البحث

التفاصيل

بواکیر التحوّل المصرفي في باكستان: بشائر خيرٍ في أفق الاقتصاد الإسلامي

الرابط المختصر :

بسم الله الرحمن الرحيم

بواکیر التحوّل المصرفي في باكستان: بشائر خيرٍ في أفق الاقتصاد الإسلامي

بقلم: عبد الوهاب سلطان الديروي

 

تلوح في أفق الاقتصاد الباكستاني بشائرُ خيرٍ تُوحي عن حركة تحولٍ نحو الصيرفة الإسلامية. هذا التحول الذي ينبئ بغدٍ مشرقٍ يأخذ في طريقه ليس فقط المؤسسات المصرفية، بل يمتد ليشمل أيضاً المؤسسات المالية غير المصرفية. ممّا يبعث على التفاؤل أن مؤسسات الحوكمة لكلا القطاعين -المصرفي وغير المصرفي- تُظهر جدّيةً وحرصاً على مسيرة التحول وأسلَمة المؤسسات وتُزوّدها بإرشاداتها التنظيمية والتوعويّة.

        واستبشرت باكستان في الفترة نفسها وبعد زمان بجملةٍ من الأخبار السارة التي أسفر عنها التعديل السادس والعشرون (في شهر أكتوبر 2024م) الذي جرى على الباب الثاني من الدستور، والمختص بمبادئ السياسة التوجيهيّة (Principle of policies)، حيث نصّ صراحةً على أن الربا محكومٌ عليه بالإلغاء الكامل في البلاد بحلول عام 2028م، هكذا مضروباً بهذا الميعاد الذي يحدّد نهاية موعدها في حين كانت الصيغة السابقة تنصّ عليه بكلمة: "في أقرب وقت ممكن".

        من نافلة القول بأنّ الربّا بجميع أشكاله محرّم تعاطيه بنصوص الكتاب والسنة التي تأسّس على مرجعيّتهما الدستور الباكستاني، كما أنّ "قرار المقاصد" الذي يصرّح على تنبنّي الإسلام أساساً لدستور جمهورية باكستان الإسلامية قد عاد جزءًا جوهريًا من الدستور بموجب المادة (2-أ).

فضلاً عن المادة (38-و) التي كانت تُلزم الدولة بالقضاء على الربا "في أقرب وقت ممكن"، وصارت بعد التعديل الدستوري السادس والعشرين (في أكتوبر 2024م) مقيّدة بإلغاء الربا بحلول عام 2028م.

۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔

وإذا احتكمنا إلى تعليقات علماء الشريعة والقانون والاقتصاد في هذا المنظور فإنّ هذا التعديل يعكس أمنيةً طالما عبّر عنها الشعب الباكستاني، تماماً كما تؤكّدها الإحصائيات التي أجراها البنك المركزي في دراسة (KAP) الإحصائية التي أجراها المصرف المركزي الباكستاني وهي تقيّم حجم الطلب على الصيرفة الإسلامية في البلاد لكلا الفئتين من العملاء: الأفراد (Retail) والشركات (Corporate)، وتوصّلت بعد استبيانها الشامل إلى أنّ:

"94.51% من المستجيبين الذين لديهم حسابات مصرفية (Banked) يعتقدون بحرمة الفائدة، و88.41% يعتبرون أن الممارسات الحالية للفائدة في البنوك محرّمة. ولا تختلف النتائج كثيرًا بالنسبة للمستجيبين الذين ليس لديهم حسابات مصرفية (Non-Banked)، بل هي أكثر وضوحًا؛ حيث إن أكثر من 98% منهم يعتقدون بحرمة الفائدة، بينما يعتبر أكثر من 93% أن الفائدة التي تفرضها البنوك وتدفعها محرّمة".

