البحث

التفاصيل

ميثاق المدينة ودستور الهند.. عدلٌ يجمع، وتنوّعٌ يرفع

الرابط المختصر :

ميثاق المدينة ودستور الهند.. عدلٌ يجمع، وتنوّعٌ يرفع

بقلم: الدكتور محمد أعظم الندوي

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

(بمناسبة 26 يناير، عيد الجمهورية، السادس والسبعين في الهند)

التاريخ هو مرآة الأمم، ينبض بالحياة كلما أمعنا النظر فيه، وليس مجرد أحداث تُروى أو نصوص تُحفظ، إنه مصدر لا ينضب من الدروس التي تُعلّمنا كيف نبني مستقبلًا أكثر عدلًا وإنسانية، القيم الإنسانية الكبرى، كالعدل والمساواة والإخاء، ليست شعارات برّاقة تُرفع في المناسبات، بل هي قواعد أساسية تقوم عليها المجتمعات المزدهرة، ومع ذلك، فإن تحويل هذه القيم إلى واقع عملي لم يكن يومًا سهلًا، بل هو تحدٍّ مستمر عبر الأزمان.

في هذا السياق، يُعدّ ميثاق المدينة (Constitution of Madina) إحدى أبرز المحطات في تاريخ الإنسانية، جاء هذا الميثاق في زمن كانت فيه الجزيرة العربية تعيش تحت وطأة العصبيات القبلية والصراعات الدينية، وقد جاء النبي محمد ﷺ بهذا الميثاق ليؤسس نظامًا جديدًا، يضع العدل والمساواة فوق كل اعتبار، وينظم العلاقات بين أفراد المجتمع على أسس من الاحترام المتبادل والحقوق المتساوية.

ميثاق المدينة لم يكن مجرد اتفاق بين أطراف متنازعة، بل كان رؤية متقدمة لمجتمع يضمّ مختلف الأعراق والديانات، يتعايشون في سلام وعدل، لم يُلغِ هذا الميثاق الاختلافات الثقافية والدينية، بل احتفى بها، وضمن لكل فئة حقها في ممارسة عقائدها بحرية، بل وأقرّ حقوق الأقليات التي لم تعرفها المجتمعات من قبل.

الميثاق كان أيضًا نموذجًا للدولة الحديثة التي تحترم القانون وتُعلي من قيمة الإنسان، نصّ على الدفاع المشترك عن المدينة، وعلى معاقبة من يعتدي على أمن المجتمع، بغض النظر عن دينه أو قبيلته، هذا الميثاق لم يكن فقط خطوة نحو بناء مجتمع جديد، بل كان درسًا خالدًا في كيفية بناء الوحدة من التعدد.

أما في أوروبا، فقد جاء الميثاق الأعظم (Magna Carta) بعد ذلك بقرون، وتحديدًا في عام 1215، كان هذا الميثاق نتيجة لضغوط مارسها النبلاء على الملك جون، للحد من سلطته المطلقة وضمان بعض الحقوق، ورغم أنه يُعتبر خطوة مهمة في تاريخ العدالة الأوروبية، إلا أنه كان محدودًا للغاية، إذ اقتصر على حماية مصالح فئة بعينها، وهم النبلاء، دون أن يشمل عموم الشعب، بخلاف شمولية ميثاق المدينة.

وهنا يتجلى الفرق الجوهري بين الوثيقتين، فبينما كان ميثاق المدينة وثيقة شاملة تضع حقوق الجميع في الاعتبار، كان الميثاق الأعظم أشبه بتسوية سياسية تخدم طبقة اجتماعية معينة، الأول أرسى قواعد العدالة والمساواة، بينما اكتفى الثاني بتقييد السلطة المطلقة للحاكم.

