أولا : إدارة أزمة الرسوم التعريف والماهية .
قبل الدخول في تفاصيل هذه الورقة أحببت أن أبدأ بتعريف العنوان الذي اخترته لها فالحكم على الشيء فرع عن تصوره ، وسوف نبيّن ذلك عبر النقاط التالية :
1. مصطلح الأزمة وعلاقة ذلك بجريمة الرسوم المسيئة .
الأزمة في اللغة هي الشدة والقحط ، وأصل الأزمة من الأزم وهو شدة العَضّ بالفم كله ، قال ابن فارس رحمه الله : وأما الهمزة والزاي والميم فأصل واحد ، وهو الضيق وتداني الشيء من الشيء بشدة والتفاف .
وهذا المصطلح له استخدامات اصطلاحية في فنون عدة، والذي يعنينا منها ونريد أن نستثمر مفرداته في فهم حقيقة إدارة أزمة الرسوم المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم ، هو حقيقة هذا المصطلح في علمي الإدارة والاجتماع .
ففي علم الإدارة تدور معاني هذا المصطلح على المعاني الآتية :
معنى التهديد للمصالح ، والمقاصد العليا ، والقيم الكبرى ، وعليه فالأزمة عند علماء الإدارة ليست حادثاً عرضياً أو سحابة صيف - كما يقولون - بل هي أمر خطير يهدد مصالح الأفراد ، والمؤسسات ، وقد يصل تهديده إلى المقاصد والأهداف العليا ، وقد ينتج عنه تغيير للقيم الكبرى .
معنى التتابع ، فالأزمة هي نتاج لتتابع قضايا معينة وقد تبدأ صغيرة ولكنها مع الاستمرار يزداد حجمها وتكبر _كمحصلة كرة الثلج _ وتنتهي بأصحابها إلى طريق مسدود .
معنى الصراع مع الزمن ، أو ما يعبر عنه بضغط الزمن فمن خصائص الأزمة في علم الإدارة أنها لا تحتمل التأخير ، ولا تنتظر القرارات الروتينية البطيئة ، بل تحتاج إلى قرار صحيح في الوقت الضيق المحدود ، وذلك لأنّ التأخّر في مثل هذا القرار قد يؤدي إلى زيادة حجم الأزمة ، وينتهي بها إلى حالة من الأزمات المتراكبة المتراكمة .
هذه هي أهم المعاني والدلالات التي يركز عليها علماء الإدارة في تخصصهم الحديث المسمى "علمَ أو فن إدارة الأزمات" ، وهم لا يتعاملون مع أي حدَث على أنه أزمة إلا إذا توافرت فيه هذه المعاني أو بعضها .
أما الأزمة عند علماء الاجتماع فلها دلالات ومعان كثيرة أهمها أن الأزمة هي تلك القضايا التي تعرض البناء الاجتماعي الواحد للخطر بسقوطه أو تصدعه ، ومن ثَمّ فهُم يدرسون الأزمات ليتعرفوا على آثارها على واقع العلاقات الاجتماعية السائدة ويتأملون في مدى انعكاسها على المكونات المختلفة والمتعددة للمجتمعات .
كما أنهم يركزون على ردود الأفعال الاجتماعية تجاه الأزمات والتي قد تتسبب في تدمير وتحطيم العلاقات الاجتماعية المستقرة في مجتمع ما .
هذه خلاصة المعاني التي يدور عليها مصطلح الأزمة في علمي الإدارة والاجتماع .
فإن أردنا أن ننظر من خلالها إلى حادثة الاعتداء المتكرر على مقام النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم فإننا سنجد أن هذه الجريمة السافرة تتمثل فيها حقائق الأزمة لدى علماء الإدارة وعلماء الاجتماع معاً.
فإذا نظرنا إلى هذه الجريمة في ظل دلالات الأزمة عند علماء الإدارة فإننا سنجد فيها تهديدا حقيقيا لمقاصد الوجود الإسلامي في الغرب بما تثيره وترسخه من مفهوم للحرية يبيح الاعتداء على مقدسات المسلمين وقيَمهم العليا دون أي قيود أو حدود .