وذكرت الدراسةُ نفسُها أن تطبيق النظام المصرفي اللاربويّ سيُؤدّي أيضاً إلى تحقيق الشمول المالي (Financial inclusion) للأغلبيّة الساحقة من الشعب الباكستاني، وذلك إلى حدّ تعبيره: " بالنسبة لأولئك المهتمين بتقليل الاستبعاد المالي (Financial Exclusion)، فهذا يعني بالضرورة التركيز على شريحة الطلب المكبوت التي هي حاليًا خارج نطاق الشبكة المصرفية (Banking Net) ولكنها تُظهر طلبًا على الصيرفة الإسلامية. بالنسبة لهؤلاء العملاء من الأفراد والشركات، يمكن استخدام الصيرفة الإسلامية كأداة لتعزيز الشمول المالي في البلاد"

۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔

ومن ثَمّ، فإنّ هذه الخطوة الدستورية جاءت في وقتها المناسب، ولتدعم في الوقت نفسه قرار المحكمة الشرعية الفيدرالية السابق الذي قضى بإلغاء الربا في 28 أبريل عام 2022م. وقد تمخض حكم المحكمة عن الصلاحيّة التي يخوّلها الدستور الباكستاني للمحكمة الشرعية الفيدرالية (FSC) ودائرة الاستئناف الشرعي، وهي تحديد ما إذا كان أي قانون ساري المفعول في باكستان يتعارض مع أحكام القرآن والسنة، فإن المحكمة الشرعية الفيدرالية تملك كامل الصلاحية لإلغاء ذلك القانون بموجب المادة (203-د/2) من الدستور.

وقد سبق أن أصدرت المحكمة ذاتها قراراً مماثلاً لإلغاء الربا سابقاً، ولكن كما يرى الخبراء والمحلّلون فإنّ بعض الجهات السياسية الدينية لم تستطع التعاون مع هذه المحاكم والدوائر الشرعية في الماضي لأسباب أو أخرى مع الأسف، كما لم تُحسن الاستفادة من هذه المادة التي تفتح أبواب أسلمة القوانين الباكستانية بمصراعيها.

ولكنّ الذي يُبشّر بالخير أنّها استطاعت الآن بفضل الله تعالى تدارك بعض ما فرطت فيه. وذلك من خلال هذا التعديل الدستوري الأخير الذي يخدم الكثير من مصالح الأسلَمة من خلال تحديد ميعاد القضاء على الربا وتنشيط مؤسّسات الأسلَمة بما فيها مجلس الفكر الإسلامي (CII) والمحكمة الشرعية الفيدرالية(FSC)، ومن ثمّ أثنى مفتي باكستان وأكبر روّاد الأَسلَمة في باكستان والقاضي الأسبق لدائرة التمييز الشرعي في المحكمة العليا الباكستانية الشيخ محمد تقي العثماني على دور مولانا فضل الرحمن (قائد جمعية علماء الإسلام) الذي كان له الدور الأبرز في اتخاذ هذا التعديل الدستوري وسيلةً لخدمة مصالح تنفيذ الشريعة في باكستان.

وهكذا فإنّ التعديل الدستوريّ أعطى دفعةً جديدةً للجهود السابقة المستمرّة التي كانت تبذلها الجهات الحوكميّة والإشرافية والقضائية والتعليميّة والأكاديميّة، وعلى رأسها المصرف المركزي الباكستاني.

۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔

عودا على بدء، فقد تقرّر بما سبق أنّ النظام الدستوري في باكستان هو الذي يفرض على الدولة التحوّل من النظام المصرفي التقليدي إلى النظام المصرفي الإسلامي، ولاسيّما بعد القرار بالإجماع الصادر عن المحكمة الشرعية الفيدرالية في 28 أبريل 2022. ولتحقيق هذا الهدف، يتوجب على الدولة إلزام جميع البنوك التقليدية بتحويل نموذجها المصرفي إلى نموذج مصرفي إسلامي قائم على الأصول.

