لو كنا في ظروف طبيعية، ولو أن مصر هي مصر الحقيقية، لكان حسام عيسى، المناضل الناصري القافز من قطار الثورة إلى حافلة الانقلاب، وعبد الجليل مصطفى، المنسحب من النضال الوطني بميدان التحرير إلى عيادته الخاصة على أطراف الميدان، ومحمد أبو الغار، المحارب السابق دفاعا عن الديمقراطية والحريات، لكان هؤلاء الثلاثة على وجه الخصوص يقودون ثورة طلاب الجامعات، المشتعلة ضد احتلال "فالكون" ساحاتها الآن.
الثلاثي السابق أفنى كل منهم سنوات من عمره في النضال، من أجل جامعة مصرية حرة مستقلة، ومن خلال حركة 9 مارس لاستقلال الجامعات التي قادوها مع آلاف من الأساتذة والمدرسين الأحرار، خاضوا معارك حامية الوطيس ضد الهيمنة الأمنية على الجامعة على مدار العقود الماضية، منذ السبعينيات وحتى استيلاء عبد الفتاح السيسي على حكم مصر، بمعاونتهم، للأسف.
أتذكر أنه في نوفمبر/تشرين الثاني 2010، وقبل اندلاع ثورة يناير بشهرين فقط، تحصّل مناضلو حركة 9 مارس على حكم قضائي من المحكمة الإدارية العليا بجلاء حرس وزارة الداخلية عن الجامعات، وإعادتها إلى أصحابها الحقيقيين، الطلاب والأساتذة، وبعدها توجه وفد من الأساتذة الأجلاء، في مقدمتهم الدكتور عبد الجليل مصطفى والدكتور رضوى عاشور، إلى جامعة عين شمس، لتوعية الطلبة بضرورة استمرار النضال حتى تنفيذ الحكم، فما كان من إدارة الجامعة إلا أن استدعت مجموعة من البلطجية، اعتدت على الأساتذة والطلاب بالضرب، حتى سالت الدماء، ودمعت عيون مصر كلها على تلك الإهانة البالغة للتعليم كقيمة عليا، وللجامعة كحرم مقدس.
إذن، الذين قادوا النضال من أجل إنهاء وجود الشرطة بين الطلاب والأساتذة في 2010، يكتفون بالفرجة، الآن، على تنكيل واحدة من الشركات المتخصصة في تجارة القمع، والمرتبطة بمنظومة أمنية واستخباراتية عالمية، وهي تحتل الجامعات المصرية، وتمارس أفعالا مع الطلاب والأساتذة، لا تختلف كثيرا عن ممارسات قوات الاحتلال ضد أصحاب الأرض.
بل إن الأكثر مدعاة للأسف أن من الذين صنعوا مجدهم الوطني من النضال، من أجل حرية الطالب والأستاذ والجامعة، من يقف في الصفوف الأمامية لشركة "فالكون" الآن، إن لم يكن بجسده، فبقلبه ولسانه.
لقد علمنا هؤلاء المستقيلون من تاريخهم أن الأصل في الجامعة المصرية أنها بلا حرس، فمنذ بدأ التعليم الجامعي عام 1908 وحتى 1954 لم يكن هناك شيء اسمه سيطرة أمنية على الجامعة، ومن منتصف الخمسينيات حتى عام 1971 عادت الجامعات إلى قبضة الحرس، حتى تم إلغاؤه مرة أخرى عام 71، ليعود أكثر سيطرة وشراسة منذ 1981 وحتى الآن.
والآن، الجامعات منتهكة، والطالبات مغتصبات على أبوابها، والطلبة تسيل دماؤهم في معركة الحرية والكرامة، بينما يكتفي سادة الكفاح الجامعي بالتثاؤب، أو ترديد الرواية الأمنية الانقلابية الساقطة عن أن طلاب "الإخوان" يثيرون الشغب ويصنعون القلاقل، بينما واقع الأمر أن الطلاب النبلاء يخوضون معركة باسلة، بدأها شيوخٌ، قرروا أن يجلسوا القرفصاء في حضرة سلطان الانقلاب، ويؤدون فريضة تخلف عن أدائها كثيرون ممن تربحوا سياسياً واجتماعياً من الظهور في باحاتها. وكما قلت بالأمس إن "فالكون" هي المعبر الأمثل عن السلطة الحاكمة في مصر، وأن الطلاب وحدهم، وقبل الجميع، المؤهلون لزلزلة الأرض تحت أقدام سلطة انقلاب الدم والمهانة.
وها هي بشائر الجيل الطالع تلوح، إذ سقطت أسطورة "فالكون التي لا تقهر"، أمس، في ست ساعات، أمام إرادة جيل قرر أن يخلص لأحلامه، وينتزع حريته، وقريباً سيحرر وطناً.