وهي كذلك حلقة في سلسلة متتابعة من الإساءات برزت على هيئة قصص وروايات كما فعل سَلْمَان رُشْدي ، وعلى صورة محاضرات وتصريحات كما فعل بابا الفاتيكان الحالي ، أو على صورة أفلام ومسلسلات ومسرحيات ونحوها أو رسوم وفنون وغير ذلك من أشكال التعبير، وعليه فأزمة الرسوم المسيئة ليست بحادث صغير ارتكبه بعض الحمقى والمجانين وإنما هي حلقة في سلسلة خطيرة من الإساءات والاعتداءات على مقام النبوة الكريم .
وهي كذلك أزمة تتأثر بعنصر الزمن، ثم إنّ التأخر عن اتخاذ الاجراءات والقرارات المناسبة لحلها سيؤدي حتماً إلى وقوع المزيد من أمثالها .
وإذا نظرنا كذلك إلى أزمة الرسوم من خلال معايير الأزمات عند علماء الاجتماع فإننا سنجدها أزمة حقيقية بكل المعايير الاجتماعية وذلك لأنها تهدد العلاقات الاجتماعية السائدة في المجتمعات الغربية بين أطياف التعدد الديني والمذهبي وهو تهديد يعرض البناء الاجتماعي -والذي يشكل المسلمون جزءً هامّاً فيه - لخطر التصدع والسقوط ، أما إذا نظرنا من زاوية ردود الأفعال الاجتماعية المتوقعة تجاه هذه الأزمة فإننا سنصل إلى نتيجة مفادها أننا نخشى من ردود الأفعال من جميع مكونات المجتمعات الغريبة وخاصة من المسلمين وما يقابلها من ردود أفعال العنصريين ما يمكن أن ينتج عنه تحطيم كامل للعلاقات الاجتماعية المستقرة بين فئات المجتمعات الغربية بأجمعها .
2- هل حادثة الرسوم أزمة أم مشكلة ؟
يفرق أهل الاختصاص من العلماء في دراسة الأزمات بين الأزمة والمشكلة ، فالمشكلة عندهم هي كل عائق يقف أمام تحقيق الأهداف ، وهذا العائق إذا لم يتغلب عليه الإنسان فإنه سيكون بمثابة البداية التي تمهد لوقوع الأزمة .
فكل مشكلة اتخذت مساراً معيناً إذا لم تعالج فإنها سوف تتداخل وتتشابك مع عناصر أخرى وتتعقد لتنتقل بعد ذلك إلى مرحلة الأزمة .
وعليه فإنه لا يمكن وصف كل مشكلة بأنها أزمة وإنْ كان لكل أزمة مشكلة ، والذي يتأمل في قضية الرسوم المسيئة سيعلم علم اليقين أنها ليست مشكلة صغيرة تحل باعتذار أو تبرير من جهة من الجهات المسؤولة عنها، وإنما هي مشكلة معقدة تقف وراءها جهات متعددة ترجو من وراء إحداثها وإبرزها أن تحقق الأهداف التي تحلم بها كل الجماعات العنصرية المتطرفة وعلى رأس ذلك: التخلص من ثقل الوجود الإسلامي على الساحة الغربية أو إذابته في بوتقة أفكار هذه الجماعات وأرائها .
ثانياً : طبيعةُ أزمةِ الرسومِ المُسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم
إنَّ عمليَّةَ إدارةِ أزمةِ الرسوم المُسيئةِ للنبي -صلى الله عليه وسلم -، يَتَوَقَّفُ نجاحُها على مدى إدراك القائمين على هذه الإدارة لطبيعة هذه الأزمة وحدودها الحقيقية، فالنّاسُ عادةً ينقسمون في تقييم الأزمات بمقدار اختلافهم في تحديد طبيعة الأزمة ونوعها ، ولعلَّنا نذكُرُ بعضَ المُحدِّدات والمعايير - على سبيل التمثيل لا الحصر - التي يمكن من خلالها أن نرسم لوحةً كاملةً أقرب إلى حقيقة وطبيعةِ هذه الأزمة .
المعيار الأول : نوع ومضمون أزمة الرسوم .
أي هل هي أزمة فكرية ( تعود لجانب فكري يتعلق بفلسفة الحرية الشخصية ) كما يزعم بعض أصحابها والمدافعين عنها من دعاة العلمانية والحداثة ؟ أم أنَّها أزمةٌ أخلاقيةٌ سلوكيةٌ تعود لأزمة فقدان الأخلاق والأدب والتوقير الذي تعاني منه الشعوب الغربية تجاه الأنبياء والرسل وذلك بسبب سيطرة الفلسفة الإلحادية المادية على أكثر مكونات هذه المجتمعات ومصادر توجيهه الأساسية من الإعلام والفن وما الإساءة التي تعرضت لها السيدة مريم وابنها المسيح -عليه السلام -في عدد من الأفلام عنا ببعيدة .
أم أنها أزمة دينية تعود لبعض التوجهات الدينية المتعصبة ضد المسلمين والتي تسعى إلى نشر الخوف بين أبناء المجتمعات الغربية على مصير أوروبا النصراني في مقابل التمدد الإسلامي فيها.
أم هي أزمة سياسية تعود لتحقيق بعض المكاسب السياسية المؤقتة التي يريد اليمين المتطرف تحقيقها على الساحة الأوربية .
المعيار الثاني : النطاق الجغرافي لأزمة الرسوم .
أي هل هذه الأزمة محصورة في مكان وبقعة محددة كفرنسا أو الدنمارك مثلاً ؟ أم أنها ممتدة في كل الدول الأوروبية ذات التمدد اليميني المتطرف ؟ أم أنها تمتد على كافة التراب الأوروبي ؟ .
والجواب عن هذا الأسئلة من الأهمية بمكان، إذ أن تحديد النطاق الجغرافي للأزمة يبنى عليه تحديد حجم الأزمة الذي يحدد مقدار العمل المطلوب لمواجهاتها ، ولذا فالذي يتعامل مع أزمة الرسوم على أنها أزمة وقعت في الدنمارك فقط مثلا ولا ينتبه إلى امتدادها إلى النرويج ومن ورائها الدول الاسكندنافية ، ومن بعدها فرنسا وبعض الدول الأخرى التي سمحت بإعادة نشر الرسوم المسيئة لا يمكنه أن يخطط تخطيطاً صحيحاً لمواجهة أزمة بهذا الاتساع وهو ينظر فقط إليها على أنها أزمة فرنسية أو لا غير .
المعيار الثالث : الحجم الحقيقي لأزمة الرسوم .
إذا كُنَّا نوقن بأنَّ الإعلام وخاصةً في أوربا هو جزءٌ أساسي في صناعةِ الأزمات بما يبذله من طرق وأساليب تجعلُ -الحَبة قُبة- كما يقولون ، وأنَّ لديه القدرة على النفخ في الأقوال والأفعال والأخلاق القليلة الشاذة عن السياق العام للمجتمع ليجعل منها حقيقة كبيرة على أرض الواقع ، فعلينا عندها أن لا نقع في هذا الشرك ونحنُ نُقَيِّمُ أزمة الرسوم وحجمها الحقيقي .
والسؤال هنا: هل قضيةُ الرسوم تُمَثِّلُ سلوكاً لقاعدةٍ عريضةٍ من أبناء المجتمعات الأوربية أم أنَّها لا تُمثِّلُ إلا فئةً قليلةً شاذة عن السياق العام لهذه المجتمعات ؟ .
إذا استطعنا أن نُجيب على هذا السؤال بعلميَّةٍ وموضوعيَّةٍ نستطيع عندها أن نُحَدِّدَ حجم الأزمة وأن لا نُكَرِّرَ الخطأ الذي صنعناه في التعامل مع قضية سلمان رشدي ، عندما نفخنا فيه الروح وأظهرناه للعالمين وهو نكرة لم يكن لأحد أن يسمع به لولا ردود الأفعال غير المدروسة التي أعطته الفرصة ومكَّنَتهُ من الظهور على الساحة الإعلامية لفترة طويلة .
المعيار الرابع : طبيعة أطراف الأزمة .
فمن الضروري أن نُحدد طبيعة الأطراف التي تَقِفُ وراء هذه الإساءة وتُدافِعُ عنها وتُرَوِّجُ لها، ولتحديد طبيعة هذه الأطراف - التي صنعت هذه الأزمة - علينا أن نُجيب على مجموعةٍ من الأسئلة المنهجيَّة التي تُساعِدُنا في تحديدِ هُوية هؤلاء، ومن ذلك السؤال عن المستفيدين منها، والمؤيدين لها ، والمساندين لأصحابها ، وغيرهم ممن يقفون في خندق الاعتداء على مقام النبوة ويدافعون عنه بكل قوة وعزيمة .
إنَّني أخشى من عدمِ وضوحِ الإجابات على كُلِّ هذه الأسئلة أن ننتظر الحل ممَّن هو جزءٌ من المشكلة .
وعليه فإنَّنا نحتاجُ إلى دراساتٍ ميدانية تُبَيِّنُ لنا طبيعةَ هذه الأطراف الصانعةِ للأزمةِ، وهل هُم مجموعات منظمة على الساحة الأوروبية تجمعهم ناظمة واحدة أم أنهم لم يصلوا بعد إلى التخطيط المشترك والتعاون بينهم على الإثم والعدوان .
ثالثاً : عِلمُ إدارةِ الأزماتِ وإدارة أزمة الرسوم .
علمُ إدارة الأزمات علمٌ مستقلٌ ، وهو جزءٌ من العلوم الإداريّة الحديثة ، وقد تبلوَرَ وأصبحَ علماً مستقلاً بعد الأزمة التي تسبب بها الاتحاد السوفيتي في عام 1962 ، عندما نصب صواريخه المتوسطة المدى في كوبا ، ومنذ ذلك الوقت أطلقت أمريكا اسم "علم إدارة الأزمات" على التخطيط والإدارة المتعلقة بكيفية التعامل الصحيح عند الأزمات .
ولعلماء الإدارة تعريفات متعددة ومتنوعة لهذا لعلم، فمنهم من عرّفه بأنه علم إدارةِ مالا يمكن إدارته ، والسيطرةِ على ما لا يمكن السيطرة عليه، وبعضُهم عرّفه بأنه القدرة على التنبّؤ بالأزمات المحتملة والتخطيط للتعامل معها والخروج منها بأقل خسائر ممكنة .
ولعل أقرب التعريفات التي يمكن أن نستفيد منها في إدارة أزمة الرسوم هو الذي يعرف إدارة الأزمات بأنها كيفية التغلب على الأزمة بالأدوات العلمية الإدارية المختلفة وتجنب سلبياتها والإفادة من ايجابياتها .
وهذا التعريف مبني على أساس أنَّ كل أزمةٍ تحمِلُ في طَيَّاتِها مُقوِّمات نجاحها وأسباب فشلها ، وأنه ليس بالضرورة أن تتصف كل أزمة بالسوء، فلربما حملت الأزمة معها من الإيجابيات التي لا يمكن لنا أن نستثمرها إلا بحسن إدارتها .
وبناء على التعريف المختار لعلم إدارة الأزمات يمكننا أن نقرّب المقصود بقولنا إدارة أزمة الرسوم وأننا نقصد بذلك كيفية التغلب على أزمة الرسوم وآثارها بالأدوات العلمية والإدارية الصحيحة مع معرفة كيفية التجنب لكل السلبيات الناتجة عن هذه الأزمة مع القدرة على الاستفادة من إيجابياتها .
رابعاً : أهميَّة الحديث عن أزمة إدارة الرسوم .
تنبعُ أهمية الحديث عن إدارة أزمة الرسوم من كون التعامل مع هذه الأزمة - وفقَ الأُسُس المنهجيَّةِ العلميَّةِ - يُعينُنَا بعدَ فضلِ الله وعونه في التَّغَلُّبِ عليها بل قد يُمَكِّنُنَا من التحكُّمِ في مسارها مع تَجنُّبِ سلبياتها والتقليل من آثارها إضافةً إلى الاستفادة القصوى من إيجابياتها .
وعليه فأهميَّة هذا الموضوع تنبعُ من كونِهِ يُمَثِّلُ صورةً من صُور الإحسان والإتقان الذي أُمرنا به في ديننا وحثّنا عليه رسولنا -صلى الله عليه وسلم- بقوله إنَّ الله كتب الإحسان في كل شيء، ونذكّر هنا ببعض النقاط التي تُعينُنَا على إدراك أهمية تناول هذا الموضوع بشكلٍ علمي ومنهجي:
1- إن استخدم المنهج العملي كأسلوب للتعامل والتفاعل مع الأزمات لا تنبع أهميتة من كونه يحقق نتائج إيجابية فقط - أي لا تنبع أهمية لأنه يجلب المصالح فقط - ولكن أهميته تتضح بضده، فالتعامل غير العلمي البعيد عن المنهجية الصحيحة في مواجهة الأزمات يتسبب على الدوام في مفاسد كثيرة وقد تكون كبيرة ومدمرة لجهود عظيمة .
والخلاصةُ أنَّ أهميَّة إدارة أزمة الرسوم تتحقَّقُ فيها القواعد الأصولية المتعلِّقَة بالمصالحِ والمفاسدِ على وجه العموم، وقاعدة أنَّ درء المفاسد مُقَدَّمٌ على جلب المصالح على وجه الخصوص.
2- إنَّ طبيعة الأزمات كما يقولون: إنَّها نقطة انعطاف فكل أزمة تحمل في طياتها الفرص والمخاطر والذي يعيننا على أحسن استثمار للفرص ، وأسلم طريق لتجنب المخاطر هو هذا العلم فهو العلم الذي يبين لنا بوضوح كيف نخطط ونحسن الإدارة المطلوبة مع كل الأزمة .
ولا أتصور أنَّ أحداً يُمكِنُهُ أن يُنِكرَ أنَّ أزمةَ الرسومِ على قدرِ ما فيها من مخاطر تعودُ على الوجود الإسلامي في الغرب بشكلٍ عام ، وعلى الدَّعوةِ والتعريف بالإسلام بشكلٍ خاص، إنَّها في ذات الوقت تحملُ معها من الفرص الشيءَ الكثير، ويكفي أنَّها جلبت أنظار الغربيين قبل المسلمين إلى ضرورة التعرّف على هذا النبي الكريم الذي ثار الملايين من أتباعه لأجله وصرخوا بأعلى أصواتهم إنَّهُ نبي الرحمة إلى العالمين .
المقصود أنَّ معرفة هذه الفرص ومعرفة كيفيَّة الاستفادة منها في الدعوة والتعريف بالإسلام هو جوهر ما سَمَّيناهُ بإدارة أزمة الرسوم .
3- إنَّ علماء الاجتماع يقولون إنَّ الأزمة دائماً تتوسط المراحل الهامّة في حياة الشعوب ، فبيْن كل مرحلةٍ ومرحلةٍ جديدةٍ ثَمّةَ أزمة تُحَرِّكُ الأذهانَ والعقول وتُحَفِّزُ الإبداعَ والعطاء وتُمَهِّدُ السبيلَ إلى مرحلةٍ جديدة أكثر حيويةً وعطاء ، وعليه فإنَّ أزمة الرسوم ( وهي تُمَثِّلُ النموذج الصارخ لمصادمة عقائد المسلمين على الساحة الأوروبية والعالمية ) قد حركت العقول والأذهان ، وحفزت الإبداع ومهدت لمرحلة جديدة للدعوة والتعريف بالإسلام ليس فقط على الساحة الأوروبية بل على الساحة العالمية أجمع .
وما مؤتمرات النصرة للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤسسات الكثيرة التي انبثقت عنها وما تضمنتها من أفكار جديدة ورؤى إبداعية ومشاريع مستقبلية إلا بداية هذه المرحلة الجديدة التي تولدت بعد أزمة الرسوم المتكررة .
وهذه المرحلة تحتاج إلى تفكير عميق في كيفية إدارتها وإلا فأنها ستكون من الفرص الضائعة والنعم المبددة .
خامساً : الإطار العام لأزمة الرسوم مقدمة لإدارتها .
إذا أردنا أن نُحسِنَ التعامل مع أزمة الرسوم بشكل جيّد فعلينا أن نَضَعَها في إطارها الصحيح ، وهذا يُحَتِّمُ علينا أن نتعرَّف إلى هذا الإطار وأن نُحَدِّدَ معالِمَهُ بشكلٍ علمي صحيح .
فالرسومُ المُسيئةُ هي تعبيرٌ عن صورةٍ ذهنيَّةٍ في أعماقِ عُقولِ أصحابها وهذه الصورة الذهنية قطعاً ليست هي الصورةُ الحقيقيَّةُ عن الإسلام وعن نبي الإسلام -صلى الله عليه وسلم- وما فعلُ الرسوم إلا نتيجةً لتراكماتٍ في أذهانِ وعُقولِ مَن وقفوا وراءَها ، وهم كذلك من يقفون وراء كل تعبير يُظهر الصورة المشوهة عن الإسلام في عقولهم سواء كان هذا التعبير رسماً، أم قصةً ، أم فناً وثقافةً ، أم غيرها ، فما هو إلا إبراز للصورة المشوهة في أذهان هؤلاء إلى واقع الوجود .
وعليه فإنَّنا يجب أن نتعرف على مصادر المفاهيم المغلوطة في أذهان هؤلاء لنعالجها معالجة المصدر المسبب لهذه الأمراض والسلوكيات قبل أن نعالج أثارها ومظاهرها، ولعلَّنا نذكر بشكل سريع ببعض مصادر هذه المفاهيم المشوهة والمغلوطة وهو تذكير ببعضها لأنها في تصوري كثيرة ومتنوعة فمن ذلك الأتي :
1- الأعمال التي تقدمها بعض جماعات الغلو والتطرف والخطاب الإعلامي الذي ترسله إلى عامة الغربيين والذي يبرز في أعمال التفجير والقتل بل وفي صور قطع الرؤوس والذبح ونحوها ما يعطي صورة مشوهة عن حقيقة الإسلام ورسالته، ولذا فإن هؤلاء يتحملون جزءً من المسؤولية عن ظاهرة العداء للإسلام في الغرب والإساءة إلى شعائره ونقد رسالته والاعتداء على مقام رسوله الكريم .
2- التشويه المُتَعَمَّد الذي يقوم به الإعلام الغربي والرسائل التي يرسلها لأَبناء المجتمعات الغربية عن تخلف المسلمين وتأخر الإسلام عن القيم التي يفخر بها الغرب من حقوق الإنسان وغيرها مع التشويه المتعمد لموقف الإسلام من قضايا الأسرة والمرأة والحدود ونحوها .
فإذا تبين لنا أنَّ أزمة الرسوم هي نتاج للصورة المشوهة في أذهان أصحابها عن الإسلام ونبي الإسلام أو أنها نتاج لحقد دفين يغذيه تاريخ من الصراعات الصليبية فإننا عندها إذا أردنا أن ننجح في إدارة أزمة الرسوم علينا أن نسعى للمصادر التي تنطلق منها ونعالجها أي أن العمل الأساسي في معالجة أزمة الرسوم ينبغي أن يتوجه إلى معالجة الصورة المشوهة في أذهان أصحابها وحماية بقية الأذهان على الساحة الغربية من هذا التشويه .
سادساً : مراحل التعامل مع أزمة الرسوم .
لفهم الكيفية العملية لإدارة أزمة الرسوم نحتاج إلى أن نرسم مساراً واضحاً للأزمة ونتعرف على موقعنا الحالي من هذا المسار لنحدد بعد ذلك الاحتياجات العملية للتعامل مع الأزمة في ظل الموقع الصحيح لوضعنا علي هذا المسار .
والمسار الذي سارت فيه أزمة الرسوم وما زالت تسير عليه يمر بهذه المراحل :
• المرحلة الأولى : مرحلة ما قبل الأزمة .
وهذه المرحلة قد مضت وانتهت والتعرف على خصائصها كان مفيداً لنا لو أنَّنا أردنا أن نُخَطِّط للأزمة قبل وقوعها حتى نتجنب أضرارها ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً .
وقد بدأت إرهاصات هذه المرحلة منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر ، عندما تزايدت ظاهرة العداء للإسلام { الإسلاموفويبا } وبدأت مظاهرها بالاعتداء على رموزه وشعائره، ولكن وللأسف لم تؤخذ هذه المظاهر مأخذ الجد حتى جاءت أزمة الرسوم فنبهت العالم الإسلامي إلى أن هناك وجوداً إسلامياً في أوروبا يتعرض للآثار السيئة لظاهرة العداء للإسلام.
المقصود أنَّ هذه المرحلة كان ينبغي أن تكون مرحلة استعداد وتخطيط للحد من أثار الرسوم المسيئة السيئة .
وأقرب مثال لمقصودنا لهذه المرحلة هو ما وقع في هولندا عندما استعد المسلمون في هولندا وأوروبا للتعامل مع أزمة الإهانة للمصحف الشريف من قبل المتعصب الهولندي فطرحت مشاريع وشكلت لجان عمل لتجنب الآثار السيئة لهذه الأزمة .
• المرحلة الثانية : مرحلة ظهور الأزمة .
وهي المرحلة التي بدأت عندما نشرت الرسوم المسيئة وتتابعت أثارها على الساحة الأوروبية إلى أن وصلت ذروتها عندما تم إعادة الرسوم في أكثر من صحيفة أوربية بحجة التضامن مع الرسام صاحب الرسوم المسيئة الذي زعمت الشرطة الدنماركية أنها أحبطت محاولة لاغتياله على يد بعض المسلمين .
وهذه المرحلة شهدت أحداثا كثيرة، القليل منها يمثل رداً منظماً وعملاً منهجياً، وكثير منها جاء بطريقة عفوية لا تمت للإدارة والتخطيط بصلة .
والذي يعنينا من هذه المرحلة هو كيفية الاستفادة القصوى من المشاريع التي برزت وتكونت أثناء الأزمة مع التعرف على كيفية تفعيلها ومراحعة كيفية إدارتها بما يتناسب مع حجم الإساءة للنبي -صلى الله عليه وسلم - .
• المرحلة الثالثة : مرحلة إدارة الأزمة .
وهذه المرحلة ينبغي أن تكون قد بدأت وإن لم تنضج معالمها بعد، فعلينا أن نتعاون جميعاً لتحقيق أفضل صورة لإدارة مثل هذه الأزمات، كما علينا أن نستثمر المشاريع والمؤسسات القائمة على أساس النصرة للنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم للخروج بخطة عمل واضحة ندعو خلالها لاجتماع الجهود بين علماء المسلمين وعلماء الإدارة وعلماء الاجتماع مع أصحاب الاختصاص من الدعاة والقائمين على المؤسسات والمراكز الإسلامية في الغرب لوضع معالم الإدارة الصحيحة لهذه الأزمة .
• المرحلة الرابعة : مرحلة ما بعد الأزمة .
وهي المرحلة التي ينبغي أن نقيم فيها طريقة الأداء أثاء الأزمة لنكتشف العناصر الإيجابية والعناصر السلبية التي اتسمت بها إدارتنا لهذه المرحلة .
وختاماً فهذه هي المراحل الأربعة التي تشكل المسار الذي تتحرك فيه أي أزمة والذي نريده من ذكرها أن نقف معها وقفة صادقة، فإن كان الأداء فيها جيداً فعلينا أن نستثمر ذلك أحسن استثمار، وإن كانت هناك إخفاقات فعلينا أن نحددها بكل وضوح لكي نتجنب الوقوع فيها عند حدوث أي أزمة في المستقبل نسأل الله السلامة والعافية .