في هذا السياق، شهدنا وما زلنا نشهد موجةً واسعةً من التحول نحو الصيرفة الإسلامية تحت مظلة البنك المركزي الباكستاني، ممثلاً في شعبته المعنيّة بسياسات التمويل الإسلامي وتطويره (IFPD/IFDD) حيث أصدرت إرشادات تنظيمية (Guidelines) في 28 يونيو ثم في تعميمه الشامل الأخير في غرة شهر أكتوبر للعام الجاري 2024م، لترشيد البنوك التقليدية في مسيرة تحوّلها وتبنّيها للصيرفة الإسلاميّة في إطار جدول زمنيّ معيّن. هذا التوجيه على مستوى الحوكمة الرشيدة للمصارف خطوةٌ جديرة بالإشادة في الطريق إلى الخروج من تحدّي الحرب التي أعلنها الله مع متعاطي الربا ثم إلى تحقيق مضمون الدستور ومن ثَمّ تجسيد حلم مؤسس باكستان، القائد محمد علي جناح، الذي أعلن في خطابه الافتتاحي للبنك المركزي بأنّه يسعى لتطبيق نموذج الاقتصاد الإسلامي في باكستان، خاصة بعدما شهد العالم سوءات النظام الرأس مالي وجرّب اضطهادَه.

وليست حركة التحول هذه وليدة اليوم؛ بل قد بدأ فقد كانت الخطوة الأولى في هذا المسار منذ تأسيس أول مصرف إسلامي كامل، وهو مصرف "ميزان المحدود" في عام 2002. ومنذ ذلك الحين، شهدت الساحة المصرفية الباكستانية حوالي خمسة مصارف إسلامية كاملة وفتح نوافذ إسلامية في العديد من المصارف التقليدية.

وأكّد التقرير الربع السنوي للمصرف المركزي الباكستاني للعام 2024م أنّ: حصة الأصول والودائع للصناعة المصرفية الإسلامية في إجمالي الصناعة المصرفية بلغت 19.9 بالمائة و23.2 بالمائة على التوالي. كما بلغت الحصة السوقية لكل من التمويل الصافي والاستثمار الصافي للصناعة المصرفية الإسلامية في إجمالي الصناعة المصرفية 28.0 بالمائة و16.3 بالمائة على التوالي بحلول نهاية مارس 2024، ومازال يشهد نموّاً متصاعداً والحمد لله.

ووفقًا لمذكرة بحثية لوكالة فيتش (Fitch Ratings)، قد تصل أصول المصارف الإسلامية إلى 25% من إجمالي الأصول المصرفية (Banking Assets) في المدى المتوسط، وهو ما يقل عن هدف المصرف المركزي الذي يسعى لرفع هذه النسبة إلى 30% بحلول عام 2025م.

ولتحقيق هذه الأهداف، دعا المصرف المركزي البنوك التقليدية إلى التحوّل إلى الصيرفة الإسلامية.

وقد بدأت المصارف بالتحول فعلاً، فقد جاء التحول الأكبر عندما قرر مصرف فيصل التحول الكامل إلى الصيرفة اللاربوية في ديسمبر عام 2022. وقد تحقـق هذا التحول في غضون ست سنوات، واجه خلاله المصرف عقبات وتحديات، لكن إدارة مصرف فيصل استطاعت تجاوزها بإيمان وهمة وطموح، ما جعلها نموذجاً يُحتذى به لبقية المصارف.

وإذا درسنا تجربة مصرف فيصل وما يشاكله من المصارف في نفس التجربة فإنّها تدلّ أنّها بعد تحوّلها حقّقت مستوى أفضل في الربحيّة، فضلاً عمّا ستنالها من بركات الحلال بإذن الله تعالى.