وعندما ننتقل من التاريخ الإسلامي والأوروبي إلى التاريخ الحديث، نجد أن الهند بعد استقلالها عام 1947 واجهت تحديًا مشابهًا لما واجهته المدينة المنورة قبل قرون، كانت الهند، وما زالت، مجتمعًا متعدد الثقافات والديانات، يضمّ اليوم أكثر من مليار نسمة من مختلف الأعراق والأديان، وقد كان التحدي الأكبر هو: كيف يمكن بناء دولة حديثة تُحافظ على هذا التنوع دون أن يصبح مصدرًا للصراعات؟

جاء دستور الهند عام 1950 ليكون وثيقة جامعة، تحمل قيم العدالة (Justice)، الحرية (Liberty)، المساواة (Equality)، والإخاء (Fraternity)، دستور الهند لم يكن مجرد نص قانوني، بل كان انعكاسًا لطموح أمة تسعى إلى الوحدة في ظل التنوع، من خلال مواده المختلفة، وخاصة المواد (29) و(30)، ضمن الدستور حقوق الأقليات، وأعطاها الحرية في الحفاظ على لغتها وثقافتها ومؤسساتها التعليمية.

لكن المبادئ العظيمة دائمًا ما تواجه اختبارات صعبة، فاليوم، تتعرض روح دستور الهند لتحديات جسيمة مع تصاعد الحركات الطائفية التي تسعى إلى فرض هوية واحدة على هذا البلد المتعدد، حركة راشتريا سويم سيفاك سانغ (RSS) هي ابن بجدتها، هذه الحركة لا ترى في التنوع مصدر قوة، بل تعتبره تهديدًا يجب القضاء عليه.

المسلمون في الهند، الذين كانوا ولا يزالون جزءًا أساسيًا من نسيجها الثقافي والاجتماعي، يواجهون تحديات كبيرة، مدارسهم تُتهم زورًا بأنها معاقل للتطرف، أوقافهم تُصادر، وقوانين الأحوال الشخصية الخاصة بهم تتعرض لضغوط وتدخلات تهدد استقلاليتها بالقانون المدني الموحد الذي تم تفعيله في بعض الولايات.

ولكن، هل يكون الرد على هذه التحديات بالصراخ أو بالعزلة؟ بالطبع لا، الرد الحقيقي يكمن في العودة إلى القيم التي أرساها ميثاق المدينة، تلك القيم التي ترفع من شأن العدالة والتسامح.

على المسلمين في الهند أن يتبنوا نهجًا إيجابيًا يقوم على التعليم والعمل الجاد، التعليم والاطلاع على الحقائق ومكامن الأمور هو المفتاح الأساسي لتحقيق التقدم، وهو السلاح الأقوى في مواجهة الجهل والتعصب، يجب على المسلمين أن يُركزوا على تطوير نظامهم التعليمي، وأن يُنشئوا مؤسسات قوية تُسهم في بناء مجتمع متوازن.

كما يجب عليهم أن يكونوا جزءًا من الحل، لا أن ينفصلوا عن المجتمع، عليهم أن يُظهروا للعالم أنهم ليسوا عبئًا، بل هم قوة إيجابية تُساهم في بناء وطنهم.

أما القوى التي تسعى إلى تقسيم المجتمع، فعليها أن تُدرك أن الظلم لا يدوم، التاريخ مليء بالأمثلة على أن الأمم التي تبني قوتها على التفرقة والتمييز، مصيرها السقوط، كما نشاهد نماذجها كل يوم في مختلف البلدان، العدالة ليست فقط قيمة أخلاقية، بل هي ضرورة لبقاء أي مجتمع.

ميثاق المدينة ودستور الهند يمثلان أكثر من مجرد وثيقتين قانونيتين؛ هما دعوة دائمة لكل أمة تبحث عن العدالة، إنهما تذكرة بأن التنوع يمكن أن يكون مصدر قوة، إذا ما أُدير بحكمة، الهند بحاجة إلى العودة إلى روح دستورها، والمسلمون بحاجة إلى العودة إلى روح ميثاق المدينة، ودستور الهند بطبيعة الحال.

وليعلم الجميع حكومة وشعبا أن الحق دائمًا ينتصر، لكنه يحتاج إلى من يحمل مشاعله ويُدافع عنه بالصبر والعمل، اليوم، لدينا فرصة لنكون دعاة للسلام، بناة للوطن، وحماة للعدالة، فلنعمل معًا، ولنُظهر للعالم أن التنوع هو سرّ قوتنا، وأن العدل هو الطريق الوحيد نحو السلام.

 

ـــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.


: الأوسمة


المرفقات

السابق
أديس أبابا.. الاتحاد ينظم دورة علمية بعنوان: "خارطة النظر الفقهي" أطرها الأستاذ الدكتور فضل مراد

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع