كنت مرافقا له في زيارته لمصر بدعوة من شيخ الأزهر أحمد الطيب، لحضور اللقاء التحضيري للملتقى العالمي السادس للرابطة العالمية لخريجي الأزهر.
لم يكن الشيخ القرضاوي غافلا عن تاريخ شيخ الأزهر، غير أنه أراد مساعدته على أن تكون المشيخة حدا فاصلا بين أحمد الطيب عضو لجنة السياسيات، وأحمد الطيب الإمام الأكبر، لكن هيهات، لا تجدي مساعدة الآخرين شيئا، إذا لم يساعد المرء نفسه. وتوفيرا لجهد المتوقفين دائما عند توافه الأمور (كتكلفة تذاكر الطيران والإقامة): لم تكن تكلفة المؤتمر على حساب مشيخة الأزهر، ولا الحكومة المصرية، وإن كانت الدعوة موجهة من الأزهر.
كانت الجلسة الأولى يوم (25 يناير 2011م)، وأغلقت القاهرة كلها أو كادت، الطرق مسدودة، والشوارع مقطوعة بحواجز ضباط الشرطة وجنود الأمن المركزي، وبعد انتهاء الجلسة التحضيرية في المشيخة، ظلت السيارة المقلة للشيخ تدور وتدور حتى تجد سبيلا إلى الفندق الذي ينزل فيه، (فندق جراند حياة)، على مشارف ميدان التحرير، وقبيل الفندق أحاط الشباب بسيارة الشيخ، وهم يهتفون: (يا شيخنا.. بلدنا). وما شابهها من هتافات. حيا الشيخ الشباب ولوح لهم وانصرف.
ولذا حين يتحدث الشيخ عن شباب الثورة وسلميتهم، وأنه ليس بأيديهم حجر ولا عصا ولا سيف ولا بندقية، فهو يتكلم عما رآه بعينيه على غير ترتيب، لا عما سمعه من هنا أو هناك.
انقضى اليوم بوفاة أربعة شهداء في السويس، واتصل صحفي من جريدة الشروق بالشيخ عن طريق وسيط يطلب تصريحا من فضيلته ينشر يوم جمعة الغضب (28 يناير)، ثم عاد واتصل مباشرة بغرفة الشيخ، صبيحة مغادرته إلى الدوحة، كان الشيخ صريحا واضحا من أول يوم: "حيا الانتفاضة المباركة للشعب المصري، دعا للاعتبار بدرس تونس، أكد مطالب الشعب في الحرية والكرامة، وصف المتظاهرين بالأحرار وأنهم أبناء مصر، دعا للتعامل الحضاري مع المتظاهرين، استنكر ضيق أفق الحكومة، حرم إطلاق الرصاص على المتظاهرين، دعا لعد الاعتداء على الشرطة، أكد أن دماء الشهداء لن تضيع هدرا، وستكون الشرارة، دعا الحكومة إلى التعقل والاستجابة".
وفي مساء الجمعة (28 يناير) كان للشيخ تصريح قوي على قناة الجزيرة، وفي صبيحة يوم السبت (29 يناير) طلب الشيخ من أحد مساعديه في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين صياغة بيان حول جمعة الغضب، وما سقط فيها من شهداء، فجاءت صياغة البيان فاترة لا تناسب جلال الموقف، فلم تعجب الشيخ القرضاوي، وقال بكل حسم: إما أن نصدر بيانا قويا، أو لا نصدر بيانا على الإطلاق.
قيل للشيخ: هناك أمور متفق عليها، كحق المواطنين في التظاهر، وعدم الاعتداء على المتظاهرين، وعدم تخريب الممتلكات، وما شابه ذلك من مطالبات. وهذه أمور محل اتفاق من الجميع، حتى إن أمريكا بجلالة قدرها، لم تحسم أمرها، وتضع رجلا هنا، وأخرى هناك، والأمور لم تحسم بعد.
فرد بحسم: ونحن لسنا أمريكا.
وفي نفس اليوم وجه الشيخ القرضاوي على قناة الجزيرة يوم السبت (29 يناير)، ثلاث كلمات، كلمة للشعب، وكلمة للجيش، وكلمة لحسني مبارك طالبها فيها بالرحيل صراحة.
لم يكن الشيخ يراهن على المنتصر، بل كان يراهن على المبدأ، ومن ثم قال ما قال، وصرح بما صرح، على مسؤوليته باعتباره عالما مسلما مصري الأصل، حتى لقد قال له القائلون: لقد أحرقت سفنك بمصر يا فضيلة الشيخ!
توالت أحداث الثورة، وتوالت معها تصريحات الشيخ وبياناته المكتوبة والمسموعة والمرئية وخطبه.
حدثنا بعد صلاة ظهر أحد أيام الثورة عن أحد معارفه وقد اتصل به ليطلب منه أن يدعو المتظاهرين لمغادرة التحرير! احتد الشيخ عليه وردَّ ردًّا قويا، وتأسف أن يصدر هذا منه، بدلا من أن يذهب هو وأسرته إلى ميدان التحرير!
حرص أحد الجالسين أن ينقل للشيخ الوضع كما يتصوره في مصر، فقال: هناك قطاع من المصريين المخلصين، المعارضين لمبارك، يخافون على مستقبل البلد، ويدعون إلى الحوار، حتى لو استمر المتظاهرون في الميدان. تأسف الشيخ بشدة أن يسمع من المتكلم مثل هذا الكلام، ثم استرضاه بعد ذلك.
اتصل به أحد معارفه وهو في ميدان التحرير، فكلمه الشيخ واطمأن عليه وعلى الشباب الثائر، وأخبره المتحدث أن إلى جواره السفير رفاعة الطهطاوي، المتحدث الرسمي باسم الأزهر، فكلمه الشيخ وحيا موقفه ومشاركته، رغم حساسية منصبه، وطلب منه أن يكلم شيخ الأزهر ليؤيد الشباب الحر في الميدان، فردَّ الرجل ردًّا يقطع أي بارقة أمل في موقف إيجابي يصدر من شيخ الأزهر: أنت في وادٍ يا فضيلة الشيخ، وهو في وادٍ آخر!
لم يدَّعِ الشيخ أنه من صنع الثورة، أو أطلق شرارتها، غير أنه من أول يوم كان لها ظهيرا ونصيرا، وكان عليها أمينا، كان مع الثورة بكل كيانه، بل قبل أن يتبين أنها ثورة، وكان يريد أن ينزل للمشاركة ولو رمزيا في أحداثها، وكان على تواصل مع رموز الميدان من تيارات مختلفة، يستشيرهم في توقيت نزوله لمصر، وقد عقد العزم على السفر في يوم الخميس (10 فبراير)، ومبارك لا يزال في الحكم، ولم يثنه إلا مشورة أهل الميدان، أن يُرجئ النزول للجمعة القادمة، حتى لا يساء تصوير مشاركته من قبل النظام.
تنحى مبارك، ونزل الشيخ خطيبا في التحرير خطبة النصر المشهودة، ومن يخطب إذا لم يخطب هو؟ نزل ليبارك للثوار بانتصار ثورتهم، لا ليركب ثورتهم ولا ليحتكرها، ثم عاد إلى مكتبه وكتبه وأوراقه بالدوحة، لم ينزل ليكون مرشدا ولا قائدا ولا زعيما، كما صور من اعتاد الكذب والتلفيق منذ عقود.
درس الانقلابيون الثورة، والعوامل التي ساعدت في نجاحها حق الدرس، وكان أحدها هو تأثير الشيخ القرضاوي وتصريحاته وخطبه وبياناته وفتاويه في الشباب الثائر، ومن ثم وضعوا الخطة لإبطال عوامل النجاح واحدا تلو الآخر، وفيما يخص الشيخ اعتمدت خطة التشويه المبكر، فمرة: عودته كعودة بالخوميني. ومرة: حرس القرضاوي يمنع وائل غنيم من صعود المنصة. ومرة: القرضاوي يطمع في تولي مشيخة الأزهر. ومرة: القرضاوي يطرد من قطر. ومرة ... ومرة ... حتى إذا قاموا بانقلابهم، لا يعود لتصريحاته أثرها القديم كما في ثورة (25 يناير).