سيما في مواسم الانتخابات والأزمات السياسية.
هنا يمكن الإجابة عن سؤال: ماذا قدمت ثورة 25 يناير؟
لقد وهبت المصريين الحرية التي يبحثون عنها من قديم، منذ أن قطع القبطي المصري المسافة من الفسطاط إلى المدينة ليشكو ابن الوالي عمرو بن العاص، وسمع عمر بن الخطاب وهو يقول لعمرو: مذ كم تعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرار؟! مرورا بأحمد عرابي وهو يقول للخديوي توفيق: لقد خلقنا الله أحرارًا، ولم يخلقنا تراثًا أو عقارًا؛ فوالله الذي لا إله إلا هو، لا نُورَّث، ولا نُستعبَد بعد اليوم. وحتى ثورة 25 يناير التي نادت جموع الشعب فيها: الشعب يريد إسقاط النظام. النظام الذي يستعبدهم، ويصادر حريتهم، وينهب ثرواتهم، ويسرق أموالهم، ويفعل بهم وفيهم ما يريد، بلا رادع من دين أو ضمير، وبلا رقابة من مؤسسات أو مجتمع.
نعم ظلت الأوضاع بعد الثورة كما هي قبل الثورة، شوارع القاهرة مملوءة بالقمامة والقاذورات، فوضى في حركة السير والمرور، فساد مستشرى في جميع القطاعات، أجهزة أمن بنفس هياكلها وعقيدتها، تكاد تكون كل المظاهر كما هي، على رأي المواطن المصري الفصيح: والنظام هو هو.
المتغير الوحيد الذي قدمته الثورة للمصريين هو: الحرية، الحرية وكفى، إحساس المواطن أنه أخيرا أصبح مواطنا حرا، كما في أوربا والدول المتقدمة، يقول ما يريد، ويفعل ما يشاء، ويختار ما ومن يشاء، من غير خوف من سلطان، أو آذان الحيطان، أو الرمي وراء القضبان. قد يكون المواطن فقيرا أو مسكينا، لكنه شعر لأول مرة أن رأسه برأس الضابط والمدير والوزير ورئيس الجمهورية، وأنه غير مطالب بتقديم فروض الولاء والإذعان لأحد كائنا من كان.
هذا الإحساس وحده كان كفيلا بأن يرد الأمور المعوجة إلى نصابها، كان كفيلا بأن ينظف البلد حسا ومعنى، بأن يقضي على الفساد والرشوة والمحسوبية، بأن يطهر أجهزة الدولة التي أصابها العفن، ويعيد تأسيسها على أسس صحيحة.
لقد أحيت الثورة الناس من موات، وأعطتهم حرية الحلم - التي وأدها النظام المستبد - بوطن حر ديمقراطي حديث متقدم يحترم حقوق الإنسان.
ولكن فرحة ما تمت.