اليوم، ومع مضيِّ عدة مصارف باكستانية أخرى على نفس المسار للتحول، يتوقع الجميع أن نسمع قريباً عن إعلان خطط التحول الكامل من قِبل المزيد من المؤسسات المصرفية. ويبدو أن رحلة الأسلَمة للنظام المصرفي قد بدأت تأخذ منحىً جاداً وثابتاً، بإذن الله تعالى، نحو مستقبلٍ اقتصادي أكثر انسجاماً مع الشريعة الإسلامية.

وفي سياق موازٍ، أصدرت هيئة الأوراق المالية والبورصة الباكستانية (SECP) توجيهاتٍ إرشادية مماثلة للشركات المالية غير المصرفية ضمن إفصاحها للعام 2023، لتؤكّد بذلك رغبة جميع الأطراف في السير على خطى التحول نحو نظام مالي متكامل، يتماشى مع الأحكام القيم الإسلامية الأصيلة.

۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔

غير أن السؤال الأهم الذي يطرح نفسه هو: هل يكفي تحول المصارف والمؤسسات المالية غير المصرفية نحو نموذجٍ إسلامي خالٍ من الربا لتحقيق أسلمة النظام المالي للدولة؟ بطبيعة الحال، الجواب هو لا؛ لأن النظام المصرفي ما هو إلا جزء من النظام الاقتصادي الشامل، وليس النظام نفسه.

وعليه فنحن بحاجة إلى خطوات أشمل تتجاوز القطاع المصرفي. الاقتصاد الوطني ما زال مرتبطاً بالقروض الداخلية والخارجية، مما يستدعي تحويلاً جذرياً في مصادر التمويل والاستثمارات الحكومية نحو الطرق المشروعة. والحلول الشرعيّة يمكن توفيرها إذا جدّ الجدّ وصدق الطلب على المستوى الحكوميّ.

ولعل الحكومة قد بدأت بالفعل اتخاذ خطوات أولية في استبدال سندات الخزينة الربوية بالصكوك المتوافقة مع الشريعة، لكن ربّما حجم سوق السندات والأوراق المالية التقليدية مازال يفوق سوق الصكوك بعشرة أضعاف أو زيادة، وهذه الفجوة تتطلب وقتاً كافياً لسدّها. وتوفير الأدوات الماليّة المناسبة لتحلّ محلّها وهنا يجب الاستعانة بخبراء الشريعة والاقتصاد الذين تزخر بوجودهم الدولة ويتمتّعون بتجربة ثريّة لترشيد الحكومة في موضوع أسلَمة الاقتصاد.

بالإضافة إلى ذلك، فإن جهود المصرف المركزي وحدها لا تكفي؛ بل ينبغي لجميع الوزارات والمؤسسات الحكومية والمصانع والشركات أن تعلن التخلّص من آفة الربا ثمّ تتبنى بإيمان وإخلاص وجدّية النموذجَ المشروع لاستقطاب الأموال وتمويلها واستثمارها وفي سائر نشاطاتها التجاريّة. ولا ريب أنّ دون ذلك خرط القتاد. ولكن ما دامت رغبة الشعب موجودة ومتحقّقة، فإنّه لا يبقى إلاّ أن يتعاون معها العمل الحكومي المكثّف والإرادة السياسية القوية والتوعية الإعلاميّة، فإنّها المفتاح لأسلَمة جميع هذه الجوانب، ولو بشكل تدريجي.

وكلُّنا أمل أنّها إذا تظافرت ستساعد في تقدّم مسيرة باكستان نحو نظامٍ اقتصادي إسلامي متكامل يحقق العدالة الاجتماعية والتنمية الحقيقيّة الملموسة، ويجعلها نموذجاً يُحتذى به بين الأمم والشعوب، تماماً كما تمنّاها مؤسّسوها الأوائل. وما ذلك على الله تعالى بعزيز.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

✍. عبد الوهاب سلطان الديروي؛ وأستاذ بجامعة دار العلوم كراتشي، وعضو هيئة الرقابة الشرعية لمصرف خيبر، باكستان.

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.


: الأوسمة


المرفقات

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع